فجر عاشوراء ـ التاريخ ـ والمستقبل

الكاتب: العلامة المحقق السيد سامي البدري

نشر هذا المقال في مجلة فجر عاشوراء الثقافي العدد 6 و 7

فجر عاشوراء التاريخ والمستقبل PDF

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَ الْفَجْرِ 1 وَ لَيالٍ عَشْرٍ 2 وَ الشَّفْعِ وَالْوَتْرِ 3 وَ اللَّيْلِ إِذا يَسْرِ 4  هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ 5﴾

تبوَّأ (فجر عاشوراء) في تاريخ البشرية مرات عديدة موقعا مفصليا في مسيرة الهدى والضلال يهمنا منها ثلاث هي:

الاولى: فجرعاشوراء آل ابراهيم  (ع) في ذي الحجة سنة 2180ق. م وقد كشف عن اعلى درجات التسليم لله تعالى من عباده الاصفياء، جاء الحدث فيها لتوضيح الموقف من الممارسة الخاطئة التي ابتكرها ائمة الضلالة وضعاف النفوس بتقديم اطفالهم وبناتهم قرابين للاصنام فقدم النموذج الفريد بشاب يستطيع ان يهرب من ابيه ومن يعرف بامره يعذره في الهرب ان اصر الاب على الامر ولكن التجربة الفريدة هي ان الوالد الذي اراه ربه في النوم كانه يذبح ولده وفهم منها انه تكليف الهي وطلب من ولده ان ينظر هل يستجيب ام يرفض وإذا رفض فلا سلطان له عليه، انها الممارسة العبادية الواعية، بخلاف عادة تقديم الآباء اطفالهم او بناتهم فانها ممارسة عبادية جاهلة لان الاطفال والبنات لا حول لهم ولا قوة ازاء ابائهم. ولم يُرد اللهُ تعالى ان يذبح الابُ ولدَه المطيع حقيقةً، بل كان اختبارا من الله تعالى لهما معا ليكشف عن اهليتهما للامامة الهادية وقيادة الناس الى الله تعالى، وفدى الله تعالى اسماعيلَ بكبشٍ عظيمٍ في اروع مشهد يكشف عن التدخل الالهي المحسوس ومنع تكوينيا من وقوع الذبح بمشهد كبش وحشي عظيم ينزل من اعلى الجبل يقصد التجمع البشري المحيط بابراهيم (ع) واسماعيل وينام الى جنب اسماعيل (ع) ليكون بدلا عنه، مشهد يقطع العذر على اي منافق يخطر بباله ان مشهد الذبح كان صوريا، وتحول مشهد الحزن بهذا التدخل الالهي الى السرور واعلنت امامة ابراهيم (ع) وامامة ولده اسماعيل (ع) والامة المسلمة من ذريته الابد الدهر ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ. . . (128) رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)﴾ البقرة/127-129، ثم رزق الله ابراهيم اسحاق نبيا ومن وراء اسحاق يعقوب (ع) ثم ال يعقوب يرثون الامامة المؤقتة انتهت بنبوة عيسى لتتواصل امامة الامة المسلمة في ذرية اسماعيل (ع) التي انتهت الى محمد (ص) واهل بيته (ع) ائمة ابد الدهر.

الثاني:  فجرعاشوراء آل محمد  (ص)  في محرم سنة 60هجرية وقد كشف عن اعلى درجات الثقة بوعد الله له بالفتح بعد الشهادة، كما في كتاب الحسين (ع) يوم العاشر الى بني هاشم «اما بعد فمن لحق بي منكم استشهد ومن تخلف لم يدرك الفتح»، لقد فتح الله تعالى على الحسين (ع) وحقق له كل اهداف نهضته بعد شهادته. كلف الله تعالى الحسين (ع) بواسطة جده النبي (ص) في رؤيا اراه الله تعالى اياها إذ أراه بني امية ينزون على منبره يبينون للناس دين محمدٍ (ص) مقلوبا، دينا مبنيا على ولاية بني امية وهي الشجرة الملعونة في القرآن/ ولعن علي (ع) /وهو امام الهدى بنص من الله ورسوله/، واسندوا ذلك الى النبي (ص) كذبا، وصدقت نبوءة علي (ع) فيهم:

«وإِنَّه سَيَأْتِي عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِي زَمَانٌ  لَيْسَ فِيه شَيْءٌ أَخْفَى مِنَ الْحَقِّ ولَا أَظْهَرَ مِنَ الْبَاطِلِ ولَا أَكْثَرَ مِنَ الْكَذِبِ عَلَى اللَّه ورَسُولِه وليس عند أهل ذلك الزمان أَنْفَقُ بَيْعاً ولَا أَغْلَى ثَمَناً مِنَ الْكِتَابِ إِذَا حُرِّفَ عَنْ مَوَاضِعِه، ولَا فِي الْبِلَادِ شَيْءٌ أَنْكَرَ مِنَ الْمَعْرُوفِ، ولَا أَعْرَفَ مِنَ الْمُنْكَرِ… فَلَمْ يَبْقَ عِنْدَهُمْ مِنْه إِلَّا اسْمُه ولَا يَعْرِفُونَ إِلَّا خَطَّه وزَبْرَه».

فكان تكليف الله تعالى للحسين (ع) بواسطة جده النبي (ص) هو القيام ضد بني امية حتى الشهادة «اخرج بقوم الى الشهادة لا شهادة لهم الا معك» قال تعالى ﴿فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ﴾ الأنعام/89. فكانت فجر عاشوراء آل محمد (ص) حزنا ابد الدهر وفتحا ابد الدهر ، لقد تم تحرير دين النبي من ضلالات بني امية لمن اراد ان يتدين بدين النبي، وتحررت الكوفة مركز مشروع علي في احياء السنة النبوية من سيطرة بني امية وتحطمت اصنامهم المعنوية فيها ورجعت تصدر للامة ولاية اهل البيت (ع) ولعن بني امية ابد الدهر.

الثالث: فجر عاشوراء ظهور المهدي (ع)  التاسع من ذرية الحسين (ع) الثاني عشر من اوصياء محمد (ص) ويكشف عن تحقق وعد الله بوراثة الارض لاصفيائه ودينهم، قال تعالى ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَْرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ﴾ الأنبياء/105 ﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَْرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً﴾ النور/55 وقال رسول الله (ص) : «لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطول الله ذلك اليوم حتى يبعث فيه رجلا من ولدى يواطئ اسمه اسمى يملاها عدلا وقسطا كما ملئت جورا وظلما». ان فجر عاشوراء ظهور المهدي (ع) هو فجرُ ايذانٍ بالحرب على ائمة الضلالة واهل الجور الراضين بقتل الحسين (ع) وشيعته، الحرب عليهم لكسر الطوق عن اهل الحق واجتثاث اهل الباطل من على وجه الارض وتخليص البشرية من ضلالتهم وجَوْرِهم. «اين الطالب بذحول الانبياء واولاد الانبياء، اين المعدُّ لقطع دابر الظلمة، اين المرتقبُ لازالة الامْت والعِوَج». وهو يوم سرور بالمهدي (ع) في جو من الحزن على الحسين (ع)[1].

وقد اشار الله تعالى الى الفجر الاول والليالي التي سبقته، و شفعه الموتور، وفجره الثالث يوم الظهور:

  • ففي قوله تعالى: ﴿والفجر وليال عشر﴾ اشارة الى الفجر الاول فجر آل ابراهيم (ع).
  • وفي قوله تعالى ﴿والشفع والوَتر﴾ هي الفجر الثاني فجر عاشوراء آل محمد (ص).
  • وقوله تعالى ﴿والليل اذا يسر﴾ اي والليل اذا ذهب، وهو الفجر الثالث فجر ظهور المهدي (ع) في مكة.

لقد اقترن فجر عاشوراء ال ابراهيم وفجر عاشوراء آل محمد (ص) بالعبادة الخاصة في الليالي العشر وكانت قمة العبادة ليلة العاشر فيهما معا لتعبئة النفس بالطاقة الروحية لمواجهة الحدث العظيم، وكذلك الفجر الثالث فجر عاشوراء ظهور المهدي سيقترن بالعبادة في الليالي العشر وقمتها ليلة العاشر لتعبئة النفس بالطاقة الروحية لمواجهة العالم اجمع مع المهدي (ع).

كانت ليلة عاشوراء فجر آل ابراهيم مشحونة بالعبادة لتعبئة ابراهيم واسماعيل وامه انفسهم لمواجهة الابتلاء العظيم، أَن يذبح الاب الشيخ الذي رزق الولد على كبر وقد تعلق به لصلاحه، وان يستجيب الولد الصالح في ريعان شبابه لامر الله فيسلم نفسه للذبح بيد والده الحنون ﴿ إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ﴾ الصافات/106 .

وكانت ليلة عاشوراء فجر آل محمد (ص) مشحونة بالعبادة /قراءة القرآن والدعاء والاستغفار والصلاة/ لتعبئة الحسين (ع) واهل بيته واصحابه والنساء لمواجهة حوادث الشهادة والصبر على بلاءٍ لا يقل عن بلاء ابراهيم واسماعيل بل هو اكثر ترويعا وإيلاما. «أوحى الله عز وجل إليه يا إبراهيم: من أحب خلقي إليك ؟ فقال: يا رب ما خلقت خلقا هو أحب إلي من حبيبك محمد صلى الله عليه وآله وسلم فأوحى الله إليه: أفهو أحب إليك أو نفسك ؟ قال: بل هو أحب إلي من نفسي، قال: فولده أحب إليك أم ولدك ؟ قال: بل ولده، قال: فذبح ولده ظلما على أيدي أعدائه أوجع لقلبك أو ذبح ولدك بيدك في طاعتي ؟. قال: يا رب، بل ذبحه على أيدي أعدائه أوجع لقلبي، قال: يا إبراهيم فإن طائفة تزعم أنها من أمة محمد صلى الله عليه وآله ستقتل الحسين ابنه من بعده ظلما وعدوانا كما يذبح الكبش ويستوجبون بذلك سخطي فجزع إبراهيم عليه السلام لذلك وتوجع قلبه وأقبل يبكي، فأوحى الله عز وجل إليه: يا إبراهيم قد فديت جزعك على ابنك إسماعيل لو ذبحته بيدك بجزعك على الحسين عليهما السلام وقتله، وأوجبت لك أرفع درجات أهل الثواب على المصائب».

وستكون ليلة ظهور المهدي (ع) ان شاء الله وهي ليست مجهولة من الشيعة في وقته لان الروايات اكدت ان السفياني حين يظهر ويعرف امرُه يكون امرُ المهدي معلوما عند الشيعة سرا، وان ظهوره سيكون يوم العاشر من المحرم يوم السبت فتكون ليلة العاشر تلك ليلة سهر وعبادة خاصة، اذ لهيب الشوق المضطرم في نفوس المنتظرين لرؤية الطلعة الرشيدة وسماع البيان الاول سوف يؤرقهم ولن يسمح لهم بالنوم فيها، لهيبُ شوقٍ يستدر الدموع بعد الدموع موصولا بالحزن والبكاء على الحسين (ع) حبيب رسول الله (ص) وحبيب المؤمنين.

وطال امتراء الشّوق عيني كلَّما      نزفت دموعا تستجدّ دموعُ

(امتراء معناه استدرار).

الا ينبغي للمؤمن بالحسين (ع) المحب له الحزين عليه ان يقتدي بالحسين(ع) فيحيي ليلة العاشر من المحرم بكثرة العبادة في جو الحزن على الحسين (ع)! فتقوى صلته مع الله في اطار ايمانه باهل بيت نبيه (ص) ووسيلته اليه.

الا ينبغي للمؤمن المنتظر المشتاق لطلعة امامه المهدي (ع) التاسع من ذرية الحسين (ع) ان يمرِّن نفسه على السهر والعبادة ليلة العاشر من المحرم ليكون لائقا بخدمته عند ظهوره (ع) صابرا على متطلبات صعوبة العيش معه في سنته الاولى «قال احد اصحاب الامام الصادق (ع) قلت: إنهم يقولون: إن المهدي لو قام لاستقامت له الأمور عفوا ولا يهرق محجمة دم فقال: كلا والذي نفسي بيده لو استقامت لأحد عفوا لاستقامت لرسول الله حين أدميت رباعيته وشج في وجهه، كلا والذي نفسي بيده حتى نمسح نحن وأنتم العرق والعلق ثم مسح جبهته» قوله نمسح العرق والعلق وهو الدم كناية عن عظيم الجهد.

