🔶تخيّل أنك تقف أمام سؤالٍ واحدٍ يغيّر طريقة رؤيتك للحياة:
💠 إن كان ثَمّةُ رسالةٌ من الله، فبأي عقلٍ ومنهجٍ نتحقّق من صدقها؟
هذا البحث لا يعدك بإجاباتٍ جاهزة، بل بدعوةٍ إلى اختبارٍ رشيدٍ تعقده مع نفسك: أن تزن ما يُقال بميزان العقل والوجدان، وأن تقارن بين الادّعاءات كما يفعل العقلاء في أهم شؤونهم.
ببساطة وعمق: الخطاب الديني الحقّ ـ كما يتجلّى في القرآن ـ لا يراهن على الإثارة العابرة ولا على الغيب المنفصل عن البرهان؛ إنّه يخاطب العقل أولًا، ويرشد إلى سنن الكون والحياة، ويستثير الضمير الأخلاقي.
ثلاث دعائم يمشي عليها هذا الخطاب: عقلٌ يطلب الدليل، وحكمةٌ تفهم العلل والغايات، وأخلاقٌ تعقد العدلَ والصدقَ معيارًا للحكم على كل دعوى.
سنمضي معك في مسارين متلازمين:
نرسم ملامح الطريقة الرشيدة التي ينبغي لأي دينٍ أن يسلكها إذا أراد إقناع العقل الإنساني.
ثم نفحص ـ بهدوءٍ وصرامة ـ كيف يجري القرآن على هذه الطريقة في عرض العقيدة وتشريع السلوك ومحاورة المخالف.
إن كنت تبحث عن قراءةٍ تُنير لا تُثير، وتبني قناعةً لا انفعالًا، فهذه الرحلة كُتبت لك.
فهرس المحتويات
- تمهيد
- نماذج من آيات القرآن الكريم
- منهج البحث
- 1 ـ تحديد الطريقة الراشدة التي ينبغي أن يسلكها الدين للإقناع إذا كان حقاً
- أنواع الخطاب
- مميزات الخطاب العقلاني
- 2 ـ هل سلك الدين الطريقة الراشدة المفترضة للإقناع؟
- الاعتماد على دعامة العقلانية المعرفية العامة
- اعتماد الخطاب القرآني على دعامة الحكمة
- اعتماد الخطاب القرآني دعامة القيم الفاضلة
- إثارة وإجابة
العراق ـ النجف الأشرف – حي الكرامة
هاتف: 009647728220543
الهوية:
عنوان الإصدار : منهج الدين في إرشاد الإنسان
تأليف : آية الله السيد محمد باقر السيستاني
سنة الإصدار : 2025/1447 ـ رقم (75)
نوع الإصدار : إلكتروني ـ PDF
الناشر : مركز فجر عاشوراء الثقافي
الموقع : fajrashura.com
محاضرة ألقيت على جمع من طلبة الجامعات بتاريخ 30/ ج2/ 1440هـ في النجف الأشرف
الحمد لله ربِّ العالمين، وصلّى الله على جميع الأنبياء والمرسلين، لاسيّما (محمّد) خاتم النبيّين، وعلى آله الطيّبين الطاهرين.
يسرّني اللقاء بالإخوة الأعزة للحديث حول منهج الدين في إرشاد الإنسان.
***
تمهيد:
إنّ من الأولويات المعرفية التي ينبغي أن يهتم بها كل إنسان راشد في هذه الحياة هو التحقق الجادّ في شأن الدين، ونعني به مدى وجود رسالة من الإله يفصح فيها عن نفسه وخصائصه وعنايته بالإنسان، ويبيّن فيها أنّ الإنسان قد خُلق في هذه الحياة للتبصر
والسلوك الفاضل والحكيم لينال درجته وفق ذلك في نشأة أخرى.
ذلك أنّ الاهتمام المعرفي بالأشياء ـ وفق المنطق الفطري الذي جُهّز به الإنسان ـ ينبغي أن يكون وفق أهمية الأمور التي تتناولها المعرفة وخطورتها، ولا شك في أن الدين بالمعنى المتقدم أمر مهم وخطير للغاية، بل هو أخطر الأمور للإنسان، فأيُّ أمرٍ أخطر من أن تكون هذه الحياة بالنسبة للإنسان فرصة اختيار لحياة أخرى، وتكون كل خطوة للإنسان فيها مهما كانت صغيرة أو كبيرة مسجَّلةً على الإنسان ومؤثّرةً في تقييمه النهائي في نشأة أخرى.
وعليه فإنّ الإنسان إذا لم يراعِ الاهتمام المعرفي اللائق بخطورة الدين يتحمل مسؤولية أعماله إذا اتفق خطؤه في المسار الذي سار عليه، ولا يكون معذوراً وفق قواعد المنطق الفطري.
إذاً لا شك في أن الاهتمام المعرفي بالدين أمر ضروري ولازم.
إلا إنّ هناك سؤالاً يراود الإنسان في هذا السياق، وهو أنه كيف يتحقق الإنسان من صدق الدين وحقانيته، وما هو المنهج الذي يعتمده لأجل الوصول إلى هذا الغرض؟
وهذا السؤال ينحلّ إلى سؤالين:
أحدهما: أنه ما هو المنهج الذي ينبغي أن يعتمده الإنسان في التحقق من صدق الدين وحقانيته؟
والجواب عن هذا السؤال على الإجمال واضح، وهو أنّ هذا المنهج هو عين المنهج العقلاني الراشد الذي يعتمده العقلاء في التحقق من سائر المقاصد المنظورة والمهمة لهم، وليس هناك منهج معرفي خاص بالتحقق من الدين.
فالإنسان مزود في تكوينه بأدوات عقلانية ووجدانية يستطيع من خلالها التحقق من الأشياء، وهو يستخدم تلك الأدوات في اهتماماته المختلفة في هذه الحياة.
فالمفروض به أن يمارس التحقق الراشد في شأن الدين من خلال تلك الأدوات نفسها.
وثانيهما: أنه ما هو المنهج الذي سلكه الدين في خطابه في مقام دعوة الإنسان إلى تصديق الدين والإيمان به، فهل اتبع الدين المنهج الموضوعي الراشد في هذا السياق، أم ماذا؟
وهذا سؤال مهم للغاية؛ لأن المنهج الذي يعتمده المتكلم في إقناع المخاطَب من أهم مؤشرات تقييم الخطاب بالإيجاب أو السلب، فإذا كان الخطاب يعتمد على منهج راشد ومنطقي ويحاجج على أساس معقول ومنصف كان ذلك مؤشراً على صدق الخطاب، وإذا كان الخطاب يعتمد على إثارة الأحاسيس وإلهاب المشاعر والمجادلة بغير الحق كان ذلك موجباً للريبة في صدق الخطاب ومانعاً عن الثقة به.
والجواب عن هذا السؤال على الإجمال: أنّ الخطاب الديني الرسالي المتمثل في القرآن
الكريم وفق ما يظهر بدراسته والتأمل فيه جرى فعلاً على المنهج الموضوعي الراشد في مقام إقناع الإنسان ودعوته إلى الإيمان بالله سبحانه وبالرسالة، فهو خطاب موجّه إلى العقل وليس العاطفة، كما أنه يوصي دائماً بالتفكر والتدبر ويحث على اعتماد البرهان المقنع والحجة الوافية.
نماذج من آيات القرآن الكريم:
وقد أبان القرآن الكريم أنّ الغاية من الرسالات الإلهية إنارة الإنسان وإخراجه من ظلمات الوهم والخرافة حتى يكون على بصيرة تجاه الأسئلة الكبرى في الحياة: ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾(1).
وقال سبحانه: ﴿أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا
لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾(1).
وقد أصّل القرآن الكريم بشكل مؤكد تأصيلاً رائعاً للغاية، وهو ضرورة اتباع الإنسان البرهان والدليل فيما يذعن به، وعليه فلا بد من اختباره لصدق هذه الرسالة الجديدة ومضامينها، بالمقارنة مع العقائد السائدة المخالفة لها على أساس تحديد ما يوافق البرهان والدليل الموثوق، كما قال تعالى: ﴾يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا﴾(2)، وقال سبحانه: ﴿وَمَن يَدْعُ مَعَ اللّّٰهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ﴾(3).
وألفت القرآن الكريم الإنسان إلى أنّ النظرة الواعية إلى روائع الكون والمشاهد الكونية
واستنطاقها كفيل بالدلالة الواضحة على وجود الله سبحانه، كما قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾(1).
فهذه نماذج من المنهج القرآني في إرشاد الإنسان.
والمقصود في هذا البحث أن نوضح هذا الموضوع بتفصيل أكثر حسبما يسعه الوقت المحدد، ليكون عوناً للباحث على التبصر في شأن الدين.
منهج البحث:
وسوف نتحدث في الموضوع في ضمن بحثين ـ وفق السؤالين السابقين ـ:
فَنَصِف أولاً: الطريقة الرّاشدة ـ وفق المنظور العقلي الإنساني ـ التي ينبغي أن يسلكها الدين فيما لو كان حقاً لإقناع الفهم الإنساني العام بصدقه.
ثم نَبحَث ثانياً: عن أن الدين وفق مضامين الرسالة الإلهية (القرآن الكريم) هل سعى إلى أن يجري على تلك الطريقة الراشدة في مقام إقناع الإنسان.
1 ـ تحديد الطريقة الراشدة التي ينبغي أن يسلكها الدين للإقناع إذا كان حقاً:
أما في البحث الأول: فيلاحظ أن الطريقة الراشدة لإقناع الإنسان بصدق الدين وحقانيته هي الطريقة الوجدانية التي يسلكها عامة
العقلاء في إقناع الآخرين بالحقائق التعليمية والتربوية التي يصلون إليها.
وليس هناك طريقة خاصة لإقناع الناس بالدين.
أنواع الخطاب:
وتوضيح ذلك: أن الخطاب الموجّه إلى الغير قد يوجّه إليه لا بداعي إقناعه، بل بداعٍ آخر مثل الخصومة والتشنيع والمجادلة، فيستحلّ صاحب الخطاب حينئذٍ استعمال أيّة أداة توصله إلى الغلبة على الخصم حتى ما كان من قبيل القدح في الخصم والمغالطة في الموضوع.
وقد يوجه الخطاب إلى الآخر بداعي إقناعه، وهو يكون على نوعين:
النوع الأول: الخطاب العقلاني والحكيم والفاضل، وهو كلام يخاطب العقل ويعتمد في مقام الإقناع والمناقشة والنقد على تحريك
الوعي والفكر والتأمل الموضوعي والسنن الإنسانية الحكيمة للإقناع ويبتعد عن الميول والعواطف والانفعالات، ويتجنب الأدوات الخاطئة كالكذب والاتهام والمبالغة.
هذا ولا ينافي عقلانية الخطاب وابتعاده عن المؤثرات العاطفية المحضة أن يكون هذا النوع من الخطاب بليغاً، لأن البلاغة لا تعني بالضرورة المبالغة الكاذبة والتجميل الزائف، بل يجوز أن تكون بإبداء نقاط قوة الخطاب من خلال استخدام العناصر المعنوية الملائمة والمفردات المؤثرة بوقعها الصوتي واللغوي.
النوع الثاني: الخطاب غير العقلاني.
وهو خطاب يتوسل في إقناع الغير بأيّة أداة أو أسلوب يمكن أن يؤدي إلى ذلك، مثل أسلوب المغالطة، والمغالطة هي الاحتجاج بطرق مموّهة وخاطئة يتوقع المتكلم خفاء وجه الخطأ فيها على المخاطَب المقصود بالإقناع،
ومثله الأسلوب العاطفي، والمراد به أن يعتمد الخطاب على تأجيج العواطف والمشاعر وإثارة الغرائز والنزعات الخاصة، ومنه ما يعرف في اللغة المعاصرة بالخطاب الشعبوي والتعبوي.
مميزات الخطاب العقلاني:
ويبتني الخطاب العقلاني في أدواته ومضمونه على دعائم ثلاث:
الدعامة الأولى: العقلانية المعرفية والفكرية، وذلك بمخاطبة الكلام للعقل وانطلاقه من المعلومات والخبرات العقلانية العامة وتنمية روح التعقل والتفكير الموضوعي الراشد في الإنسان في اتجاه موضوع الخطاب والدعوة إلى العناصر المساعدة على رشد الفكر من قبيل التثبت والمقارنة والاستنطاق ونحوها، والحث على استبعاد العوامل النفسية العائقة عن الرشد مثل التأثر بالأهواء والتقاليد
والعصبيات والميول المسبقة ونحوها.
فالخطاب العقلاني هو الخطاب الذي تكون مدّعياته المعروضة في المساحة التي يمكن أن ينالها المخاطبون ـ ولو بالترشيد ـ مدعيات منيرة وراشدة يجد عليها المخاطب المتبصر ضياء العقل وعلامة الحقيقة، ويكون استدلاله على تلك المدعيات مبنياً على الأدوات الموضوعية الوجدانية التي تملأ نفس المتلقي ـ إذا كان ناصحاً لنفسه وطالباً للحقيقة ـ ثقةً وتوجب له قناعة راسخة وعميقة.
الدعامة الثانية: العقلانية الحكمية، وذلك بانطلاق الخطاب من روح الحكمة(1) ومخاطبة هذه الروح في الإنسان وإثارة التوجه الحِكَمي في داخله.
والحكمة هي الانتباه إلى السنن والحقائق المختلفة للحياة التي تجري عليها الحياة الإنسانية في المستوى الشخصي والاجتماعي والتاريخي والنفسي، وأخذ هذه السنن بنظر الاعتبار في التعليمات والوصايا التي تتضمنها الرسالة.
وعليه لا بد أن يكون الخطاب العقلاني خطاباً حكيماً سواءً في مضمونه بالمقدار الذي يمكن أن يناله المخاطبون أم في أدواته وأدبياته، بحيث يكون أسلوبه أسلوباً حكيماً في معالجة جوانب الشك والترديد والقلق والمكابرة من قبل المخاطبين وفق مقتضيات البلاغة التي هي كما عرفها علماؤها مطابقة الكلام في أدائه لمقتضى الحال.
الدعامة الثالثة: العقلانية الأخلاقية، برعاية الخطاب لمبادئ الضمير الأخلاقي وإثارة هذه المبادئ وتحفيزها داخل الإنسان، ليكون
الخطاب خطاباً أخلاقياً سواءً في مضمونه باعتماد المبادئ الأخلاقية كدستور ومرتكز للخطاب يذعن بها في موارد وضوحها ـ وهي المساحة التي ينالها الضمير الإنساني العام ـ ويتحراها عند التباسها، أو في الأدوات والأساليب التي يستخدمها بملاءمتها للأخلاق، مثل الصدق والثبات والتثبت والوفاء بالالتزام وسائر الأدوات الصحيحة الأخلاقية، وتجنب الممارسات الخاطئة كالكذب والتلوّن والخيانة والنفاق وسائر الوسائل الوضيعة والقذرة وعدم تبريرها وفق مقولة (أن الغاية تبرر الوسيلة).
فهذه العقلانيات الثلاث هي الدعائم المعتبرة في الطريقة الراشدة لإقناع الآخرين في مقام التعليم والتربية.
وهذه الدعائم الثلاث تمثل أنواعاً مختلفة ومتكاملة وضرورية من العقلانية.
فالأولى: عقلانية معرفية وثقافية، وهي الضرورة الأولى، لأن المعرفة الصائبة والثقافة الراشدة هي البنْية الأساسية الأولى لأي توجيه راشد.
والثانية: العقلانية الحِكَمية، وهي ضرب ضروري من العقلانية، فمن عقلانية الإنسان أن يراعي مقتضى الحكمة والانتظام والتناسق والملاءمة بين الأشياء والحوادث كلها.
والثالثة: العقلانية الأخلاقية، وهي أيضاً ضرب ضروري من العقلانية، فمن العقلانية رعاية القيم الفاضلة التي تستجيب للفطرة الإنسانية وتعطي سكينة وطمأنينة وقناعة عميقة لها.
هذا ولا بد من توفر هذه العقلانيات الثلاث في الخطاب في كل من أدوات الإقناع بالخطاب وفي مضمون الخطاب.
ففي أدوات الإقناع بالخطاب ينبغي رعاية ما يلي:
1 ـ اعتماد الإقناع على منطق عقلي موضوعي وراشد دون المثيرات الخطابية والأساليب النفسية الملتوية فيه.
2 ـ رعاية السنن الحكيمة في الإقناع الاجتماعي العام، بالنظر إلى مضاعفات الأدوات التي يتم استخدامها وتأثيرها القريب والبعيد في ذهنية المجتمع وأسلوب اقتناعه بالأفكار.
3 ـ مراعاة المبادئ الفاضلة في مقام الإقناع.
وأما مضمون الخطاب فهو الآخر لا بد من ابتنائه على هذه الدعائم الثلاث، لأنّ المرسِل للرسالة متى كان عاقلاً وحكيماً وفاضلاً فإنه لا بد أن تتمثل رعاية الرشد والحكمة والفضيلة في مضمون رسالته والتعاليم التي تشتمل عليها، بأن يكون مضمون الخطاب مضموناً منيراً وضّاءً يعلو عليه نور الحق ووقار الحكمة وصفاء الضمير، ويطالبهم فيما لا يسعهم العلم به بالإذعان بما يذكره بالأسلوب الأمثل.
والحال كذلك في شأن الإله، فإنه لا يليق بالإله إلا أن يتصف بهذه المعاني ويوصي بما يقتضيها في تعاليمه للإنسان.
فهذه هي الطريقة التي يسلكها العقلاء الراشدون في مقام إقناع الجمهور بالحقائق التي عليهم إدراكهاوالاعتبار بها، فيسلكها القادة المنصفون في مقام إقناع الجمهور بالصالح العام، ونجد مثلاً من ذلك في خطاب الإمام علي عليه السلام للجمهور في مقام إقناعهم بقراراته في الحرب والسلم وحدود حقوق الحاكم واستحقاقات الرعية، وإنصاف الناس فيما لهم وعليهم، كما يسلكها الآباء النابهون في إقناع الأولاد الراشدين بما تقتضيه مصلحتهم الشخصية والاجتماعية الحالية والمستقبلية من قرارات حكيمة وإرشادات ناضجة واستشهادات قريبة وتحذيرات صائبة.
2 ـ هل سلك الدين الطريقة الراشدة المفترضة للإقناع؟
والبحث الثاني: حول الطريقة التي سلكها الدين ـ أو قل رسالة الإله إلى الإنسان ـ في إرشاد الإنسان وإقناعه بهذه الرسالة الإلهية، فهل اعتمد الدين في ذلك على الطريقة الوجدانية الملائمة المتقدمة أو لا؟
والوجه في انقداح هذا السؤال أن الدين لا محالة سلك طريقاً في إقناع الإنسان، يتمثل في نصوصه وتاريخه، فما هي الطريقة التي اعتمد عليها الدين في إقناع الإنسان، وما هي الأدوات والأساليب التي استخدمها في هذا السبيل، وهل هي أساليب عقلانية ووجدانية؟
وقد سبق أن ذكرنا في الجواب عن هذا السؤال على الإجمال أن الباحث إذا لاحظ خطاب القرآن الكريم في مقام عرض أنباء الدين وتشريعاته ومناقشة الاعتقادات والعادات
السائدة فإنه يجد بوضوح أن هذا الخطاب عقلاني يعتمد التفكير الموضوعي ويعوّل على السنن الإنسانية الحكيمة للإقناع ويراعي القيم الفاضلة في الاحتجاج والإثبات، فهو يجري وفق طريقة وجدانية واضحة.
ولكن قد يطرأ التباس في هذا الموضوع، مما يستدعي زيادة توضيح وتفصيل هذا المعنى.
والالتباس الذي يطرأ في الموضوع يتمثل في الانطباع الذي يجري على أنّ الطريقة المعتمدة في إقناع الإنسان بالدين في الرسالات الإلهية ليست هي الطريقة الوجدانية التي نعهدها لدى العقلاء الراشدين في اهتماماتهم بإقناع الناس، بل هي مبنيّة على عرض أنباء غيبية وتشريعات تعبدية لن يدركها العقل الإنساني مقرونة بأمرين:
الأول: خوارق يعجز عنها الإنسان لتكون حجة على ارتباط الرسول بالإله الذي يملك القدرة الخارقة.
فإذا لاحظنا رسالة موسى عليه السلام ـ المتمثلة في التوراة ـ وجدناها تبتني على خوارق مثل جعل العصا حية وفلق البحر وضرب الأرض بالعصا فتنبثق منها اثنتا عشرة عيناً كما وصف ذلك كله في القرآن الكريم(1).
وإذا لاحظنا رسالة عيسى عليه السلام ـ المتمثلة في الإنجيل ـ وجدناها تبتني على أنه كان يخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله، ويبرئ الأكمه والأبرص، ويحيي الموتى بإذن الله، وينبئ الناس بما يأكلون وما يدّخرون في بيوتهم بإذن الله، كما وصف ذلك في القرآن الكريم(2).
وإذا لاحظنا رسالة نبي الإسلام صلى الله عليه وآله ـ المتمثلة في القرآن الكريم ـ فإننا نجد أنها تبتني على التحدي بالقرآن الكريم من جهة عجز العرب
عن الإتيان بمثله في نسقه وأدائه البلاغي، كما قال سبحانه: ﴿وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللّّٰهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾(1)، وقال تعالى: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّّٰهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾(2).
الثاني: الوعد والوعيد على الوجه الخارق، سواء الدنيوي منه كالوعد بالنصرة والوعيد بنزول عذاب مهلك من السماء، أو الأخروي منه كالوعد بالجنة والوعيد الشديد بالنار.
وعليه فليس هناك تعويل للدين في مقام الإقناع به على موافقة أنبائه للعقل ولا على موافقة تشريعاته لمقتضى الحكمة والضمير الأخلاقي الإنساني، وإنما كان التعويل على الخوارق حصراً.
فهذا هو الانطباع الذي قد يخطر في ذهن بعض الباحثين عن أسلوب الإقناع بالدين.
ولكن هذا الانطباع خاطئ، وينشأ من عدم تلقي الدين من منبعه الأساس وهو الخطاب القرآني الذي هو عين النص المرسل من قبل الإله، بل تُلقّي من خلال ملاحظة حال عامة الناس، حيث قد يتراءى بالنظر الأولي(1) فيها تلقّي الدين من قبل كثير منهم مجرّد أنباء غيبية وتشريعات تعبدية يجب الإيمان بها من جهة الخوارق القائمة عليها والوعد والوعيد عند موافقتها ومخالفتها.
وذلك لأننا عند نظرنا في النص القرآني فإننا نجد أن هذا النص يعتمد الطريقة الوجدانية لإقناع الإنسان بالدين بدعائمها الثلاث المتقدمة، فالمفاهيم المرتبطة بهذه الدعائم ـ من
التعقل والحكمة والأخلاق ـ قد ذُكرت في القرآن الكريم بشكل مؤكد ومتكرر للغاية، فهي بنية تعاليمه الاعتقادية والسلوكية، والمعنى الساري في مفاصل خطابه كلها كما سنوضح ذلك.
وأما الاعتماد على الخوارق ـ وأبرزها في الإسلام التميز البلاغي للقرآن الكريم ـ فإنه لم يكن استغناءً عن موافقة مضامين الدين وأدوات إقناعه مع مقتضيات العقل النابه والحكمة الرشيدة والضمير الحي، بل كان جزءاً ضرورياً في العديد من الحالات التاريخية في مقام إثبات ارتباط الرسول بالإله حقاً، حيث إن الإله هو مظهر القدرة الخارقة، وكان مكذبو الرسل يتحدّون الأنبياء بإثبات ارتباطهم بالإله بدليل ملموس ومادي(1)،
(1) كما جاء في القرآن الكريم عن فرعون عن موسى عليه السلام قوله تعالى: ﴿قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ * وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ﴾(سورة الأعراف:106ــ108)، وجاء عن قوم النبي صلى الله عليه وآله قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ * لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾(سورة الحجر:6ــ7).
فكان من الضروري إظهار هذه الحجة أمام جمهور الناس.
كما أن الوعد والوعيد الأخروي في الدين لم يكونا لغاية الإقناع، بل كان الأساس في ذكرهما أمران:
1 ـ بيان ما سُنّت عليه حياة الإنسان من جعل هذه الحياة فرصة اختبارية للإنسان يحل كل امرئٍ بعدها محله ويلقى ما يناسب عمله، وبيان أن نسبة عمل الإنسان إلى نتائجه غداً نسبة الزرع والحصاد، حيث إنّ الشيء القليل ينتج نتاجاً كثيراً نامياً، أو مثل نسبة الجراثيم إلى الأمراض، حيث إن الجرثومة الدقيقة تؤدي إلى عوارض مرضية مزمنة ومهلكة للإنسان.
2 ـ إنّ الإنسان لن يستغني في توجيهه إلى الاتجاه الحكيم والفاضل عن التشويق
والتحريض، وتلك سنّة من سنن الحياة العامة والمشهودة، ومن ثم نجد القوانين الموجهة للإنسان مدعومةً بالجزاء، فلا يصح تسوية المحسن بالمسيء، بل لا بد من تشويق المحسن دعماً للإحسان وتحذير المسيء دفعاً للإساءة.
وعليه فإن من شأن ما جاء في الخطاب القرآني من الوعد والوعيد ـ بجنب لغة العقلانية والرشد والحكمة والقيم الفاضلة ـ أن يبعث الإنسان على الجدّ في البحث والتأمل حول تلك الرسالة، ويشجّع على الاستجابة لهذه اللغة رغم مصاعب هذه المسيرة مثل اضطهاد المؤمنين من قبل المكذبين للرسالة، وأن يذيب العوائق النفسية التي كانت تحول دون الإيمان والتي لا يذيبها في كثيرٍ من الأحوال إلا الخوف المحقق والرجاء الأكيد.
ولنوضح القول في ذلك بالحديث عن مكانة كل من الدعائم الثلاث المتقدمة للخطاب الراشد في النص القرآني.
الاعتماد على دعامة العقلانية المعرفية العامة:
أما الدعامة الأولى: ـ وهي اعتماد العقلانية المعرفية العامة وتحفيزها في الإنسان ـ فهي الركن الأول الأساس الذي مثّل بنية الخطاب القرآني، حيث نلاحظ اعتماده في الإقناع بالرسالة على منطق عقلي وموضوعي راشد دون المثيرات الخطابية والمؤثرات النفسية الملتوية، ويطالب الإنسان بتحكيم الوجدان والعقل في شأن مضامين هذه الرسالة الإلهية الجديدة.
والنص القرآني يتصف بهذه الصفة بوضوح، فهو يحاجج بالعقل والبرهان والبيّنات، ويحفّز الإنسان على التفكير والتأمل والرشد، وينهى عن التأثر بأسلوب المجادلة والمغالطة والتأثير النفسي، كما مضى نماذج من احتجاجاته من قبل.
ويتمثل تحري العقلانية العامة في القرآن الكريم في تأكيده على عدّة أمور:
1 ـ حسن استماع الإنسان إلى الأقوال المختلفة في شأن المسائل المهمة والخطيرة واختباره لصدقها بعقله ليختار أحسنها: ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللّّٰهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾(1)، وهذه آية ملهمة ورائعة جداً، ومن هذا الباب عامة الآيات التي توصي المخاطبين بالإصغاء إلى صوت الرسالة الإلهية والإمعان فيه، مثل قوله: (أفلا يسمعون، لتصغى)، ومن جملة هذه الآيات ما ذمّت بعض المخاطبين على الإعراض والصمم عن سماع هذا الخطاب.
2 ـ اعتماد البرهان والبينات والحجج المنيرة في الاعتقاد الذي يرتضيه الإنسان لنفسه،
والآيات الواردة في ذلك كثيرة جداً(1)، وقد تقدم ذكر بعضها.
3 ـ ضرورة التأكيد على (التعقل) والتفكير للإنسان، كما جاء الحث عليه بألسنة متنوعة للغاية، من قبيل قوله: (أفلا يعقلون، أفلا يتفكرون، أفلا يتدبرون).
ومن جملة ذلك ما ورد من الحث على تأمل الحوادث ولوازمها، واستنطاق الأشياء والمقارنة بينها واستكناهها (أفلا ينظرون، ألا يرون، أفلا يبصرون).
4 ـ ضرورة تذكّر الإنسان للمعلومات التي أدركها، والتذكّر هو وعي الإنسان بما يجده ويعلمه واعتباره به، ويتكرر الحث على التذكر في القرآن الكريم بشكل مؤكد للغاية، كقوله (أفلا تذكرون، أفلا يتذكرون، فهل من مدّكر).
5 ـ ضرورة تجنب الإنسان المجادلة بالباطل (باصطناع الحجة وتكلف الشبهة): ﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا﴾(1).
وقد أُكّد على هذا الأصل حتى فيما كان الاحتجاج مع خصم عنيد، قال سبحانه يبيّن المنهج الملائم للمحاججة مع أهل الكتاب (وهم اليهود والنصارى) وهو المجادلة بالتي هي أحسن: ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾(2)، والمراد بالمجادلة بالتي هي أحسن: الانطلاق في الجدال من الحقيقة دون المغالطة أو التعصّب(3).
(3) فالآية توصي المسلمين أن يبيّنوا لأهل الكتاب في المجادلة معهم أنهم لا ينكرون أبداً حقانية أهل الكتاب في الإله الذي يعبدونه ولا يشككون في صدق الرسل السابقين والكتب المنزلة من قبل حق، فهم يعبدون الإله نفسه ويؤمنون بالأنبياء والكتب السابقة، لكن قد جاءهم رسول جديد مصدّق لمن قبله وكتبهم بحجج مقنعة برسالة جديدة من الله سبحانه، فلا محيص لهم من الإذعان به كما أذعنوا بالذين من قبله، إذ لا يحق التفريق بين الرسل في الدين، وهذا أسلوب من المجادلة (أي الاحتجاج) يبدو عليه الإنصاف وتحري الحق، وتقع في مقابله أساليب هي من الجدال بالباطل، كأن يقول المسلمون مثلاً إننا لا نؤمن بالإله الذي تؤمنون به لأنه يفضلكم (بني إسرائيل) علينا (نحن العرب)، ولا نثق بالرسل التي تؤمنون بهم والكتب التي تدّعون إرسالها إياهم، ولكننا نؤمن بالإله الذي أرسل لنا رسولنا والكتاب الذي بعثه إلينا، وفي هذا نحو مقابلة لعصبية أهل الكتاب ــ حيث كانوا يقولون إننا نؤمن بما أُنزل إلينا (لاحظ البقرة:91) ــ بعصبية مماثلة.
6 ـ التنبيه على عوائق الإدراك الموضوعي والوجداني الصافي من قبيل العصبية للآباء، وعدم الخضوع للحق بعد الاطلاع الأول عليه، وتغيير الموقف الصحيح لدواعٍ خاطئة، مما يؤدي إلى فقدان الحق قيمته ووقعه في وجدان الإنسان، والأعمال الآثمة التي تخدش الوجدان الإنساني الصافي، وتلهّي الإنسان بما مُتّع به من نعم الحياة، فهذه المعاني ونظائرها ذُكرت كثيراً في الآيات القرآنية الكريمة، كما قال تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللّّٰهُ وَإِلَى
الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ﴾(1)، وقال سبحانه: ﴿وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾(2)، وقال عز من قائل: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ﴾(3)، وقال جلت آلاؤه: ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾(4).
هذه نماذج من الوصايا القرآنية العامة في المنهج الذي يوصي به الدين للتأكد من حقانيته أو عدمها.
وإذا نظرنا إلى التطبيق العلمي لهذه المبادئ فإننا نجد تعويل القرآن الكريم فعلاً على هذه المبادئ العامة في إثبات الحقائق التي أنبأ عنها، وإبطال العقائد الشائعة في حينها، والإرشاد
إلى التشريعات الملائمة والحكيمة.
ومن أمثلة ذلك:
1 ـ إبطال ادعاء أهل الكتاب اختصاص الجنة غداً بهم بعدم امتلاكهم أيّ برهان على هذا الامتياز (الغريب) لهم عن سائر الأقوام والناس مع اشتراك الجميع في الإنسانية، قال تعالى: ﴿وَقَالُوا لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾(1).
2 ـ تفنيد دعوى ألوهية أشياء أخرى مع الله تعالى بعدم وجود أيّة حجة على ألوهيتهم، قال عزّ من قائل: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّّٰهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾(2)، وقال تعالى: ﴿وَمَن يَدْعُ مَعَ اللّّٰهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ﴾(3)، وقال عز وجل: ﴿أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ
ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللّّٰهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾(1).
3 ـ إبطال احتجاج بعض المشركين على مشروعية الشرك والتحريمات الخاطئة الرائجة عندهم بإذنه تعالى في ذلك، إذ لو شاء تعالى لمنع من ذلك بأنّ هذا الاحتجاج مجادلة بالباطل ولا يمثّل علماً ولا بصيرة، وإلا لصحّ كل باطل وخطيئة تقع في الحياة، لأنه تعالى لم يمنع منها! كما قال جلّ ذكره: ﴿سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللّّٰهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ﴾(2).
4 ـ انتقاد اعتقاد الكفار بألوهية بعض الأشياء تأثّراً بعقائد الآباء وتعصباً لهم من
غير حجة ولا برهان عليها: ﴿إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّّٰهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى﴾(1).
فالملاحظ من خلال هذه النماذج المستوى الموضوعي والعقلائي والمنصف في نقده للأفكار وتمحيصها والمفاضلة بينها.
فهذه نماذج من عشرات الموارد التي جاءت في القرآن الكريم.
وهكذا نلاحظ أن من نظر إلى القرآن الكريم وجد أن الخطاب القرآني خطاب وجداني مليء بالعقلانية ارتكازاً وإثارةً وتحفيزاً، بحيث يستطيع المرء تلمّس ذلك في مئات الآيات القرآنية بل الألوف منها.
فكل فكرة تتعلق بالإله أو الإنسان أو التشريع أو الكون أو سائر الكائنات معروضة في القرآن الكريم بلغة وجدانية وعقلانية.
اعتماد الخطاب القرآني على دعامة الحكمة:
وأما الدعامة الثانية: ـ للخطاب الراشد ـ وهي اعتماد الحكمة في اتجاه الخطاب وتوجيهه، فهي الركن الثاني للخطاب القرآني.
فالخطاب القرآني يحاجج وفق منهج حكيم ويتحرى الحكمة في أدواته وفي مضمونه اعتقاداً وتشريعاً.
أما في أدوات الإقناع: فهو يراعي السنن التي بني عليها وجود الإنسان ومن جملتها نزوعه بفطرته إلى رعاية الحكمة والاستجابة للكلام الحكيم، ومن ثم أكد على توصيف القرآن الكريم بـ(الحكيم)، قال سبحانه: ﴿تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ﴾(1).
كما أوصى بالحكمة في أسلوب دعوة الآخرين، قال تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ
بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾(1).
ويتمثل اهتمام القرآن الكريم برعاية الحكمة بأساليب مختلفة:
1 ـ الإشادة بالحكمة والحث عليها من خلال ذكرها ومشتقاتها وما يقاربها.
2 ـ أسلوب التعليل والتفسير للأشياء والظواهر والحوادث والتشريعات، وهو كثير جداً في القرآن الكريم، سواء كان من خلال أدوات التعليل الصريحة مثل اللام وكي، أو من خلال التوصيف والتعقيب الدال على العلّيّة.
3 ـ شرح العلاقة بين الأشياء والأمور بما يوضح تناسقها وانسجامها ونظمها.
وأما جريان الدين على أساس حكيم في
الاعتقاد: فهو بما جاء فيه من أنّ الله سبحانه حكيم، وتشمل حكمته جميع أفعاله سبحانه في إيجاد الكون والكائنات وفي خلق الإنسان والتعامل معه.
ففي شأن اتصاف الله سبحانه بالحكمة: فمن الواضح في الدين اتصاف الله تعالى بهذا الوصف، وهو ما يليق به، لأنّ صفات الإله من حيث العلم والقدرة والإحاطة ـ كما تتمثل في هذا الكون المادي ـ تستتبع الحكمة بطبيعة الحال، فالحكمة إنما هي نحو تمثّل لكمال العلم والعقلانية، قال تعالى يصف الإله بالحكمة ويشير إلى أن ذلك هو ما أدى إلى أن يكون مضمون الرسالة الإلهية مضموناً حكيماً: ﴿تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللّّٰهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾(1)، وقال جل ذكره: ﴿وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ﴾(2).
وفي شأن خلق الكون والكائنات جاء في الدين أنّ الله سبحانه خلق الكون لغاية معينة ينتهي إليها، ولم يخلقه لهواً ولا عبثاً، وتلك الغاية تتحقق وتتضح بوجود النشأة الأخرى، كما قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ﴾(1)، وخلق الإنسان خاصةً ليكون خليفته في هذا الكون المادي، فيعرف ما اشتمل عليه وينتفع به، ويجد شواهد وجوده سبحانه، ويعرف له حقه وإنعامه، كما قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾(2)، وقال سبحانه: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾(3)، وقال عز وجل: ﴿إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا * إِنَّا
هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾(1).
وخلق الكائنات حول الإنسان كلها على وجه مسخر للإنسان حتى تنتظم حياته من خلالها وينتفع بها، قال سبحانه: ﴿وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾(2)، وقال تعالى: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾(3).
على أنه قد خلق تعالى من الآفاق البعيدة للكون والسماء ما يعكس وجود غايات بعيدة للكون المادي، قال سبحانه: ﴿اللّّٰهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللّّٰهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللّّٰهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾(4).
وفي شأن كيفية تكوين الأشياء فقد خلق الله سبحانه كل شيء وفق محاسبة وتقدير، وسنّ سنن الكون المختلفة النفسية والاجتماعية والتاريخية على قواعد وأسس حكيمة ومتناسقة ومناسبة، وخلق الكائنات على مثال حكيم ومتناسب، كما قال تعالى: ﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ﴾(1)، وقال سبحانه: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾(2)، وقال عز وجل: ﴿قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾(3).
وفي مجال تقدير حوادث الحياة قد قدّر هذه الحوادث بما يلائم سنن خلقها وما يلائم طبيعة نشأة الحياة الدنيا من اقتران الخير بالشر والسراء بالضراء لاختبار الإنسان وملاحظة طبيعة استجابته للحوادث المختلفة، لتحدد درجته بحسبها، كما قال سبحانه: ﴿وَنَبْلُوكُم
بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ﴾(1)، وقال تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾(2)، وقال عز من قائل: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾(3)، وقال جلت آلاؤه: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ﴾(4).
هذا وقد راعى الله سبحانه في مجال الاستجابة للإنسان ـ حتى الأنبياء والمصطفين ـ فيما يسأله من حوائجه حدوداً ملائمة لسنن الكون وظواهر الحياة ومصالح النوع الإنساني والبيئة الاجتماعية وشخص الإنسان السائل، كما قال سبحانه: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللّّٰهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللّّٰهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللّّٰهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللّّٰهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا﴾(5).
وفي شأن خلق الإنسان وتعامل الإله معه:
جاء أن الإنسان كائن عاقل يدرك وجه الحكمة وخلافها، وقد كُلّف بأن يسير في اتجاه الحكمة حسب السنن التي سنّها الإله لوجوده ولما يكون حوله من الكائنات، فذلك هو السبيل السالك في الحياة والصراط المستقيم فيها.
قال سبحانه: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾(1).
وقال تعالى: ﴿أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾(2).
وقال عز من قائل: ﴿وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ﴾(3).
وفي شأن توجيه الإنسان فقد أرسل الله سبحانه رسالته إلى الإنسان لحكمةٍ، وهي إلفاته إلى آفاق الوجود كله وأبعاد الوجود الإنساني خاصة، وكانت غاية الرسالة حثّ
الإنسان على العلم والحكمة والأخلاق، وقد اختار رسلاً آتاهم الكتاب والحكمة، ليكونوا ملهمين للناس في هذا الاتجاه، كما قال تعالى: ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾(1).
وأما جريان الدين على أساس الحكمة في التشريع فقد جاء في الدين أن الله سبحانه راعى مقتضى الحكمة في طبيعة التشريع، فجعله وفق ما يلائم تكوين الإنسان النفسي والاجتماعي، وقدّره بحسب الصلاح النوعي العام في هذه الحياة وما بعدها، قال سبحانه يبيّن تحرّي التشريعات الإلهية للحكمة: ﴿ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ﴾(2)، وقال عز من قائل يبيّن أن الحياة مبنية على سنن حكيمة
مَن تعقّل وانتبه إليها واستثمرها ظفر بالخير الكثير: ﴿يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾(1)، وقال جلت آلاؤه يبيّن أن المضمون الكلي للرسالات والغاية الأساس لها هي الحكمة: ﴿وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللّّٰهَ وَأَطِيعُونِ﴾(2)، وفي ذلك يقول سبحانه أيضاً: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾(3).
وعليه فإنّ الحكمة وفق القرآن الكريم هي ملء كل شيء في هذا الوجود ابتداءً من الإله المتصدر للمشهد الكوني إلى الكائنات الروحانية غير المحسوسة إلى هذا الكون المادي
وما اشتمل عليه من سنن وكائنات مختلفة بما أعمله الله سبحانه من حكمة وتناسق في بنيتها وخلقتها.
اعتماد الخطاب القرآني دعامة القيم الفاضلة:
وأما الدعامة الثالثة: ـ للخطاب الراشد ـ فهي اعتماد القيم الفاضلة في المضمون وأدوات الإقناع، وهي ركن ثالث للخطاب القرآني.
فالخطاب القرآني يحاجج وفق منهج فاضل ويتحرى المبادئ الفاضلة في أدوات الإقناع وفي مضمون الرسالة التي جاء بها اعتقاداً وتشريعاً، فهو جارٍ على مقتضيات العدل وموجبات الصدق.
ومن ثم يؤكد على معاني العدل والصدق بشكل متكرر ومؤكَّد.
فمِن نصوص تحرّي العدل والتوصية به
قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللّّٰهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ﴾(1)، وقال سبحانه: ﴿فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللّّٰهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللّّٰهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللّّٰهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾(2)، وقال جلت آلاؤه: ﴿وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا﴾(3)، وقال جل ذكره: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾(4).
ومن نصوص مراعاة الصدق والتوصية به قوله عزّ من قائل: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا﴾(5)، وقال سبحانه: ﴿وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾(6).
وقال تعالى: ﴿وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا﴾(1)، وقال عز وجل: ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّّٰهِ حَدِيثًا﴾(2).
ويتبين حجم الاهتمام بالقيم الأخلاقية في الدين بذكر المفاهيم القيمية الإيجابية والسلبية لمئات المرات في الخطاب القرآني مثل مفهوم العدل والظلم، والقسط والجور، والمعروف والمنكر، والفحشاء والصلاح، والفساد، والحَسَن والسيّء، والإحسان والإساءة، والاعتداء، والمنّ، والأذى، والصبر، والحلم، والعفو، وكظم الغيظ، والمغفرة، والصدق والكذب، والقول بغير علم، والجحود، والكفر، والإذعان للحق (الإيمان) والنفاق، والرياء، والطيبة والخبث، والفجور، والشكر، والتكبر والتواضع، والطهارة وضدها،
والصلاة، والزكاة، والتقوى، والحق والباطل، والصواب والخطأ، والخطيئة، والطاعة والمعصية، والإنفاق والبخل، والشح، والإمساك، والقرض، وعشرات المفردات الأخرى.
وقد روعيت هذه المبادئ الأخلاقية في القرآن الكريم في أدوات الإقناع وفي مضمون الخطاب اعتقاداً وتشريعاً:
أما مراعاتها في أدوات الإقناع: فإننا نجد جريان القرآن الكريم على معاني الصدق والثبات والوفاء والابتعاد عن الأدوات الخاطئة كالكذب والازدواجية والتقلّب والتلوّن والمداهنة.
وهذا المعنى ملحوظ بسبر القرآن الكريم، ولا سيما إذا لوحظ وفق تاريخ النزول ابتداءً من سورة العلق والقلم حتى سورة التوبة والمائدة، فترى أن الخطاب القرآني ينطلق من مبادئ
معلنة وواضحة وثابتة بلا لفّ ولا تكتّم ولا تناقض ولا عدول، سواء في ظروف الاضطهاد والقهر الذي مرت بمكة إلى ظروف المدينة التي كانت مهددة بالغزو من القرى المحيطة حتى فتح مكة في السنة الثامنة للهجرة حتى ما بعدها عند استقرار الرسول صلى الله عليه وآله والمؤمنين حتى وفاة النبي صلى الله عليه وآله في السنة العاشرة للهجرة، ولو كان كذباً واصطناعاً لم يكن كذلك، كما قال تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّّٰهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾(1)، وقال سبحانه: ﴿فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ * وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ﴾(2).
وأما أهمية المبادئ الأخلاقية في العقيدة الدينية فلأنّ الضمير الأخلاقي وفق القرآن الكريم هو النظام العام الذي يجري عليه الإله وما دونه من الكائنات العاقلة والمختارة،
وليس أمراً يختص بالإنسان، وإنما هو في الأصل وصف الإله الذي أودع مثله من خلقه من الكائنات العاقلة والمختارة.
فالله سبحانه خالق الكون والكائنات متّصف بالضمير الأخلاقي، فهو يلتزم العدل، والمعروف، والوفاء، ويقول الحق، والصدق، ويتجنب الظلم، والمنكر، والباطل.
وهو تعالى يحب تعامل عباده معه بمقتضيات الاستحقاق والعدل، بما له من الحق عليهم بالخلق والإنعام، وذلك يقتضي بحثهم عنه وعنايتهم بمعرفته والإذعان به وتعاملهم معه بالأدب والتقدير والشكر.
كما أنه سبحانه يحب تعامل الخلق فيما بينهم بالعدل، ورعايتهم لما غرسه فيهم من حقوق وواجبات، ومراعاتهم لما جعله بينهم من وشائج وصلات.
وقد اهتم سبحانه بهدايتهم إليه من خلال
رسله بما يعينهم على ذلك، ويبين لهم أبعاد هذه الحياة والطريق السالك فيها، وكان ذلك أساس إيجاب الاعتقاد الراشد في الدين بالله سبحانه ورسله والدار الآخرة.
وأما دور المبادئ الأخلاقية في التشريع الإلهي: فالواقع أن هذه المبادئ تمثّل الدستور الأساس في الشريعة انطلاقاً من إيداعها في فطرة الإنسان، فقد خلق الله سبحانه الإنسان مزوداً بالضمير الأخلاقي مع حرية الاختيار التي تسمح له بالخروج عن حدود الأخلاق، وجعل ما اشتمل عليه الضمير القانون الذي يجب عليه العمل به والالتزام بحدوده، وشجع على الحسنة بالمكافأة عليها بل وزيادة التفضل على فاعلها، وزجر عن السيئة بالوعيد بالمجازاة عليها.
هذا توصيف اعتماد القرآن الكريم على العقلانية الوجدانية العامة بأنواعها الثلاثة في مخاطبته للإنسان.
والواقع أن هذه الصفة للخطاب القرآني هي التي تجعل منه خطاباً وجدانياً يؤثر في النفس الإنسانية تأثيراً كبيراً وتلامسه عند تلاوته بإمعانٍ وإصغاء، لأن الإنسان زُوّد في فطرته بتذوق (العقلانية المعرفية والحكمة والأخلاق) وتأثّره في قناعاته بها، وقد بلغ القرآن الكريم غاية عليا في ذلك، مع أداء رائع باختيار المفردات الملائمة والترتيب المتناسق والجميل.
فالقرآن الكريم يتميز بميزتين: ميزة في صبغته من حيث الطابع الوجداني بعناصره الثلاثة، وميزة في بلاغته بانتقاء اللفظ المناسب للمعنى، وانتخاب المعنى الملائم في المكان المناسب.
مثلاً: إذا لاحظنا آية البسملة التي ابتدأت بها سورة الحمد وكذلك سائر السور القرآنية نجد أن هذه الآية تبدأ بسم الله دون أي شريك له في
الألوهية، وفي ذلك ما يشير إلى فكرة التوحيد الموافقة للعقلانية، وتذكر الله بوصف الرحمة، وهذا الوصف يشير إلى الضمير الأخلاقي للإله بنظرته إلى الإنسان نظرة الرحمة والرأفة والإشفاق، ورحمة الإله بالإنسان أمر موافق للحكمة من حيث أنها عنصر ضروري في التعليم والتربية للإنسان كضرورة صفة الرحمة في الوالدين في تعليم الأولاد وتربيتهم.
وأما المزية البلاغية في الآية فهي من حيث روعة فكرة ابتداء السورة بسم الله الواحد الأحد، ولطف اختيار ذكر الرحمة على وجه مؤكد في وصف الإله في افتتاح السورة، من حيث أثره الإيجابي في إثارة روح الرجاء والأمل في الإنسان.
فهذه حيثيات حافة بالكلام ولو على وجه الإيحاء والإشعار، ويتلقاها الإنسان عند تلاوة النص ولو على نحو ارتكازي إجمالي، لا سيما
مع أنسه بسائر النصوص القرآنية التي تطرح هذه المعاني بشكل صريح وواضح، فإن بعض الكلام يؤثر في تلقي البعض الآخر مع وحدة مبانيه ووحدة نَفَس صاحبه.
إثارة وإجابة:
وقد يقول قائل: إن من الطبيعي في كل خطاب أن يدعي العقلانية والحكمة والأخلاق لإقناع المخاطبين حتى لو سلك مسالك الجدال والخطابة في اتجاهه، كما جاء في القرآن الكريم عن فرعون، قال تعالى: ﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ﴾(1)، وقال سبحانه: ﴿قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾(2).
وهذا القول في أصله صحيح، إلا أننا مع ذلك نميز الخطاب الذي يتجمل بادعاء العقلانية والرشد ويسعى في واقعه إلى إخماد روح العقلانية في المخاطبين من خلال المجادلة والمكابرة والمثيرات الخطابية، ويتجاهل المؤشرات الموضوعية، وبين الخطاب الذي ينطلق من العقلانية ويتنفس بها ويحفّز روح العقلانية والتفكير في المخاطب ويطالبه بأن يزن الكلام بميزان العقل والحكمة، كما يميز الإنسان المعاصر النابه في الخطابات السياسية الداخلية والدولية بين الخطاب الذي يتجمل بعناوين مثل (حقوق الإنسان، والعدالة الاجتماعية، ومكافحة الفساد) ونحو ذلك، وبين الخطاب الحريص على هذه المبادئ حقاً.
فلو تأملت كلمات الإمام علي عليه السلام في نهج البلاغة ـ مثلاً ـ سواء في احتجاجاته على مخالفيه أو وصاياه لولاته على الأمصار أو نصائحه
العامة للناس لوجدت أنه من قبيل الحالة الثانية، فهي خطابات وجدانية تتبنّى العقلانية والحكمة والعدالة تبنياً عميقاً ومؤكداً وتنطلق منها.
وهكذا الحال في القرآن الكريم، فهو في احتجاجاته ينطلق من العقلانية والعدل والحكمة انطلاقاً عميقاً ومؤكداً.
وإنما اقتفى الإمام علي عليه السلام في خطبه المنهج القرآني، كما يظهر بمقارنة دقيقة بينها وبين القرآن ـ كما لاحظت ذلك عياناً ـ.
وقد تمثّل هذا المنهج في جميع المفاصل التي سعى الدين إلى الإقناع بها، وهو ما قد نتحدث عنه بتفصيل أكثر في محاضرة أخرى إن شاء الله تعالى.
إنني في تجربتي الشخصية مع الدين تأثرت بعقلانية الخطاب القرآني تأثراً عميقاً، حيث وجدته خطاباً وجدانياً مقنعاً، يسوق مضامينه
سوقاً عقلانياً رائعاً، ويتحرى الحكمة والمبادئ الفاضلة بشكل مؤكد، وإنما اقتفيت في هذا البحث وسائر أبحاثي حول الدين أثر القرآن الكريم ومنهجه في الدعوة والإقناع.
ولنختم هذا الكلام بآيات قرآنية تذّكر بالدور المنير للرسالات الإلهية في شأن مَن آمن بها، وتحذّر من مغبة الإعراض عنها، قال تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا * وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾(1)، وقال سبحانه: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّّٰهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انفِصَامَ لَهَا وَاللّّٰهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾(2)، وقال عز من قائل: ﴿وَيَزِيدُ اللّّٰهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا
وَخَيْرٌ مَّرَدًّا﴾(1)، وقال جلت آلاؤه: ﴿سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَّا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ﴾(2).
والحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على سيّدنا محمّدٍ وآله الطاهرين.
تم بحمد الله
