دعوة مستجابة

الكاتب : الشيخ علاء السعيدي

نشر هذا المقال في مجلة فجر عاشوراء العدد 6 و 7

هنالك رجل توجه إلى الكعبة حاجًّا، فتعلق بأستار الكعبة، ودعا الله أن يهب له علمًا لم يسبقه أحد إليه.

ثم عاد إلى وطنه، فاعتزل الناس في كوخ بسيط من خشب الأشجار، كان يقضي فيه الساعات الطويلة يقرأ كل ما جمعه من أشعار العرب، ويرتبها حسب أنغامها، ويضع كل مجموعة متشابهة في قرطاس منفرد..

ذلك الرجل هو الخليل..

من هو الخليل؟

هو أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد بن عمرو بن تميم الفَرَاهِيديُّ، ويقال: الفُرْهودِي، الأزدي. والفراهيدي نسبة إلى فراهيد، وهي بطن من الأزد. والفرهود: ولد الأسد بلغة أزد شَنُوءة، وقيل: إن الفراهيد صغار الغنم.[1]

كان مولده في العام المتم مائة من الهجرة (100هـ) في زمن الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز. ولا يُعلم على وجه التحديد أين كان مولده، وإن كان بعضهم يقول إنه ولد بمدينة عُمان، وعاش في البصرة.[2]

ان الحديث عن هذا العالم الجليل يثير في النفس مشاعر العبقرية الفريدة من نوعها، ولقد شغل الخليل نفسه بعلوم اللغة العربية وتراكبيها وأوزانها واستنبط لنفسه وسائله وادواته الخاصة شأن كل صانع ماهر وعالم يعتكف على تطوير ادوات العمل التي بين يديه حتى تستجيب لتطلعاته العلمية المتشوقة الى الاستنباط والوصول الى النتائج الافضل للبحث الطويل المتعمق…

ولعل كثيرا من الناس لا يعرفون من أعمال الخليل سوى عملين اشتهر بهما أيما شهرة وذاع صيته في الأفاق تأسيسا على قدرته الابداعية الفذة التي بدت معالمها في العملين كليهما أكثر من أعماله الأخرى التي لا تقل أهميةً ولكن طالت يد الحدثان منها الكثير.. الا وهما (كتاب العين، وعلم العروض)

أدرك الخليل بفطرته السليمة أن الإسلام دين شامل لكل جوانب الحياة، فاجتهد في طلب العلم وأخلص في طلبه؛ فكان غيورًا على اللغة العربية (لغة القرآن الكريم)؛ مما دفعه إلى العمل على وضع قواعد مضبوطة للغة في كتاب اسماه (كتاب العين)

ما هو كتاب العين؟

العين هو أول معجم في العربية، وقد أنجزه الخليل في زمن لم تكن أذهان الدارسين ممهدة لتقبل مثله،فجمع كلمات اللغة العربية بطريقة قائمة على الترتيب الصوتي

فبدأ بالأصوات التي تُنْطَق من الحَلْق وانتهى بالأصوات التي تنطق من الشفتين، وهذا الترتيب هو (ع ـ ح ـ هـ ـ خ ـ غ) بدلا من (أ ـ ب ـ ت ـ ث ـ ج)، وسمَّاه معجم العين باسم أول حرف في أبجديته الصوتية من باب تسمية الكل باسم الجزء.. مات ولم يتمم كتاب “العين” ولا هذبه، ولكن العلماء يغرفون من بحره.

ومما حكاه عنه تلميذه النضر بن شميل حيث قال: «أقام الخليل في خُصٍّ من أخصاص البصرة، لا يقدرُ على فَلْسَيْنِ، وأصحابه يكسبون بعلمه الأموال[3].

ويحكى أن الخليل كان ينشد كثيرا هذا البيت، وهو للأخطل:
وإذا افتقرت إلى الذخائر لم تجد **  ذخرا يكون كصالح الأعمال.[4]

ومن حكايات زهده أن سليمان بن عليٍّ والي البصرة وجَّه إليه يلتمس منه الشخوص إليه وتأديب أولاده نظير راتب يُجرِيه عليه، فأخرج الخليل إلى رسول سليمان خبزًا يابسًا، وقال: ما عندي غيره، وما دمت أجده فلا حاجة لي في سليمان. فقال الرسول: فماذا أبلغه عنك؟ فأنشأ يقول:

أبلغ سليمان أني عنه في سعة ** وفي غِنًى غير أني لست ذا مال

سخَّى بنفسيَ أني لا أرى أحـدًا ** يموت هزلاً ولا يبقى على حـالِ

والفقر في النفس لا في المال نعرفه **  ومثل ذاك الغنى في النفس لا المالِ

فالرزق عن قَدَرٍ لا العجز ينقصه ** ولا يزيـدك فيه حَـْولُ محتـال

فقطع عنه سليمان الراتب، فقال الخليل:

إن الذي شقَّ فمي ضامن ** للرزق حتى يتوفاني

حرمتني خيرًا قليلاً فما ** زادك في مالك حرمـاني

فبلغت سليمان، فأقامته وأقعدته، وكتب إلى الخليل يعتذر إليه، وأضعف راتبه.

فقال الخليل:

وزَلَّة يكثر الشيطان إن ذكرت **  منها التعـجب جاءت من سليمـانا

لاتعجبَنَّ لخيرٍ زلَّ عن يـده ** فالكوكب النحس يسقي الأرض أحيانا[5]

ان اقصاء السلطة الحاكمة للإمامة الحقة لعلي وأولاده (ع) وظلمهم إياهم ولشيعتهم ومطاردتهم وتسجينهم وغيرها من أساليب الإرهاب.. هي التي دعت الخليل الى عدم التزلف للسلطة الحاكمة، والاعراض عنها فما كان من السلطة الحاكمة الا ان دعت أقلامها ان تغيب هذا النجم الساطع عن سماء العلم والعلماء. ذلك وبعد معرفتهم لعقيدته التي كتمها عن الناس وهي حبه لعلي وأولاده (ع).

فتراه(رح)  ينقل في كتابة العين في مادة (ح ر د) اسم امير المؤمنين(ع) في التوراة:

«وحيدرة: اسم علي بن أبي طالب – (ع) – في التوراة، وارتجزفقال:أنا الذي سمتني أمي حيدرة »[6]

وكذلك عند ذكر الصديقة الطاهرة(ع) فإنه يذكر مجيئها الى ابي بكر وخطبتها في المسجد:

«وفي الحديث جاءت فاطمة(ع) إلى أبي بكر في لُميمة من حفدتها ونساء قومها.»[7]

وكذلك يروي عن اصاحب امير المؤمنين (ع).. فهاهو يستشهد بشعر الطرماح:

(لن تغسلوا أبداً عارا أظلّكُمُ ** غسل العوارك حيضاً بعد أطهار).[8]

وعندما سئل عن امير المؤمنين (ع) اجابهم.

« في كشف الغمة عن يونس بن جيب النحوي قال قيل للخليل:

ما بالُ أصحاب رسول الله(ص) كأنّهم بنو أمٍّ واحدة، وعليّ بن أبي طالب كأنّه ابن عَلّة؟!.[9]

فقال: من أين لك هذا السؤال؟ قلت: أريد أن تجيبني، فقال: على أن تكتم علَيّ ما دمتُ حيّاً! قلت: أجَل، فقال: تَقدَّمهم إسلاماً، وبَذّهم شرفاً، وفاقهم عِلماً، ورجحهم حِلماً، وكاثَرَهم زهداً، وأنجدهم شجاعةً، فحسدوه! والناس إلى أمثالهم وأشكالهم أمْيَلُ منهم إلى مَن فاقهم وكثرهم ورجحهم!»[10].

من هذا يتّضح أنّ الخليل كان شيعيَّ المذهب ولكنّه كان يكتم تشيّعه.

قال الخليل: سمعتُ سفيان بن سعيد الثوريَّ يقول:

قدمتُ إلى مكّة فإذا أنا بأبي عبدالله جعفر بن محمّد (ع) قد أناخ بالأبطح، فقلتُ: يا ابن رسول الله، لِمَ جُعِل الموقف (أي في عرفة) من وراء الحرم ولم يُصيَّر في المشعر الحرام؟

فقال (ع): «الكعبة بيت الله عزّوجلّ، والحرم حجابُه، والموقف بابُه، فلمّا قصده الوافدون أوقَفَهم بالباب يتضرّعون، فلمّا أذِن لهم بالدخول أدناهم من الباب الثاني وهو المزدلفة، فلمّا نظر إلى كثرة تضرّعهم وطول اجتهادهم رَحِمَهم، فلمّا رَحِمِهم أمرهم بتقريب قربانهم، فلمّا قرّبوا قربانهم وقَضَو تَفَثَهم وتطهّروا من الذنوب التي كانت حجاباً بينه وبينهم، أمَرَهم أيّامَ التشريق.

ثم قال(ع): «إنّ القوم في ضيافة الله عزّوجلّ، ولا يجب على الضيف أن يصوم عند مَن أضافه ».

قال: قلت: جُعِلتُ فداك، فما بال الناس يتعلّقون بأستار الكعبة وهي خِرَقٌ لا تنفع شيئاً؟!

فقال (ع):  « ذلك مِثلُ رجلٍ بينه وبين رجلٍ جُرم، فهو يتعلّق به ويطوف حوله رجاءَ أن يَهَبَ له ذلك الجرم »[11]

وبهذا يسهل أن نفهم أنّ الخليل عرف في بعض الأخبار، أنّ بعض علومه أخذها من الإمامين الباقر والصادق(ع) فبنى عليها في البصرة، وأثمر عن بعض ذلك ابتكاره علم العَرُوض ومعجم اللغة العربية.

قيل في الخليل..

العلاّمة الحلّي قال: كان الخليل أفضلَ الناس في الأدب، وقوله حجّةٌ منه، وقد اخترع علم العروض. وفضله أشهر من أن يُذكَر، وكان إماميَّ المذهب.[12]

الشيخ محمد حسن النجفي في موسوعته الفقهيّة وهو يتعرّض إلى معنى العَشيّ والإبكار، فقال: ومنهم الخليل بن أحمد في (كتاب العين)، الذي هو الأصل في اللغة، وعليه المعوَّل والمرجع. [13]

ابن فهد الحلّي أنّ الخليل بن أحمد سُئل: ما الدليل على أنّ عليّاً(ع) هو إمام الكلّ في الكلّ؟ فأجاب: احتياجُ الكلّ إليه، واستغناؤه عن الكلّ.

وقيل له: ما تقول في عليّ بن أبي طالبٍ (ع)؟ فقال: ما أقول في حقّ امرئٍ كتم مناقبَه أولياؤُه خوفاً، وأعداؤه حسداً، ثمّ ظهَرَ مِن بين الكتمانَين ما ملأ الخافقَين! [14]

وفاته:

كان يخرج ماشيا في شوارع البصرة، فلا يلبث أن يجد نفسه في الصحراء دون أن يدري، لأنه يمشي في الطريق، وهو منهمك في التأمل والتدبر، كالذاهل، وفي مرة من المرات “دخل المسجد وهو معمل فكره… فصدمته سارية، وهو غافل عنها بذكره، فانقلب على ظهره، فكانت سبب موته وكان ذلك بالبصرة سنة سبعين ومائة من الهجرة (170هـ) على المشهور، ودُفِن بها.[15]

الخاتمة:

لقد نقل الخليل ابن احمد الفراهيدي (رح) بكتابه العين اللغة من لغة كانت تقوم على مجرّد السليقة والطبع إلى لغة علمية مضبوطة مقننة.

لقد حفظ اللغة العربية من اللحن وبالتالي حماها من الانحلال والذوبان.

لقد فتح الخليل(رح) الباب لعلماء اللغة من بعده إلى تأسيس قواعد نحوية ومعاجم لغوية تنفع الباحثين في هذا الباب.

لقد ضرب الخليل المثل الأعلى في الزهد والخلق الرفيع ولإعراضه عن الدنيا وعدم التزلف للظالم تحت أي وجه من الوجوه.

ومن شعر الخليل في وصف الدنيا وذمها وترك الحرص عليها قوله:

وما هي إلا ليلة ثم يومها

وحولٌ إلى حولٍ وشهرٍ إلى شهر

مطايا يقربن الجديد من البلى

ويدنين أشلاء الكرام من القبر

ويتركن أزواج الغيور لغيره

ويبعدن جثمان الشحيح من الوفر[16]

ــــــــــــــــــــــــ

[1] الصفدي: الوافي بالوفيات ج13 ص241.

[2] ياقوت الحموي: معجم الأدباء ج3 ص1263.

[3] سير اعلام النبلاء ج 7 ص430.

[4] البيت للأخطل التغلبي غياث بن غوث بن الصلت، أبو مالك، المتوفى سنة (٩٠ ه‍)،

من قصيدة يمدح بها عكرمة بن ربعي الفياض، مطلعها:

لمن الديار بحائل فوعال                درست وغيرها سنون حوالي

الديوان: ١ / ١٣٦، وما بعدها. (تحقيق: د. فخر الدين قباوة – دار الأصمعي بحلب).

[5] وفيات الأعيان (2/ 246).

[6] العين ج3 ص179.

[7]العين ج 3 ص1653.

[8] العين ج 1 ص198.

[9] ابن العلة بفتح العين وتشديد اللام هو الأخ لأم وحدها أي الأخ من الأب دون الأم وأبناء العلات الأخوة لأمهات شتى وأبوهم واحد والعلة مأخوذة من العل وهو الشرب الثاني والشرب الأول يسمى النهل فكأن أباه عل منها بعد أن نهل من غيرها قال الشاعر:
أفي الولائم أولاد لواحدة                 وفي الوقائع أولاد لعلات.

[10] أعيان الشيعة ج1 ص329.

[11]  تاريخ الإسلام للذهبي ج9 ص92.

[12]  خلاصة الأقوال:140

[13] جواهر الكلام ج7 ص221.

[14] المهذّب البارع في شرح المختصر النافع ج4 ص293 .

[15] ابن خلكان: وفيات الأعيان ج2 ص248.

[16] نور القبس_ للمرزباني .

عدد الزوار: 120

معلومات الاصدار

الناشر: مركز فجر عاشوراء الثقافي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *