الرئيسية / الإصدارات / الكراسات الكترونية / الواسطة بين المخلوق والخالق في كلام فاطمة الزهراء(ع)

الواسطة بين المخلوق والخالق في كلام فاطمة الزهراء(ع)

hussain_badri_2019
الكراس رقم : 77
عدد الصفحات:44
مؤشرات المضمون 📘
علمي 95%
ثقافي 75%
اجتماعي 65%
1
👁

إنّ من أعظم ما يكشف قيمة الإنسان كلامُه وفكرُه؛ فهما الميزان الذي يفضح المكنون، ويُظهر ما تخفيه الأعماق. وقد قال أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام): «إِنَّ الـمَرءَ مَخْبُوءٌ تَحْتَ لِسَانِهِ».
ومن معين الكلم وعبق الفكر تتألّق الخطبة الفدكية التي ألقتها سيّدة نساء العالمين فاطمة الزهراء (عليها السلام) في جمعٍ من المهاجرين والأنصار؛ خطبة اجتمعت فيها البلاغة والفصاحة والعلم، وكانت فرقانًا بين الحق والباطل، وكشفًا للقضية، وتحميلاً للمسؤولية، في كلماتٍ بديعة لا يُقال فيها إلا إنها: معجزة.

نحاول في هذا البحث المختصر ان نلقي الضوء على قولها الشريف : “فاحمدوا الله الذي بعظمته ونوره يبتغي من في السماوات والأرض إليه الوسيلة، ونحن وسيلته في خلقه…”

سنتتبع المعاني القرآنية والحديثية المخبوءة في النص، ونبرز ثرائه العقدي والتربوي، لنستشعر روح الوحي ولسان النبوّة في أبهى صوره.

صفحة 1
cover image
صفحة 2

العراق ـ النجف الأشرف – حي الكرامة
هاتف: 009647728220543

الهوية:

عنوان لإصدار: الواسطة بين المخلوق والخالق في كلام سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراءعليها السلام

تأليف : الدكتور السيد حسين البدري

سنة الإصدار : 2025/1447 ـ رقم (76)

نوع الإصدار: إلكتروني ـ PDF

الناشر: مركز فجر عاشوراء الثقافي

صفحة 3
صفحة 4

المقدمة

إنّ الإنسان لا يُعرَف بحجمه أو مظهره، ولا بماله أو جاهه، بل يُعرَف بعقله الذي يُترجَم عبر كلماته؛ فالكلام مرآة الفكر، واللسان هو الباب الذي يُفصح عمّا تخفيه النفس من حكمة أو جهل. ولهذا قال أمير المؤمنين وسيد الوصيين عليّ بن أبي طالب عليه السلام: «إِنَّ الـمَرءَ مَخْبُوءٌ تَحْتَ لِسَانِهِ»، أي إنّ سرّه وكنهه الحقيقي يبقى غير ظاهر حتى يتكلّم، فإذا نطق تبيّن جوهره ومعدنه، والمصدر الذي ينهل منه.

وهذه القاعدة الذهبية تتجلّى في كلمات مولاتنا الصدّيقة الطاهرة، ولاسيما في خطبتها الخالدة المعروفة بـ (الخطبة الفدكية)، وما أدراك ما هي! إنها من أبرز محطّات تجلّيات

صفحة 5

علم الزهراء عليها السلام، إذ اجتمعت فيها فنون القول والتعبير، وبلاغة الأسلوب، ودقّة المعاني، وروعة النظم، حتى أبهرت العقول قديماً وحديثاً. فهي سليلة النبوّة التي نهلت من معين الوحي، واحتوت جوهر العلم، وباحت به بلسانٍ فاطميٍّ معجزٍ لا يُجارى.

نحاول في هذا الكراس المختصر أن نسلّط الضوء على قولها الشريف في خطبتها الفدكية:

«فاحمدوا الله الذي بعظمته ونوره يبتغي من في السماوات والأرض إليه الوسيلة، ونحن وسيلته في خلقه، ونحن خاصّته ومحلّ قدسه، ونحن حجّته في غيبه، ونحن ورثة أنبيائه».(1)

وسنسعى للكشف عن معاني هذا النصّ الفاطمي البديع بالرجوع إلى القرآن الكريم


(1) الجوهري (ت323هـ)، احمد بن محمد بن عبد العزيز، السقيفة وفدك: ص98. وابن ابي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة: ج16 ص211-212. والبحراني، عبدالله، عوالم العلوم: ج11 ص894.

صفحة 6

والأحاديث الشريفة، لنقف على الثراء العقدي والمعرفي الكامن في كلماتها صلوات الله عليها النورانية، تلك التي تُجسّد الواسطة بين الخلق والخالق، وروح الوحي ولسان النبوّة.

وسنتناول هذا القول الفاطمي الشريف في ثلاثة محاور: توثيقه، ثم الكشف عن معانيه، ثم بيان بعض الدلالات التربوية .

صفحة 7

توثيق الخطبة

لقد وردت الخطبة الفدكية في مصادر عديدة عند الفرقين، بما يطمئن صدورها وصحتها.

نذكر بعض تلك المصادر:

1. أبو الفضل أحمد بن أبي طاهر (204 ـ 280 هـ) المعروف بابن طيفور. قال في كتاب (بلاغات النساء): ذكرت لأبي الحسين(1) زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب صلوات الله عليهم كلام فاطمة عليها السلام عند منع أبي بكر إيّاها فدك، وقلت له: إنّ هؤلاء يزعمون أنّه مصنوع وأنّه من كلام أبي العيناء


(1) يظهر ان ابي الحسين المسمى بزيد هو شخصية معاصرة لابن طيفور يرجع نسبه الى زيد وله خبرة فيما ينقله العلويين من اخبار آبائهم والدليل على ذلك انه يذكر أبو العيناء المتوفي سنة 280هـ. وربما اخفى ابن طيفور اسمه لخوف من السلطان او ما شابه او انه اسقطه النساخ فيما بعد. ويحتمل أن يكون المراد من أبي الحسين هو زيد الأصغر الذي هو من أصحاب الهادي، انظر تهذيب التهذيب: 30: 420 وإرشاد المفيد، ص332، ولاحظ تعليقة الشافي للسيد عبد الزهراء الحسيني الخطيب: 4: 76 والله اعلم.

صفحة 8

(ت283هـ)(1) (الخبر منسوق البلاغة على الكلام).(2) فقال لي: رأيت مشايخ آل أبي طالب يروونه عن آبائهم ويعلّمونه أبناءهم، وقد حدّثنيه أبي عن جدّي يبلغ به فاطمة عليها السلام على هذه الحكاية، ورواه مشايخ الشيعة وتدارسوه بينهم قبل أن يولد جدّ أبي العيناء، وقد حدّث به الحسن بن علوان عن عطية العوفي أنّه سمع عبد الله بن الحسن يذكره عن أبيه، ثمّ قال أبو الحسين: وكيف يذكر هذا من كلام فاطمة فينكرونه وهم يروون من كلام عائشة عند موت أبيها ما هو أعجب من كلام فاطمة يتحققونه لو لا عدواتهم لنا أهل البيت، ثمّ ذكر الحديث، قال: لما أجمع أبو بكر على


(1) ابو عبد الله محمد بن القاسم بن خلاد بن ياسر بن سليمان اليمامي الهاشمي البصري (191هـ/719م – 283هـ/896م) ولُقِّب بأبي العيناء. شاعر من العصر العباسي الأوَّل، عُرِف بالفصاحة والظرافة، وتُروَى عنه نوادر كثيرة.

(2) يعني انّ الطعن هو في نسبة هذا الكلام البليغ إلى فاطمة عليها السلام، أمّا نفس الواقعة وهي منع الإرث فهي صحيحة ومبثوثة في كتب التاريخ.

صفحة 9

منع فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وعليها فدك وبلغ ذلك فاطمة لاثت خمارها على رأسها، وأقبلت في لمة من حفدتها…(1)

أقول: حين يشير ابن طيفور إلى أن بعضهم زعم أنّ ما ورد من كلام فاطمة الزهراء عليها السلام إنما هو من وضع أبي العيناء (ت 283هـ)، فقد يُفهم من ظاهر هذه الإشارة ما يُعزّز جانب الشك في صحة نسبة الخطبة إليها. غير أنّ ابن طيفور لم يورد هذه الرواية لتأييد الشك، بل لردّه؛ إذ يذكر أنه سأل أبا الحسين وهو من احفاد زيد الشهيد Â، فأكّد له أنّ القول ثابت النسبة إلى جدّته الزهراء فاطمة صلوات الله عليها.

2. أبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري (المتوفّى 323هـ). حيث انه روى الخطبة برمتها في كتابه (السقفية)، وقد رواها عنه غير واحد


(1) ابن طيفور، بلاغات النساء: ص12، مكتبة بصيرتي قم المقدسة.

صفحة 10

من الأعلام كابن أبي الحديد في (شرح النهج)، والإربلي في (كشف الغمة).

3. الشريف المرتضى (355 ـ 436هـ). قال في مقام الرد على القاضي عبد الجبار مؤلف (المغني): روى أكثر الرواة الذين لا يتهمون بتشيّع ولا عصبية فيه من كلامها عليها السلام في تلك الحال، بعد انصرافها عن مقام المنازعة والمطالبة ما يدلّ على ما ذكرناه من سخطها وغضبها، ونحن نذكر من ذلك ما يستدلّ به على صحة قولنا، ثم ذكر سنده.(1)

4. الشيخ محمّد بن علي بن الحسين المعروف بالصدوق (306ـ381هـ). حيث ذكر في معاني الأخبار خطبة أُخرى يقرب مضمونها مع تلك الخطبة، رواها بسندين.(2)

5. محمّد بن الحسن الطوسي (385 ـ


(1) السيد المرتضى، الشافي في الإمامة: 4: 69 ـ 77.

(2) الصدوق، معاني الأخبار: 354.

صفحة 11

460هـ) المعروف بشيخ الطائفة حيث ذكر في أماليه خطبة أُخرى يقرب مضمونها مع تلك الخطبة باسناده عن الحفّار.(1)

6. ابن أبي الحديد (المتوفّى 655هـ) حيث رواها في (شرحه على نهج البلاغة) عن كتاب (السقيفة) لأبي بكر الجوهري قال: قال أبو بكر: فحدّثني محمّد بن زكريا قال: حدّثني جعفر بن محمّد بن عُمارة الكنديّ قال: حدثني أبي، عن الحسين بن صالح بن حيّ، قال: حدثني رجلان من بني هاشم، عن زينب بنت عليّ بن أبي طالب عليه السلام قال: وقال جعفر بن محمّد بن عليّ بن الحسين عن أبيه. قال أبو بكر: وحدّثني عثمان بن عمران العجيفيّ، عن نائل بن نجيح بن عمير بن شَمِر، عن جابر الجُعفيّ، عن أبي جعفر محمّد بن عليّ عليه السلام، قال أبو بكر: وحدثني أحمد بن محمّد بن يزيد، عن عبد الله بن محمّد


(1) الطوسي، الأمالي: 384، المجلس الثالث عشر.

صفحة 12

بن سليمان، عن أبيه، عن عبد الله بن حسن بن الحسن. قالوا جميعاً: لمّا بلغ فاطمة عليها السلام إجماعُ أبي بكر على منعها فَدَك، لاثتْ خِمارَها.(1)

7. أبو الحسن الإربلي (المتوفّى 693هـ) حيث رواها في كتابه (كشف الغمة) وقال: حيث انتهى بنا القول إلى هنا، فلنذكر خطبة فاطمة عليها السلام وقد أوردها الموالف والمخالف ونقلتُها من كتاب (السقيفة) تأليف أبي بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري من نسخة قديمة مقروءة على مؤلفها، وقرئت عليه في ربيع الآخر سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة، روى رجاله عن عدّة طرق انّ فاطمة.(2)

والمصادر كثيرة ربما يطول بنا المقام اقتصرنا على بعضها.


(1) ابن ابي الحديد، شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد: 16: 211.

(2) ابن فتح الإربلي، كشف الغمة في معرفة الأئمة ج2 ص108.

صفحة 13

الكشف عن المعاني

النور الإلهي:

قالت عليها السلام: «فاحمدوا الله الذي بعظمته ونوره… ».

النور هو الهدى الإلهي الذي يُخرِج القلوب من ظُلمات الجَهل والكفر إلى أنوار المعرفة والايمان.

﴿اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالأَرْضِ﴾.(1)

﴿… قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ 15 يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ  16﴾.(2)

﴿اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى


(1) النور: 35.

(2) المائدة: 15ـ16.

صفحة 14

النُّورِ ﴾.(1)

﴿وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ 40﴾.(2)

﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً 174﴾.(3)

والآيات في ذلك كثيرة.

الوسيلة:

قالت عليها السلام: «فاحمدوا الله الذي بعظمته ونوره يبتغي من في السماوات والأرض إليه الوسيلة، ونحن وسيلته في خلقه… »

الوسيلة: هي كل ما يُتقرّب به إلى الله تعالى طلبًا لرضاه ورحمته. ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ(4).

فالوصول إلى رحمته وما عنده تبارك وتعالى


(1) البقرة: 257.

(2) النور: 40.

(3) النساء: 174.

(4) المائدة: 35.

صفحة 15

من الفضل لا يكون إلا بـ (الابتغاء) والطلب والعمل والسعي الذي وراءه الاخلاص والصدق والنبل.

قال تعالى: ﴿وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّما عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ 95 ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ 96 مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ 97﴾.(1)

وأعظم الوسائل وأكملها هم أهل بيت النبوة عليهم السلام، فهم جسر الخلق إلى الخالق، وبهم تُستجلب الرحمة وتُرفع البلايا، وبدعائهم يُكشف الضرّ وتُفرَّج الكروب.

وببركتهم تُمسك السماء أن تقع على الأرض إلاّ بإذنه، وبأنوارهم يهتدي السَالكون، وعلى هديهم ينجو المخلصون، ومن أعرض عنهم


(1) النحل: 95ـ97.

صفحة 16

ضلّ في متاهات الجهالة وانحرف عن صراط الله المستقيم.

عن أبي جعفر محمّد بن عليّ بن الحسين عليهم السلام قال: «من دعا الله بنا أفلح ومن دعاه بغيرنا هلك واستهلك».(1)

وعن أبي عبد الله عليه السلام قال: «بلية الله عظيمة إن دعوناهم لم يجيبونا وإن تركناهم لم يهتدوا بغيرنا».(2)

وعن أبي جعفر الباقر عليه السلام: «بنا عُبد الله وبنا عُرف الله وبنا وُحِّد الله ومحمّد حجاب الله».(3)

قال العلامة المجلسي اعلى الله مقامه:


(1) عن أبي علي بن شيخ الطائفة عن أبيه عن المفيد عن محمّد بن عمر عن ابن عقدة عن يحيى بن زكريّا عن الحسين بن سفيان عن أبيه عن محمّد بن إسماعيل عن الثمالي، انظر: بشارة المصطفى: 97، وسائل الشيعة ج7 ص102 ـ 103.

(2) عن ابن سرور عن ابن عامر عن عمّه عن محمّد بن زياد الأزدي عن المفضّل، انظر: الأمالي: ص610. والمناقب لابن شهراشوب: 4/206، ومن لا يحضره الفقيه: 4/405، والإرشاد: 2/167 ـ 168، وكشف الغمّة: 2/128، وبحار الأنوار: 26/253.

(3) عن عبد الله بن جعفر عن محمّد بن عليّ عن الحسين بن سعيد عن عليّ بن الصلت عن الحكم وإسماعيل، انظر: بصائر الدرجات: 64، الكافي: 1/145، بحار الأنوار: 102/23.

صفحة 17

«أي كما أنّ الحجاب متوسّط بين المحجوب والمحجوب عليه كذلك هو صلى الله عليه وآله واسطة بين الله وبين خلقه».(1)

وعن الامام العسكري عليه السلام: «إنّ الله عزّ وجلّ بمنّه ورحمته لمّا فرض عليكم الفرائض لم يفرض عليكم لحاجة منه إليه بل رحمة منه إليكم ـ لا إله إلاّ هو ـ ليميز الخبيث من الطيّب وليبتلي ما في صُدوركم وليمحّص ما في قُلوبكم ولتتسابقوا إلى رحمته ولتتفاضل منازلكم في جنّته،

ففرض عليكم الحجّ والعمرة وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والصوم والولاية، وجعل لكم باباً لتفتحوا به أبواب الفرائض ومفتاحاً إلى سبيله ولولا محمّدصلى الله عليه وآله والأوصياء من بعده كنتم حيارى كالبهائم لا تعرفون فرضاً من الفرائض، وهل يُدخل قرية إلاّ من بابها.


(1) بحار الأنوار: 102/23.

صفحة 18

فلمّا منَّ الله عزّ وجلّ عليكم بإقامة الأولياء بعد نبيّكم قال الله عزّ وجلّ: ﴿اليومَ أكملتُ لكُم دينَكُم واَتممْتُ عليْكُم نِعمتي وَرَضيتُ لَكُم الإسلامَ ديناًوفرض عليكم لأوليائه حقوقاً أمركم بأدائها ليحلّ لكم ما وراء ظهوركم من أزواجكم وأموالكم ومأكلكم ومشربكم، ويعرّفكم بذلك البركة والنماء والثروة، وليعلم من يطيعه منكم بالغيب.

وقال الله تبارك وتعالى: ﴿قُل لا اَسئلُكُم عليهِ أجراً إلاّ المَودّةَ في القُربى، فاعلموا إنّ من بخل فإنّما يبخل على نفسه إنّ الله هو الغنيّ وأنتم الفقراء ـ لا إله إلاّ هو ـ فاعملوا من بعد ما شئتم ﴿فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَ رَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ ﴿ثُمَّ تُرَدُّونَ إلى عالِمِ الْغَيْب وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَوالحمد لله ربّ العالمين».(1)


(1) عن الدقّاق عن الكليني عن عليّ بن محمّد عن إسحاق ابن إسماعيل النيسابوري إنّ العالم كتب إليه ـ يعني الحسن بن عليعليهما السلام، انظر: علل الشرائع: 1/249 ـ 250، وبحار الأنوار: 23/99 ـ 100.

صفحة 19

ونحن خاصّته:

قالت عليها السلام: «فاحمدوا الله الذي بعظمته ونوره يبتغي من في السماوات والأرض إليه الوسيلة، ونحن وسيلته في خلقه، ونحن خاصّته… »

أي اختصّنا من بين عباده بالكرامة والمنزلة.

والآيات والأحاديث في اختصاص اهل البيت صلوات الله عليهم بالكرامة والمنزلة كثيرة جدا لا يسعها هذا البحث المختصر.

وربما يجمع هذه الكرامة والمنزلة قوله تبارك وتعالى: ﴿قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى﴾.(1)

والضمير في (عليه) يرجع إلى الوحي الذي بلغه النبي صلى الله عليه وآله للناس والاستثناء في (الا) متصل وحقيقي والمعنى يكون: لا أسألكم على تبليغ الرسالة الإلهية شيئًا من الأجر إلا


(1) الشورى: 23.

صفحة 20

أن تودّوا قرابتي، لأنّ في مودّتهم دوام أثر هذا البلاغ وهو استمرار الهداية.

اما من هؤلاء القربى الذين يجب مودتهم؟

فهناك أحاديث كثيرة تُشخِّّص انهم علي وفاطمة والحسين والحسين صلوات الله عليهم.

وقبل ان نورد الاحاديث الشريفة يجب الإشارة إلى ان جملة من الآيات الكريمة تؤيد هذا المعنى، كآية المباهلة وآية التطهير وآيات سورة هل اتى وآية كمال الدين وتمام النعمة وغيرها.

اما الاحاديث:

فقد نقل (الحاكم الحسكاني) وهو من مشاهير علماء القرن الخامس الهجري في كتابه (شواهد التنزيل) عن سعيد بن جبير عن ابن عباس: «لمّا نزلت قل لا أسألكم عليه أجراً إلّا المودة في القربى، قالوا: يا رسول الله من

صفحة 21

هؤلاء القربى الذين أمرنا الله بمودتهم؟ قال: علي وفاطمة وولدهما»(1).

ورويت في الكتاب نفسه عدّة روايات اخرى بهذا المضمون بطرق مختلفة عن ابن عباس(2).

وفي رواية اخرى في الكتاب نفسه يروي عن أبي امامة الباهلي أنّ النبي صلى الله عليه وآله قال:

«إنّ الله خلق الأنبياء من أشجار شتى، وخلقت وعلي من شجرة واحدة، فأنا أصلها وعلي فرعها، وفاطمة لقاحها والحسن والحسين ثمارها وأشياعنا أوراقها فمن تعلق بغصن من أغصانها نجا ومن زاغ هوى، ولو أنّ عبداً عبد الله بين الصفا والمروة ألف عام، ثم ألف عام، ثم ألف عام، حتى يصير كالشنّ اليابس، ثم لم يدرك محبتنا أكبّه الله على منخريه في النار. ثم قرأ: ﴿قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ


(1) الحاكم الحسكاني، شواهد التنزيل: ج 2، ص 130.

(2) الحاكم الحسكاني، شواهد التنزيل: ص 131- 135.

صفحة 22

الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى»(1).

ويروي (السيوطي) المفسر السنّي الشهير في الدر المنثور في ذيل آية البحث عن مجاهد عن ابن عباس أنّ النبي صلى الله عليه وآله قال في تفسير الآية: ﴿قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً– أن تحفظوني في أهل بيتي وتودوهم بي»(2).

ويروي (أحمد بن حنبل) في (فضائل الصحابة) عن سعيد بن جبير: لما نزلت آية ﴿قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى﴾، سأل القوم رسول الله صلى الله عليه وآله: من هم قرباك الذين وجبت مودتهم علينا؟ قال: «علي وفاطمة وابناهما وقالها ثلاثاً»(3).

ونقل المعنى نفسه القرطبي في تفسير الآية بشيء من الاختلاف عن سعيد بن جبير عن ابن عباس.


(1) الحاكم الحسكاني، شواهد التنزيل: ص 141.

(2) السيوطي، الدر المنثور: ج 6، ص 7.

(3) حامد حسين اللكنوي، احقاق الحق: ج3، ص2.

صفحة 23

ويروي الحافظ أبو نعيم الاصفهاني في حلية الأولياء عن جابر: أنّ أعرابياً جاء لرسول الله صلى الله عليه وآله وقال: يا محمد أعرض عليّ الإسلام، فقال: «تشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له وأنّ محمداً عبده ورسوله، قال تسألني عليه أجراً؟ قال: لا، إلّا المودة في القربى، قال: قرباي أو قرباك؟ قال: قرباي، قال: هات ابايعك، فعلى من لا يحبّك ولا يحب قرباك لعنة الله، قال صلى الله عليه وآله: آمين»(1).

ويروي ابن جرير الطبري في ذيل هذه الآية عن ابن جبير أنّه قال: «هي قربى رسول الله (صلى الله عليه وآله)».

ويروي الحاكم في مستدرك الصحيحين عن علي بن الحسين عليه السلام لمّا قتل علي عليه السلام خطب الحسن بن علي عليه السلام: «وممّا قاله في خطبته أنّه عرف نفسه حتى بلغ هذه العبارة: إنا من


(1) أبو نعيم، حلية الأولياء: ج3، ص201.

صفحة 24

أهل البيت الذين افترض الله مودتهم على كل مسلم فقال تبارك تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله: ﴿قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى»(1).

ويروي الطبري في تفسيره عن أبي الديلم: «لما جيء بعلي بن الحسين (عليه السلام) أسيراً إلى الشام فاوقفوه عند باب دمشق، فقام رجل من أهل الشام وقال: الحمد لله الذي قتلكم واستأصلكم وقطع قرني الفتنة، فقال له علي بن الحسين (عليه السلام): أَقرأت القرآن يا شيخ؟ قال: نعم، فقال (عليه السلام) أقرات حم؟ قال: قرأتٌ القرآن ولكن لم أقرء آل حم، قال عليه السلام أما قرأت: ﴿قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى، فقال: وإنّكم لأنتم هم؟ قال عليه السلام: نعم! »(2).

نقل الزمخشري في الكشاف، وكذا الفخر


(1) الحاكم النيسابوري، مستدرك الصحيحين: ج 3، ص 172.

(2) الطبري، جامع البيان: ج25، ص 16.

صفحة 25

الرازي في التفسير الكبير، والقرطبي في تفسيره حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وآله في ذيل هذه الآية الكريمة تكشف عن أهميّة مودة آل محمد صلى الله عليه وآله بنحو مدهش، ونحن هنا ننقل نصّ الحديث عن تفسير الكشاف، إذ يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: «مَنْ مات على حب آل محمّد مات شهيداً- ألا ومَنْ مات على حب آل محمّد (صلى الله عليه وآله) مات مغفوراً له، ألا ومَنْ مات على حبّ آل محمّدٍ مات تائباً، أَلا ومَنْ مات على حبّ آل محمّد (صلى الله عليه وآله) مات مؤمناً مستكمل الإيمان، ألا وَمَنْ مات على حب آل محمّد (صلى الله عليه وآله) بشّرهُ مَلَك الموت بالجنّة ثم مُنكر ونكير، ألا وَمَنْ مات على حب آل محمّد (صلى الله عليه وآله) يزف إلى الجنّة كما تُزف العروس إلى بيت زوجها، ألا ومَنْ مات على حب آل محمّد (صلى الله عليه وآله) فُتح له في قبره بابان إلى الجنّة، ألا ومَنْ مات على حب آل محمّد (صلى الله عليه وآله) جعل الله

صفحة 26

قبره مزار ملائكة الرحمة، ألا ومَنْ مات على حب آل محمّد (صلى الله عليه وآله) مات على السنّة والجماعة، ألا ومَنْ مات على بغض آل محمّد (صلى الله عليه وآله) جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه آيس من رحمة الله، ألا ومَنْ مات على بغض آل محمّد (صلى الله عليه وآله) مات كافراً، ألا ومَنْ مات على بغض آل محمّد لم يشم رائحة الجنة».(1)

ويقول الشافعي المعروف باعتقاده الراسخ بأهل البيت عليهم السلام:

يا راكباً قف بالُمحصب من منى

واهتف بساكن خيفها والناهض

سَحراً إذا فاض الحجيج إلى مِنى

فيضاً كَمُلْتَطَمِ الفرات الفائضِ

إن كان رفضاً حبُّ آل محمّدٍ

فليشهد الثقلان انّي رافضي (2)


(1) تفسير الكشاف: ج 4 ص 220 و 221؛ تفسير الكبير: ج 27 ص 165 و 166؛ تفسير القرطبي: ج 8 ص 5843.

(2) تفسير الكبير: ج 27 ص 166؛ و تفسير روح المعاني: ج 25 ص 32.

صفحة 27

ومحلّ قُدسه:

قالت عليها السلام: «فاحمدوا الله الذي بعظمته ونوره يبتغي من في السماوات والأرض إليه الوسيلة، ونحن وسيلته في خلقه، ونحن خاصّته ومحلّ قدسه… »

أي محلّ تقديسه سبحانه وتنزيهه عمّا لا يليق به من الصّفات. ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ﴾.(1)

ولولاهم صلوات الله عليهم ما عرف من يطلب الحق ربَّه ولا عَبد الله ولا استقام ايمانَه.

عن ابي عبد اللّه عليه السلام يقول‌: «نَحْنُ وُلاَةُ أَمْرِ اَللهِ وَخَزَنَةُ عِلْمِ اَللهِ وَعَيْبَةُ وَحْيِ اَللهِ وَ أَهْلُ دِينِ اَللهِ وَعَلَيْنَا نَزَلَ كِتَابُ اَللهِ‌ وَبِنَا عُبِدَ اَللهُ وَلَوْلاَنَا مَا عُرِفَ اَللهُ وَنَحْنُ وَرَثَةُ نَبِيِّ اَللهِ‌ وَعِتْرَتُهُ‌».(2)

يقول العلامة المجلسي: قوله و بنا عبد الله أي نحن علمنا الناس طريق عبادة الله أو نحن


(1) آل عمران: 191.

(2) أحمد بن موسى عن الحسن بن موسى الخشّاب‌ عن عليّ بن حسّان عن عبد الرّحمن بن كثير، انظر: الصفار، بصائر الدرجات: ١٩.

صفحة 28

عبدنا الله حق عبادته بحسب الإمكان أو بولايتنا عبد الله فإنها أعظم العبادات أو بولايتنا صحت العبادات فإنها من أعظم شرائطها قوله و لولانا ما عرف الله أي لم يعرفه غيرنا أو نحن عرفناه الناس أو بجلالتنا و علمنا و فضلنا عرفوا جلالة قدر الله و عظم شأنه.(1)

وجاء في الزيارة الجامعة الصغيرة: «السَّلَامُ عَلَى الدُّعَاةِ إِلَى الله، السَّلَامُ عَلَى الْمُسْتَقِرِّينَ فِي مَرْضَاةِ الله، السَّلَامُ عَلَى الْمُمَحَّصِينَ‌(2) فِي طَاعَةِ الله، السَّلَامُ عَلَى الْأَدِلَّاءِ عَلَى الله، السَّلَامُ عَلَى الَّذِينَ مَنْ وَالَاهُمْ فَقَدْ وَالَى الله، وَ مَنْ عَادَاهُمْ فَقَدْ عَادَى الله، وَ مَنْ عَرَفَهُمْ فَقَدْ عَرَفَ الله، وَ مَنْ جَهِلَهُمْ فَقَدْ جَهِلَ الله».(3)


(1) المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج26 ص 246.

(2) في الوافي عن بعض النسخ والفقيه وكامل الزيارات ص ٣١٥ والعيون: «المخلصين». و في الوافي أيضاً عن بعض النسخ و المقنعة: «الممحّضين». والتمحيص: الابتلاء والاختبار و التخليص. راجع: الصحاح، ج ٣، ص ١٠٥٦ (محص).

(3) الكلیني محمد بن يعقوب. الكافي (دارالحدیث): ج9 ص 319.

صفحة 29

ونحن حُجّته في غيبه:

قالت عليها السلام: «فاحمدوا الله الذي بعظمته ونوره يبتغي من في السماوات والأرض إليه الوسيلة، ونحن وسيلته في خلقه، ونحن خاصّته ومحلّ قدسه، ونحن حجّته في غيبه…»

أي إنّه سبحانه يحتجّ على عباده في أوامره ونواهيه وأحكامه يوم القيامة. ﴿لِلهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ(1). وحجته هم محمد وآل محمد صلوات الله عليهم أجميعن، فهم أمناء الوحي وهم الذين كلفهم تبارك وتعالى بتعليم الناس والشهادة عليهم: ﴿وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ 78(2).


(1) الأنعام: 149.

(2) الحج: 78.

صفحة 30

لذا قال رسول الله صلى الله عليه وآله: «إني تارك فيكم ما ان تمسّكتم به لن تضلوا بعد، احدهما اعظم من الآخر، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض، فانظروا كيف تخلفون فيهما».(1)

ونحن ورثة أنبيائه:

قالت عليها السلام: «فاحمدوا الله الذي بعظمته ونوره يبتغي من في السماوات والأرض إليه الوسيلة، ونحن وسيلته في خلقه، ونحن خاصّته ومحلّ قدسه، ونحن حجّته في غيبه، ونحن ورثة أنبيائه»

(أ): أمّا كونهم عليهم السلام ورثة الأنبياء في علومهم فعن


(1) أخرجه الترمذي في سننه: ج5 ص 395، بسنده عن زيد بن ارقم. والحديث صحيح متواتر ورد عن اكثر من خمس وثلاثين من الصحابة باسانيد كثيرة لا يشك فيه احد من اهل العلم. يراجع في ذلك كتاب قرة العين بحديث الثقلين للشيخ زكريا بركات اليمني.

صفحة 31

أبي جعفر عليه السلام قال: «إنّ عليّ بن أبي طالب عليه السلام كان هبة الله لمحمّد صلى الله عليه وآله وَرَث علم الأوصياء وعلم من كان قبله أمّا أنّ محمّداً  صلى الله عليه وآله وَرَث علم من كان قبله من الأنبياء والمرسلين».(1)

وعن أبي الحسن الرضا عليه السلام: «إنّا أهل بيت يتوارث أصاغرنا عن أكابرنا حذوا القذّة بالقذّة».(2)

وعن أبي جعفر عليه السلام قال: «إنّ لله علماً عامّاً وعلماً خاصّاً، فأمّا الخاصّ فالذي لم يطّلع عليه ملك مقرّب أو نبيّ مرسل، وأمّا علمه العامّ الذي اطّلعت عليه الملائكة المقرّبون وأنبياؤه المرسلون فقد وقع ذلك كلّه إلينا، ثمّ قال: أما تقرؤن ﴿وعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَ يُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَ يَعْلَمُ ما


(1) عن بن عيسى عن عليّ بن الحكم عن عبد الله بن بكير الهجري. انظر: بحار الأنوار: 17/146 والكافي: 1/224، والاختصاص: 279، وبصائر الدرجات: 294.

(2) عن أحمد وعبد الله ابنا محمّد بن عيسى عن معمر بن خلاّد، انظر: الكافي: 1/321، الاختصاص: 279، الإرشاد: 2/276، بصائر الدرجات: 296، كشف الغمّة 2/351، بحار الأنوار: 26/180. والقذّة بالقذّة يضرب مثلا للشيئين يستويان ولا يتفاوتان.

صفحة 32

فِي الأَرْحامِ وَ ما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَ ما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْض تَمُوتُ»(1)

وعن أبي عبد الله عليه السلام قال: «إنّ لله علمين: علم مكنون مخزون لا يعلمه إلاّ هو من ذلك يكون البدآء، وعلم علّمه ملائكته ورسله وأنبياءه ونحن نعلمه».(2)

وعن أبي جعفر عليه السلام قال سمعته يقول: «إنّ لله علمين: علم مبذول وعلم مكفوف، فأمّا العلم المبذول فإنّه ليس من شيء يعلمه الملائكة والرّسل إلاّ ونحن نعلمه، وأمّا المكفوف فهو الذي عنده في أمّ الكتاب إذا خرج نفذ».(3) والأخبار عن المعصومين كثيرة في هذا المعنى.


(1) عن محمّد بن عبد الحميد وأبو طالب جميعاً عن حنّان بن سدير، انظر: بصائر الدرجات: 110، بحار الأنوار 26/163.

(2) عن أحمد بن محمّد عن ابن أبي عمير أو عمّن رواه عن ابن أبي عمير عن جعفر بن عثمان عن سماعة عن أبي بصير ووهيب عن أبي بصير، انظر: الكافي: 1/147، بصائر الدرجات: 109، بحار الأنوار: 40/109 ـ 110.

(3) عن محمّد بن إسماعيل عن عليّ بن الحكم عن ضريس، بصائر الدرجات: 109، بحار الأنوار 26/163 ـ 164.

صفحة 33

(ب): وأمّا كونهمعليهم السلام ورثة الأنبياء في آثارهم فقد ورد فيه أخبار كثيرة:

عن أبي عبد الله عليه السلام قال سمعته يقول: «ألواح موسى عندنا وعصا موسى عندنا ونحن ورثنا النبي صلى الله عليه وآله».(1)

وعن أبي جعفر عليه السلام: «ألم تسمع قول رسول الله صلى الله عليه وآله في علىّ عليه السلام: والله لتؤتينّ خاتم سليمان، والله لتؤتينّ عصا موسى».(2)

وأيضا عن أبي جعفر عليه السلام قال: «خرج أمير المؤمنينعليه السلامذات ليلة على أصحابه بعد عتمة وهم في الرحبة وهو يقول: همهمة ليلة مظلمة خرج عليكم الإمام وعليه قميص آدم وفي يده خاتم سليمان وعصى موسى».(3)


(1) عن أبي محمّد عن عمران موسى بن جعفر عن أبي أسباط عن محمّد بن الفضيل عن الثمالي، انظر: بصائر الدرجات: 183، بحار الأنوار: 26/218.

(2) عن محمّد بن الحسين عن بن سنان عن عمّار بن مروان عن المنخّل عن جابر، انظر: بصائر الدرجات: 187 ـ 188، بحار الأنوار: 26/220.

(3) عن محمّد بن عبد الجبّار عن اللؤلؤي عن أبي الحصين الأسدي عن أبي بصير، انظر: بصائر الدرجات: 188، بحار الأنوار: 26/220.

صفحة 34

وعن محمّد بن علي عليهما السلام قال: «كان عصا موسى لآدم فصارت إلى شعيب ثمّ صارت إلى موسى بن عمران وإنّها لعندنا، وأنّ عهدي بها وهي خضراء كهيئتها حين انتزعت من شجرتها، وإنّها لتنطق إذا استنطقت، أعدّت لقائمناعليه السلام ليصنع بها كما صنع بها موسى، وإنّها لتروّع وتلقف ما يأفكون، وتصنع كما تؤمر، وإنّها حيث أقبلت تلقف ما يأفكون، تفتح لها شعبتان أحدهما في الأرض والأخرى في السقف وبينهما أربعون ذراعاً، وتلقف ما يأفكون بلسانها».(1)

وعن عامر بن خزاعة قال: «كنت عند أبي عبد اللهعليه السلام فقال: ألا أريك نعل رسول


(1) عن سلمة بن الخطّاب عن عبد الله بن محمّد عن منيع بن الحجّاج البصريّ عن مجاشع عن معلّى عن محمّد بن الفيض، انظر: الكافي: 1/231، كمال الدين: 2/673 ـ 674، بحار الأنوار: 26/219 ـ 220، قصص الأنبياء للجزائري: 225.

صفحة 35

الله(صلى الله عليه وآله ؟ قال: قلت بلى، قال: فدعا بقمطر ففتحه فأخرج منه نعلين كأنّما رفعت الأيدي عنهما تلك الساعة، فقال: هذه نعل رسول الله صلى الله عليه وآله، وكان يعجبني بهما كأنّما رفعت الأيدي عنهما تلك الساعة».(1)

وعن أبي جعفر عليه السلام قال: «قال أمير المؤمنين عليه السلام حين قتل عمر ناشدهم فقال: (نشدتكم بالله هل فيكم أحد ورث سلاح رسول اللهصلى الله عليه وآله [ورايته وخاتمه] غيري؟ قالوا: لا».(2)

وعن ابي عبد الله عليه السلام: «ترك رسول الله صلى الله عليه وآله من المتاع سيفاً ودرعاً وعنزة ورحلاً وبغلته الشهباء فورث ذلك كلّه عليّ بن أبي طالب عليه السلام».(3)


(1) عن أحمد بن محمّد عن عليّ بن الحكم عن إسماعيل ابن برّة، انظر: بصائر الدرجات: 182، بحار الأنوار: 26/219.

(2) عن أحمد بن محمّد بن الحسين عن الحسين بن أسد عن الحسين القمّي عن نعمان بن منذر عن عمرو بن شمر عن جابر، انظر: بصائر الدرجات: 182، بحار الأنوار: 26/219.

(3) عن أحمد بن محمّد عن الأهوازي عن النضير بن سويد عن يحيى الحلبي عن ابن مسكان عن أبي بصير، انظر: بصائر الدرجات: 186، بحار الأنوار: 26/211.

صفحة 36

الدلالات التَّربوية

إن كلمات السيدة الزهراء عليها السلام ليست مجرد خطاب تاريخي، بل هي إشراقات وتلألؤات لأنوار النبوة والإمامة، وهي مفاتيح لفهم جوهر الدين. لقد تجلّت في خطبتها الفدكية أبعاد العقيدة، ومراتب الولاية، ومقامات أهل البيت عليهم السلام وتأسيس الموقف من القضية، بصياغةٍ فاطميةٍ معجزة، لا تزال تنبض بالحياة وتُلهم الفكر وتحمِّل المسؤولية باوضح صورها.

وهنا بعد ان درسنا دلالات مقطع من الخطبة نجد دلالات تربوية عِدَّة:

1. إنّ كلمات سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء عليها السلام لا تُخاطب العقول فحسب، بل تُربّي النفوس وتُهذّب السلوك. فهي تُعلّمنا أن

صفحة 37

نكون أهل بصيرة لا انقياد أعمى، وأهل كلمة لا صمت خانع، وأهل ولاء لا أهل هوى.

﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللهَ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً 39(1)

2. ان حياتها سلام الله عليها لهي دروس في التربية على الصَّبر، والكرامة، والوَعي، والتصديق بكلمات الله تبارك وتعالى، وبحججه الطاهرين، والدفاع عن أصول الدين وفروعه فهي بتلك الدروس حُجَّة بالغة.

عن ابن عباس‌ عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال‌: «إِنَّ فَاطِمَةَ‌ شِجْنَةٌ مِنِّي يُؤْذِينِي مَا آذَاهَا وَيَسُرُّنِي مَا يَسُرُّهَا وَ إِنَّ اَللهَ تَبَارَكَ وَ تَعَالَى لَيَغْضَبُ لِغَضَبِ فَاطِمَةَ‌ وَ يَرْضَى لِرِضَاهَا صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيهَا».(2)


(1) الأحزاب: 39.

(2) أحمد بن الحسن القطان‌ قال حدثنا أحمد بن محمد بن سعيد الكوفي مولى بني هاشم‌ قال أخبرنا المنذر بن محمد قراءة قال حدثنا جعفر بن سليمان التميمي قال حدثنا إسماعيل بن مهران‌ عن عباية‌ ، انظر: الشیخ الصدوق، معاني الأخبار: ج2، ص 223.

صفحة 38

وقد قال تبارك وتعالى: ﴿لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً 21﴾.(1)

3. ان العلم والمعرفة ليس حِكرا على الرجال في الدين الاسلامي كما قد يتوهم، بل هو ميدان متاح للجنسين معا، فعن أبي عبد الله عليه السّلام‌ قال‌: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: «طَلَبُ اَلعِلمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسلِمٍ‌ أَلاَ إِنَّ اَللهَ يُحِبُّ بُغَاةَ اَلعِلمِ‌».(2)

فإن من جملة العلوم الخاصة التي ورثها الائمة عليهم السلام عن آبائهم هو علم أُمهم الزهراء سيدة نساء العالمين سلام الله عليها؛ الذي منه (مصحف فاطمة) إلى جنب الصحيفة الجامعة والجفر وغيره، قَالَ الصادق عليه السلام في حديث طويل: «وَ إِنَّ عِندَنَا لـَمُصحَفَ فَاطِمَةَ عليها السلاموَ


(1) الأحزاب: 21.

(2) الحر العاملي محمد بن حسن، وسائل الشیعة. ج 27 ص 26. مؤسسة آل البیت (علیهم السلام) لإحیاء التراث، 1416،

صفحة 39

ما يُدرِيهِم ما مُصحَفُ فاطِمَةَ عليها السلامقَالَ قُلتُ وَ مَا مُصحَفُ فَاطِمَةَ عليها السلام قَالَ مُصحَفٌ فِيهِ مِثلُ قُرآنِكُم هَذَا ثَلاَثَ مَرَّاتٍ وَ اَللهِ مَا فِيهِ مِن قُرآنِكُم حَرفٌ وَاحِدٌ ».(1)

4. كلُّ بيتٍ يريد أن يتألّقَ أبناؤه وبناته، ويزهو أهله في ميادين العلم والمعرفة والتربية، لا مفرَّ له من أن يزدانَ باسم سيّدة نساء العالمين فاطمةعليها السلام.

فإنّ هذا الاسمَ الشريفَ قد اقترنَ بالرُّسوخ في العلم، والسَّبق في التربية، والطُّهر في السيرة، والبيت الرفيع الذي أَذِنَ اللهُ أن تُرفعَ ويُذكَرَ فيها اسمُه، فقال تعالى: ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ 36 رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ37 لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ


(1) الكليني، الكافي: ج1 ص238.

صفحة 40

مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ38﴾.(1)

ومِن ذلك البيت الطاهر تفجَّرت أنوارُ الإمامة، وأُسوةُ الصمود والإباء، الحسنُ والحسينُ وزينبُ الكبرى عليهم السلام.

فإنّ أُمَّ هذا البيت هي الصدِّيقةُ الكبرى فاطمةُ الزهراءعليها السلام يقول الإمام الباقرعليه السلام:

«ولقد كانت عليها السلام مفروضةَ الطاعةِ على جميعِ مَن خلقَ اللهُ من الجنّ والإنس والطير والوحوش والأنبياء والملائكة».(2)

وذلك لما لها من المقام الرفيع، والمنزلة السامية، والأثر العميق في مسيرة الهداية الإلهية.

ولعظمة تلك الأسماء الطاهرة ومكانتها عند الله تعالى، جاءت الأحاديث الشريفة تُبيِّن بعض آثارها المباركة فيما لو وضعت على الأبناء والبنات. قال الإمام الصادق عليه السلام: «لا


(1) النور: 36–38.

(2) الطبري الشيعي، دلائل الإمامة ص 27.

صفحة 41

يدخل الفقرُ بيتًا فيه اسمُ محمد أو أحمد أو علي أو الحسن أو الحسين أو جعفر أو طالب أو عبد الله أو فاطمة من النساء».(1)

ويكشف هذا الحديثُ الشريف عن الارتباط الوثيق بين اسم فاطمة عليها السلام وبين نزول البركة الإلهية؛ ومن أبرز مصاديق هذه البركة: دفعُ الفقر، وجلبُ الرزق، والهدايةُ إلى الصلاح والفلاح.

وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنّه قال لفاطمة عليها السلام: «…شَقَ – الله – ‏لَكِ يَا فَاطِمَةُ اسْماً مِنْ أَسْمَائِهِ فَهُوَ الْفَاطِرُ وَأَنْتِ فَاطِمَة…».(2)

نسأل الله أن يرزقنا فَهم كلامها، والاقتداء بِنَهجها، والثَّبات على ولايتها، وأن يجعلنا من السَّائرين على صراطها المستقيم، إنه وليّ النِّعم وهادي من يشاء إلى الحق.


(1) ، الكليني، الكافي: ج6 ص19، باب الأسماء والكنى.

(2) الصدوق، معاني الأخبار:٥٦.

صفحة 42

وفي الختام لابد ان نَذْكر أننا استفدنا في بعض ما أوردناه من الروايات عن العلاّمة السيّد هادي الحسيني الصائغ رحمه الله المتوفّى 1377هـ في كتابه الدُّرّة البيضاء في شرح خطبة الزهراء عليها السلام.

***

تم بحمد الله

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

أحدث العناوين