ايها المؤمنون لقد عُرف عن الاخيار واهل العلم احياء ليلة العاشر بالعبادة في العتبات والمساجد والحسينيات والبيوت فرادى، فلم لا نحييها جماعات جماعات، كما نقيم المجالس والعزاء جماعات جماعات، ليس من شك ان مجالس ومواكب العزاء الحسيني سيؤول امرها ليلة العاشر الى مجالس عبادة كما كان الحسين (ع) واصحابه فيها بين تال للقرآن وقائم وراكع وساجدة وعند ذلك تتعبأ امة بالطاقة الروحية ليس لها نظير على وجه الارض امة تستحق ان تكون جيشا وشعبا لصاحب الامر في مشروعه العظيم.

صلى الله عليك يا ابا عبد الله، اللهم ارنا الطلعة الرشيدة لولده التاسع واجعلنا ممن تنتصر به لدينك انك سميع مجيب.

«أين المعدُّ لقطع دابر الظلمة، أين المنتظر لإقامة الأمتِ والعِوَج، أين المرتجى لإزالة الجور والعدوان، أين المؤمَّل لاحياء الكتاب وحدوده، أين محيي معالمَ الدين وأهلِه، أين قاصم شوكة المعتدين، أين هادم أبنية الشرك والنفاق. أين مبيد أهل الفسق والعصيان، أين حاصد فروع الغي والشقاق، أين معزُ الأولياء ومذلُّ الأعداء، أين جامع الكلمة على التقوى، أين باب الله الذي منه يؤتى. أين السبب المتصل بين الأرض والسماء، أين صاحب يوم الفتح وناشر راية الهدى، أين الطالب بذحول الأنبياء وأبناء الأنبياء، أين الطالب بدم المقتول بكربلاء». ■■

_________________

[1] روى الشيخ الطوسي في كتاب التهذيب عن ابن زرارة عن البزنطي عن أبان عن كثير النواء عن أبي جعفر عليه السّلام قال: “لزقت السفينة يوم عاشوراء على الجودي فأمر نوح عليه السّلام من معه من الجن والإنس أن يصوموا ذلك اليوم، وقال أبو جعفر عليه السّلام أتدرون ما هذا اليوم ؟هذا اليوم الذي تاب اللَّه فيه على آدم وحواء عليه السّلام، وهذا اليوم الذي فلق اللَّه فيه البحر لبني إسرائيل فأغرق فرعون ومن معه وهذا اليوم الذي غلب فيه موسى فرعون وهذا اليوم الذي ولد فيه إبراهيم عليه السّلام وهذا اليوم الذي تاب اللَّه فيه على قوم يونس عليه السّلام وهذا اليوم الذي ولد فيه عيسى بن مريم عليه السّلام وهذا اليوم الذي يقوم فيه القائم عليه السّلام”. وفي كتب الفقه تفصيل لمسالة الصوم في يوم عاشوراء.

وفي ضوء الرواية يتضح ان يوم عاشوراء يوم الحوادث المفصلية في تاريخ النبوات والبشر:

فجرعاشوراء الاول يوم توبة الله على ادم واصطفائه نبيا.
فجرعاشورء الثاني يوم قتل هابيل.
فجرعاشوراء الثالث يوم الاخذ بثار هابيل يوم استواء سفينة نوح على الجودي.
فجرعاشوراءالرابع يوم اقدام ابراهيم على ذبح ولده اسماعيل لرؤيا رآها ففداه الله بذبح عظيم.
فجرعاشوراء الخامس يوم ضرب موسى البحر بعصاه فانجى بني اسرائيل واغرق فرعون وجنوده.
فجرعاشوراء السادس يوم ولادة عيسى (ع).
فجرعاشوراء السابع يوم عاشوراء ال محمد (ص) .
فجرعاشوراء الثامن يوم عاشوراء المهدي ابن الحسين للاخذ بثارالحسين (ع).
عدد الزوار: 503

معلومات الاصدار

الناشر: مركز فجر عاشوراء الثقافي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *