هذا البحث يتناول (حسب التصور الإسلامي) الجواب عن أسئلةٍ كبرى شغلت الفكر الإنساني:
- ما هي عوامل انهيار الأمم وقياداتها السياسية؟
- ما هو مستقبل البشرية الذي ينتظرها؟
- ما هي السنن التي تحكم حركة التاريخ؟
فهرس المحتويات
- حركة التأريخ:
- لفظة (فلسفة التأريخ):
- موضوع البحث في فلسفة التأريخ:
- أغراض وفوائد دراسة فلسفة التأريخ السياسي:
- منهج البحث في فلسفة التأريخ:
- الواقع السياسي:
- الأمة:
- الإنسان:
- العلاقات الاجتماعية الفطرية:
- الأرض:
- الحاكم (الرئيس):
- الدستور أو القانون أو الشريعة أو الكتاب:
- حركة المفردات:
- الحركة الأفقية والحركة الطولية للواقع السياسي:
- مراحل حركة التأريخ:
- أ ـ في ضوء عوامل حركة التأريخ الأفقية والطولية تحتمل صورتان لنهاية حركة التأريخ:
- ب ـ وتحتمل صورتان أيضا لبداية حركة التأريخ:
- ج ـ يكون التسلسل المحتمل لمراحل حركة التأريخ البشرى على أساس الصورتَين المحتملتَين لبداية ونهاية حركة التأريخ على أربع صور هي:
- الحتمية:
- دور المثل الأعلى في حركة التأريخ:
- التفسير الإسلامي للتأريخ:
- سنن التأريخ في التصور الإسلامي:
- الشكل الأول ـ شكل القضية الشرطية:
- الشكل الثاني ـ شكل الفصلية الناجزة الوجودية المحققة:
- الشكل الثالث: السنة التأريخية المصاغة على شكل اتجاه طبيعي
- 1 ـ سنة الفطرة:
- 2 ـ سنة (لا يصلح الناس الا امام عادل أو امام فاجر):
- 3 ـ سنة (لا تخلو الأرض من حجة لله):
- 4 ـ سنة (إهلاك المستكبرين واستخلاف المستضعفين):
- 5 ـ سنة شكر النعمة والاستمرار أو كفر النعمة والبوار:
- غاية حركة التأريخ:
- المراحل العامة لحركة التأريخ
العراق ـ النجف الأشرف – حي الكرامة
هاتف: 009647728220543
الهوية:
عنوان الإصدار : حركة التاريخ في التصور الإسلامي التفسير الإسلامي للتاريخ
تأليف : العلامة المحقق السيد سامي البدري
سنة الإصدار : 2025/1447 – رقم (74)
نوع الإصدار : إلكتروني ـ PDF
الناشر : مركز فجر عاشوراء الثقافي
نشر هذا البحث في مجله الفکر الإسلامي – العدد 6
سنة 1994م ـ 1415هـ
حركة التأريخ:
مصطلحٌ نريد به حركة الواقع السياسي.
والكلام على حركة التأريخ تارة ينصبّ على (الظواهر) العامّة المتكرّرة التي يزخر بها الواقع السياسي للبشرية، و (القوانين) و (السُنن) التي تتحكم بها، وهو كلامٌ على ما يصطلح عليه بـ (سُنن التأريخ) أو (قوانين التأريخ).
وتارةً أخرى ينصبّ على (الوضع النهائي) الذي يستقرّ عليه الواقع السياسي في المستقبل وعلى (الأوضاع المرحلية) التي
مهّدت لذلك، وهو كلام على ما يصطلح عليه في الدراسات الحديثة بـ (مراحل التأريخ) أو (هدف أو غاية أو معنى التأريخ).
وقد استقلّت مسألتا (سنن التأريخ) و(غاية التاريخ) بمصطلح (فلسفة التأريخ) من بين المسائل الأخرى التي ارتبطت به في مبدأ ظهوره.
لفظة (فلسفة التأريخ):
كان (فولتير) أوّل من اخترع هذه العبارة في القرن الثامن عشر الميلادي، دون أن يقصد بها أكثر من عرض نقدي أو علمي للتأريخ، وبتعبير أدقّ كان يقصد نوعا من التفكير التأريخي يتقيد فيه المؤرّخ بمقاييسه الخاصّة بدلاً من الاعتماد على ما جاء في الكتب القديمة.
وفي أواخر القرن الثامن عشر استعمل «هيجل» وغيره من الكتّاب هذه العبارة نفسها، وأرادوا بها التأريخ العام أو تأريخ العالم.
ثمّ استعملت في معنى ثالث على لسان كثيرٍ من الفلاسفة الوضعيين في القرن التاسع عشر الذين رأوا أنّ فلسفة التأريخ تستهدف الكشف عن قوانين عامّة تنظّم سياق الحوادث التي تتبّعها التأريخ.
وكانت الفلسفة في نظر فولتير تعني التفكير المستقلّ الذي يستند إلى التحليل والنقد.
وكانت في نظر «هيجل» التفكير الذي ينظّم الدنيا بما فيها وعند الوضعيين اكتشاف القوانين العامّة(1).
موضوع البحث في فلسفة التأريخ:
يختلف موضوع البحث في فلسفة التأريخ عنه في علم التأريخ، ففي علم التأريخ يكون الموضوع (الحوادث التأريخية) التي وقعت في الماضي، أمّا في فلسفة التأريخ، فالموضوع(1) هو (السنن أو القوانين العامّة) التي تتحكم في الحوادث التأريخية، أو (الاتّجاه والمعنى والهدف الذي ينتظمها) ليس في نطاق فترة أو مكان محدّدين بل في نطاق التأريخ كلّه، أمّا التفسير المحدود والجزئي للواقعة التأريخية فهو من مسؤولية علم التأريخ نفسه.
وبحكم وجود محورَين في التأريخ، المحور السياسي أو علاقة الإنسان مع الإنسان،
والمحور التسخيري أو علاقة الإنسان مع الطبيعة، وبحكم اختلاف طبيعة كلّ منهما، نكون أيضا أمام نوعَين من فلسفة التأريخ:
الأوّل: فلسفة التأريخ السياسي
وموضوع البحث فيها حركة الواقع السياسي التي تتمثّل في نشوء الأمم وهلاكها، وقيام الأحزاب واندثارها، وقيام الحكومات وسقوطها والبحث في هذا النوع من فلسفة التأريخ يواجه سؤالَين هما:
الأوّل: هل لهذه الحركة نهاية تقف عندها؟ وكيف سيكون حال البشرية آنذاك؟ وهل ستكون أمة واحدة من دون حاكم، أو أمّةً واحدةً وحاكما واحدا ؟
الثاني: هل هناك قوانين وسُنن عامّة تحكم حركة الواقع السياسي تلك ؟
الثاني: فلسفة التأريخ التسخيري
وموضوع البحث فيها حركة الواقع التسخيري المتمثّلة باكتشاف الأسرار الطبيعيّة واختراع الأجهزة المختلفة، والباحث في هذا الفرع يواجه سؤالَين أيضا، هما: الأوّل: حول مستقبل الحركة التسخيريّة، وهل سيصل الإنسان إلى مرحلة تكتمل فيها معرفته بأسرار الكون ويبلغ بها إلى تسخير الكون لصالحه ؟ والسؤال الثاني: هل هناك قوانين وسنن عامّة تحكم حركة الواقع التسخيري هذه ؟
أغراض وفوائد دراسة فلسفة التأريخ السياسي:
حينما انتبه الإنسان إلى وجود قوانين تتحكم بالظواهر الطبيعية التي تزعجه وتعرّض حياته للخطر في كثيرٍ من الأحيان، كرّس جهده لاكتشاف هذه القوانين والاستفادة منها في التحكم بالظواهر الطبيعية وتوجيهها لصالحه، والأمر نفسه يحصل في الساحة السياسية وظواهرها وهي أكثر إزعاجا وخطورة، إذ إنّ هلاك حكومة وولادة أخرى، وهلاك أمة وولادة ثانية بدلها، يرافقه سفك الدماء وخراب الديار في الغالب، كما أنّ الحياة السياسية للمجتمعات حينما لا تكون وفق السنن الثابتة تقترن بفترة أطول من الشقاء والخراب والدمار والعذاب. ومن هنا ستكون تلك اللحظة ـ التي تدرك فيها
الإنسانية المعذّبة وجود سنن وقوانين ثابتة تتحكم بظواهر الحياة الاجتماعية والسياسية، ووجود سعادة وكمال يتحقّقان بتلك السنن ـ أعظم أثرا وأكثر بركةً من لحظة انفتاحها على السنن التي تتحكم بالظواهر الطبيعية، إذ سيحرّكها هذا الانفتاح لبذل المحاولات من أجل كشف هذه السنن والتقيد بها لبلوغ تلك الغاية الرشيدة. وتتحوّل التجارب السياسية التي لا تقوم على أساس السنن الثابتة إلى معالم عِظة وعِبرة تدعو الأجيال المقبلة إلى عدم تكرارها من جهة، وإلى مزيدٍ من التمسّك بالسنن والقوانين الثابتة في الحياة السياسية من جهةٍ أخرى.
وحركة النبوّات في تأريخ الإنسان هي الحركة الوحيدة ـ من بين الحركات السياسية التي يزخر بها عالم البشرية الرحب ـ التي
عرضت نفسها على أساس السنن والقوانين التي قدّرها اللّه تعالى للحياة السياسية، ومن هنا نجد القرآن الكريم ـ الكتاب الإلهي الخاتم ـ قد ركز بصفة خاصّة على سنن حركة التأريخ وغايته، «وهذا المفهوم القرآني وهو تأكيده على أنّ الساحة التأريخية لها سنن، يعتبر فتحا عظيما للقرآن الكريم، لأنّ القرآن بحدود علمنا هو أوّل كتابٍ عرفه الإنسان أكد على هذا المفهوم، وكشف عنه وأصرّ عليه وقاوم بكلّ ما لديه من وسائل الإقناع والتفهيم النظرة العفوية في تفسير حوادث التأريخ، ونبّه العقل البشرى إلى أنّ هذه الساحة لها سنن وقوانين، وأنّه لكي يكون إنسانا فاعلاً مؤثّرا لا بدّ أن يكتشف هذه السنن لكي يتحكم فيها وإلاّ تحكمت فيه».(1)
منهج البحث في فلسفة التأريخ:
يبدأ الباحث في علم التأريخ بـ (الوثيقة) وينتهي بـ (الواقعة التأريخية)، إذ لا يوجد طريق آخر للإنسان الاعتيادي لمعرفة ما حدث في الماضي إلاّ (الآثار) و (النقول)، وأهمّها (المدوّن) وأنفعها (القريب من الواقعة) وأثبتها (شاهد العيان) الصادق، ومن هنا كان أساس منهج البحث في علم التأريخ جمع الوثائق وتحقيقها لفرز المعرفة التأريخية منها.
أمّا في فلسفة التأريخ فالأمر مختلف تماما، إذ لا يهدف الباحث هنا إلى معرفة الواقعة التأريخية، وإنّما يهدف إلى معرفة (السنن) التي تتحكم في الواقعة التأريخية والساحة التأريخية بشكلٍ عامّ، وإلى معرفة (الغاية) و (الوضع النهائي) الذي سيستقرّ عليه الواقع السياسي في المستقبل.
إنّ منهج اكتشاف (سنن التأريخ) يعتمد على (تكرار الحوادث التأريخية) نوعا، كحوادث هلاك الأمم، وسقوط الحكومات، ونشوء الأحزاب المعارضة، وشأن الباحث هنا شأن العالم الفيزيائي الذي يرصد الظواهر الطبيعية المتكرّرة ليستكشف منها القانون العام، مع ملاحظة أنّ الباحث في حقل فلسفة التأريخ يرصد الظواهر السياسية الماضية من خلال علم التأريخ نفسه، ومن خلال معاصرته للحوادث السياسية المشابهة.
أمّا منهج البحث في تشخيص (غاية التأريخ) ـ وهي (حادثة غير متكرّرة) وتقع في المستقبل البعيد للبشرية، وتمثّل الوضع النهائي للواقع السياسي على الأرض ـ فيعتمد على (التنبّؤ) بالمستقبل، ولا سبيل إلى (التنبّؤ العلمي) بـ (الوضع النهائي للواقع السياسي للبشرية) إلاّ أن يقام على أساس
(السنن والقوانين) التي تتحكم بحركة الواقع السياسي.
الواقع السياسي:
نريد بـ (الواقع السياسي) المفردات التي يذكرها علماء السياسة لـ (الدولة)، وقد اتّفقوا على ثلاثٍ منها(1). (النظام السياسي) ويراد به (القيادة السياسية، الدستور) و (الأمة) و (الأرض)، وحركة الواقع السياسي هي حركة هذه المفردات الثلاث أو الأربع (إذا جعلنا كلاًّ من القيادة السياسية والدستور مفردةً قائمةً لوحدها، وهو ما نفضّله في هذا البحث لنكتةٍ ستتّضح فيما بعد)، ومن هنا تأتي الحاجة إلى بحث هذه المفردات وكشف جوانب الحركة فيها قبل الدخول في بحث سنن التأريخ وهدف التأريخ.
الأمة:
وهي جماعة الناس، وتتكوّن من أفراد تربط بينهم روابط خاصّة، ونحن نحتاج في هذه المفردة إلى تسليط الضوء على (الإنسان) بوصفه العنصر الوحيد الذي يعطي للمجتمع وجوده الخارجي، إذ بدون (الفرد) لا وجود للمجتمع، ونحتاج كذلك أن نسلّط الضوء على (العلاقات والروابط) الأساسية التي تجعل من الأفراد مجتمعا وأمة.
الإنسان:
ويعنينا منه خصائصه الثابتة له بالخلقة والفطرة، وهي كثيرة نذكر أهمّها:
1 ـ حاجته إلى الأرض سكنا وقوتا.
2 ـ حاجته إلى الزواج.
3 ـ حاجته إلى كمال لائق به ومَثَلٍ أعلى يتحرّك نحوه.
4 ـ وجود العقل فيه ونزوعه نحو تعليل الظواهر والبحث عن الأسباب.
5 ـ حريته في الإرادة والاختيار.
6 ـ قدرته على مخالفة هواه وكبح جماح نفسه وكفّها عمّا تشتهيه.
7 ـ ارتباط سلوكه الاختياري بالتجارب والعلم.
8 ـ له ذاكرة تحفظ التجارب.
9 ـ أخذه العبرة وعدم تكراره الخطأ الذي يضرّه ضررا لا يحتمله.
10 ـ قدرته على النفاق والتحايل.
11 ـ حبّه لذاته.
12 ـ إباؤه للضيم والظلم وكرهه لهما، وحبّه للعدل وقبوله به.
13 ـ قدرته على البيان والإعراب عمّا في فكره وضميره.
14 ـ اختلافه عن الغير شكلاً ونفسا فلا يكاد يتشابه اثنان في ذلك.
العلاقات الاجتماعية الفطرية:
يتقوّم المجتمع بالرجل والمرأة، إذ تفرض خلقة كلّ واحدٍ منهما أن يحتاج إلى الآخر نكاحا، وبذلك تكون (العلاقة الزوجية) أولى العلاقات الاجتماعية ظهورا وأساس المجتمع بناءً، وبالزواج يتكوّن الولد، وبذلك تنشأ (علاقة الأبوّة) ونريد بها علاقة الأبوّة والأمومة، وبتعدّد الولد تنشأ (علاقة الأخوّة).
إنّ (العلاقة الزوجية) تقوم على أساس الحاجة المتبادلة إلى النكاح، و(علاقة الأبوة) تقوم على أساس العاطفة وحاجة الطفل إلى التربية وتهيئة أسباب عيشه، أمّا (علاقة الأخوة) فتقوم على أساس استغناء الأخ عن أخيه والأخت عن أختها، فلا جامع للأخ مع أخيه إلاّ وحدة المنشأ، إذ نزل هؤلاء من صلبٍ واحد، ويكون الطابع العام
للعلاقة الأخوية هو التكافؤ والتساوي، وبحكم حاجة الجميع إلى الأرض تنشأ (علاقة الملكية).
الأرض:
ونريد بالأرض السكن واللباس والقوت والعلاج وغيرها ممّا يطورّه الإنسان من الأرض، وبحكم الحاجة المستمرّة ينشأ نوع اختصاص وتملّك للأفراد. وفي ظل المجتمع الفطري الذي يتكوّن من أسرةٍ واحدة تكون الملكية على نوعَين:
الأولى: ملكية خاصّة، وهي ما يحوزه الأفراد أو ما يوهب لهم، أو بغيره من أسباب التملّك الخاص.
الثانية: ملكية حقّ الاستفادة المشروطة بالمساواة مع الآخرين، كما يملك الأب والأولاد حقّ الاستفادة من منافع البيت
والأشياء المتوفّرة به بشكلٍ متساوٍ.
وبحكم اختلاف طبيعة الأفراد في الرغبات والميول يتوقّع أن يتجاوز البعض حدوده في الاستفادة فيحرم الآخر من حقّه أو يغتصب منه ما ملّكه إياه الأب. وهنا ينشأ خلاف حول الأرض، إنّ الاختلاف حول الأرض يعني تعرّض العلاقة الاجتماعية إلى خطر، إذ قد يؤدّي الخلاف إلى اغتصاب الحقّ أو الشيء من صاحبه، وقد يؤدّي ذلك إلى قتله ليتمكن من الأشياء التي تعود له، وعلاقة الأخوة أقرب من غيرها وأشدّها تأثّرا بهذا الاختلاف، إذ يوجد ما يطوّق أثره في العلاقة الزوجية بحكم الحاجة المتبادلة منهما إلى النكاح، وفي العلاقة الأبوية يكون التطويق أشدّ بفعل العاطفة الخاصّة في الأبوَين، ولا يوجد في قبال ذلك ما يطوقّه في العلاقة الأخوية،
لذلك قد يؤدّي الخلاف إلى أن يغتصب الأخ حقّ أخيه في الأرض بالقوّة، وهو أبسط أشكال انحراف العلاقة، أو يقتله وهو أفضع أشكال الانحراف فيها، ومن هنا تحتاج العلاقة الأخوية إلى حفظها وصيانتها من خطر الاختلاف، وذلك بحسم النزاع وفصله. والمرشّح الوحيد هو الأب لأنّه أشفق عليهما من نفسيهما، وأقوي منهما (على فرض حدوث النزاع في فترة المراهقة والطفولة) إضافة إلى شعور الأخوة بالخضوع إزاء الأب لأنّهم تربّوا في ظلّه، وبذلك تنشأ علاقة رابعة هي (علاقة الحكم والولاية).
الحاكم (الرئيس):
تقوم (علاقة الحكم والولاية) على أساس حاجة حلّ النزاع إلى آمرٍ مطاع، ويملك الأب هذا الأمر في أبنائه، لأنّه يملك قبل ذلك أمر تربيتهم، بل قد يملك الحاجات التي اختلفوا عليها، ولا يملك الأخوة ذلك لأنّهم متكافئون، فـ (علاقة الحكم أو الولاية) الفطرية لا تقوم على أساس التكافؤ، بل على أساس الامتياز الواقعي، فالأب يملك أن ينفّذ أمره في أبنائه، وينزل العقوبة بالعاصي منهم، كما أنّ هدف الحكم والولاية حفظ التساوي والتكافؤ في العلاقة الأخوية، وباتّساع الأسرة واتّساع القدرة للأب الكبير يتّسع الهدف ليشمل العلاقات الاجتماعية الأخرى إذا طالها خطر الاختلاف، وبحكم الضعف التكويني الذي يلحق الأب الأوّل أو موته، واتّساع
المجتمع يصبح الحكم والولاية نصيب من يملك القوّة على تنفيذ أمره في العشيرة أو المدينة أو الدولة، والفارق بين حكم الأب على أبنائه وحكم غير الأب حين تتوفّر له قوّة تنفيذ الأمر، أنّ حكم الأب مقرونٌ بالشفقة على الأبناء، وبرجوع الأبناء إلى أبيهم وخضوعهم لحكمه، أمّا حكم غيره فهو خالٍ من ذلك غالبا، ومن هنا يكون احتمال إساءة استخدام السلطة في حكم غير الأب وطغيانه أمرا محتملاً جدّا، وحينئذٍ يكون أشدّ العوامل فتكا وتخريبا لعلاقة الأخوة من الإخوة أنفسهم حين يختلفون فيما بينهم، ومن هنا تأتي الحاجة إلى (القانون أو الشريعة أو الدستور) لصيانة العدل الاجتماعي والحركة الصحيحة للعلاقات الاجتماعية من (هوى) الحاكم.
الدستور أو القانون أو الشريعة أو الكتاب:
ويشتمل في بادئ الأمر على مسألتَين:
الأولى: أحكام العلاقة بين (الحاكم) و (الأمة أو المجتمع)، ومواصفات الحاكم العادل وصلاحياته، ومن أين يستمدّ الحاكم سلطته في تنفيذ أمره، إذ الناس بعد الأب الأوّل أخوة متساوون متكافئون لا يملك أحدهم الأمر المطاع في الآخرين.
الثانية: أحكام الملكية والعلاقات الاجتماعية الأخرى، وحقوق وواجبات أطرافها، والعقوبات بحقّ المخالفين أو المعتدين.
وبحكم اشتراك الفرد في أكثر من علاقة غالبا، فهو أبٌ وابنٌ وأخٌ وزوج، وبحكم كون الأحكام تهدف إلى تحقيق العدل في العلاقات أي ليأخذ كلّ فردٍ حريته في حركته
التكاملية، كان لا بدّ من قيام هذه الأحكام على أساس كمال الفرد المنشود ومثله الأعلى الذي يتحرّك نحوه. ولا بدّ أن يكون هذا المثل الأعلى واحدا عند الجميع، وبذلك يتحقّق رضا الجميع بالأحكام وقبولهم لها.
وهنا تأتي الحاجة إلى بحث مسألتَين أخريين في القانون هما:
أوّلاً: المثل الأعلى للإنسان ومن يقرّره.
وثانيا: مصدر التشريعات والأحكام.
فتكون المسائل الأساسية في الدستور أو الشريعة أربعة:
الأولى: المثل الأعلى للإنسان والمجتمع.
الثانية: مصدر التشريع.
الثالثة: أحكام العلاقة بين الحاكم والأمة.
الرابعة: الأحكام الاقتصادية والاجتماعية التفصيلية.
ولا يكاد يخلو دستور من الدساتير
المعاصرة أو القديمة من هذه المسائل، نعم يختلف دستور عن غيره في التفاصيل والاهتمامات.
حركة المفردات:
في البداية وحين يكون المجتمع ممثّلاً باُسرةٍ واحدة يكون الناس أمة واحدة، وحين يموت الأب الأوّل، أو يكبر الأولاد ويستغنون عن رعاية الأب أو يفوقونه قوّة يؤسّس كلّ واحدٍ منهم أسرة جديدة منفصلة عن الأسرة الأولى، وحينئذٍ يكون الناس أمما، وهذه الأمم البدائية تتفاوت بين الأسرة الصغيرة المنفصلة وبين الأسرة الكبيرة المجتمعة حول أبٍ كبيرٍ قوي أو حول أقوى الأخوة وأملكهم للأشياء وأحماهم للضعيف، وهي مرحلة العشائر والقبائل، وحين تستقرّ القبيلة أو مجموعة القبائل في منطقة معينة تكون القرية أو المدينة ممثّلة المجتمع بدلاً من العشيرة أو الأسرة، وكما يحصل الصراع بين الأفراد في الأسرة الواحدة بسبب الأرض والقوت
وغيره، يحصل بين الأسر والعشائر والمدن والدول، وكما نحتاج في الأسرة إلى الحكم والولاية لحلّ النزاع، نحتاج أيضا إلى ذلك على صعيد القبيلة والمدينة والدولة.
والدساتير والكتب تارة تنظر إلى وحدة معينة من وحدات العالم السياسي الكبير، فتشرّع لأفرادها وعلاقاتهم، وهذا النوع من الدساتير سوف يحلّ المشكلة إن استطاع على صعيدٍ ضيق، بل سيحلّ جزءا من المشكلة لأنّه لم ينظر إلى علاقة هذه الوحدة مع الوحدات الأخر، وأغلب دساتير الدول المعاصرة من هذا القبيل، وتارة ينظر الدستور إلى العالم كلّه والبشرية كلّها، فيشرّع لأفرادها وعلاقاتهم، وهذا النوع هو الذي تدعو إليه الفطرة والخلقة والحاجة، وهنا قد يكون الدستور والكتاب صالحا مصيبا ومستوعبا لكلّ ما يعرض على الفرد
والعلاقة الاجتماعية، وقد يكون الكتاب ناقصا أو مخطئا، وما يهمّنا في حركة التأريخ هو النوع الثاني من الدساتير والكتب والشرائع دون الأوّل لأنّه يستهدف الواقع السياسي برمّته والمجتمع البشرى بكامل أفراده ووحداته.
الحركة الأفقية والحركة الطولية للواقع السياسي:
نريد بالحركة الأفقية: حركة الفكر السياسي والقانون، وبالحركة الطولية حركة المستضعفين والمظلومين وصراعهم مع الظالمين، وتنتج الحركة الأفقية ظهور كتاب جديد وقانونٍ جديد أو (إيديولوجيةٍ) جديدة تتصدّى لحلّ مشكلات الإنسانية، وتبشّر بالمستقبل السعيد لها، وتنتج الحركة الطولية هلاك المستكبرين واستخلاف المستضعفين عند توفّر شروط الهلاك والاستخلاف.
إنّ الأسباب التي تكمن وراء حركة الواقع السياسي أفقيا هي (تخلّف) القانون والكتاب بعناصره التي ذكرناها سابقا، وعجزه عن حلّ مشكلات الإنسان وتحريكه باتّجاه الكمال المنشود، إمّا بسبب قصوره ونقصه الذي لم يكن منتبها إليه، أو
بسبب تحريفه وتغييره، ولذلك تشهد الحركة الأفقية للتأريخ شعارَين أساسيين يرتبطان بالكتاب:
الأوّل: شعار استبدال الكتاب والقانون بقانون جديد وكتابٍ جديد.
الثاني: شعار المحافظة على الكتاب من التحريف والوقوف بوجه المحرّفين.
كما أنّ الأسباب التي تكمن وراء حركة الواقع السياسي طوليا هي (الظلم) ووجود (المظلومين) أو (المستضعفين) وظلم الأفراد نتيجة لـ (انحراف الحاكم) وتحايله على النظام، أو نتيجة لعجز النظام والقانون نفسه، ولذلك تشهد هذه الحركة الطولية نوعَين من الشعارات أيضا:
الأوّل: شعار يدين الحاكم ويدعو للثورة عليه، لأنّه سبب الظلامة وسبب تحريف القانون.
الثاني: شعار يدين القانون نفسه باعتباره متخلّفا عن حركة الإنسان التكاملية.
مراحل حركة التأريخ:
أ ـ في ضوء عوامل حركة التأريخ الأفقية والطولية تحتمل صورتان لنهاية حركة التأريخ:
الصورة الأولى: وقوف حركة التأريخ على كتاب معين وقيادة معينة، ويبتنى ذلك على الشروط التالية:
الشرط الأوّل: ظهور كتاب وقانون مستوعب لطموح الإنسان وقادر على تحريكه باستمرار نحو كماله، مع إمكانية المحافظة عليه من التحريف، ونسمّيه بالكتاب المهيمن أو الكتاب المنير.
الشرط الثاني: اقتران (إمامة) أو (قيادة) بالكتاب المنير أي ذات علاقة صادقة بالكتاب من جهة، وذات استيعاب كامل لأفكار الكتاب وتشريعاته من جهة أخرى.
الشرط الثالث: توفّر الأتباع الذين لا
يتصوّر تحوّل قناعاتهم بالكتاب المنير ولا بالإمامة المقترنة به، أي أمة تتقيد حرفيا بالقانون وتطيع الحاكم به طاعة تامّة.
الشرط الرابع: توفّر العدّة اللازمة والمسوّغات الكافية لهلاك الأنظمة الظالمة والطواغيت وأتباعهم.
إنّ الشرط الأوّل سوف يحول دون وقوع ظلمٍ على الفرد أو المجتمع بسبب القانون، حيث افترض كون القانون مستوعبا لمصلحة الإنسان فردا ومجتمعا.
كما أنّ الشرط الثاني سوف يحول دون وقوع الظلم من الحاكم نفسه، حيث افترض كون الحاكم مستوعبا للكتاب والقانون وصادقا في اتّباعه له.
أمّا الشرط الثالث فسوف يصون موقع الحاكمية من أن يصل إليها إنسان غير صادقٍ في علاقته مع القانون، ويصون
العلاقات الاجتماعية من أن يكون أحد أطرافها عنصرا خائنا لها، يعمل على تحطيمها وجرّ المصلحة لطرفٍ على حساب الطرف الآخر.
أمّا الشرط الرابع فسوف يرفع عامل الاستضعاف على الكتاب المنير والإمامة الداعية إليه والأمة المؤمنة بهما.
إنّ الواقع السياسي بالشرائط الآنفة الذكر يكون قد فقد مسوّغات حركته الأفقية، حيث الكتاب يواكب تطوّر الإنسان والمجتمع ويلبّي حاجاتهما، وكذلك فقد مسوّغات حركته الطولية لأنّ العدل يسود العلاقات الاجتماعية والسياسية، وفي ظلّ هذه الشرائط تتّجه حركة المجتمع البشرى بكلّ علاقاته نحو الإعمار والكمال، وهي حركة لا تقف عند حدٍّ معين، وبخاصّة حركة الإنسان نحو مثله الأعلى.
الصورة الثانية: استمرار الحركة الطولية والأفقية وتكريس الاختلاف والفرقة في المجتمع البشرى، وتبتنى على الشروط التالية:
الشرط الأوّل: عدم إمكانية الوصول إلى كتاب وقانون مستوعب للإنسان في كلّ زمانٍ ومكان، وعدم إمكانية المحافظة على مثل هذا الكتاب من التحريف والتزوير.
الشرط الثاني: عدم إمكانية اجتثاث الأنظمة المتخلّفة والقوى المستكبرة مع التسليم بإمكانية الشرط الأوّل.
الشرط الثالث: عدم ثبات الجماعة المؤمنة بعد استخلافها على فرض إمكانية الشرط الأوّل والثاني، أي أنّ تضييع القانون والتحرّر منه صفة أصيلة في المجتمع البشرى لا يمكن زوالها، ومن ثمّ فسوف ينحرف الحاكم أو تنحرف الأمة، وينشأ الظلم
ويتكرّر الاختلاف والشقاق ويستمرّ.
ب ـ وتحتمل صورتان أيضا لبداية حركة التأريخ:
الأولى: انطلاقة المجتمع البشرى منذ أوّل تكوّنه بواقع سياسي موحّد، ثمّ وقوع الاختلاف بعد ذلك، وهذه الصورة تقوم على افتراض أنّ نشأة البشرية كانت من أبٍ واحد واُمٍّ واحدة، وأنّ الحاجة إلى قانون برزت منذ تكوّن أوّل اُسرة.
الثانية: انطلاقة المجتمع البشرى منذ أوّل تكوّنه بواقعٍ سياسي متعدّد، وهذه الصورة تقوم على افتراض أنّ نشأة البشرية متعدّدة على الأرض، أو أنّ الحاجة إلى القانون والحكومة جاءت بعد أن اختلف الناس وتفرّقوا.
ج ـ يكون التسلسل المحتمل لمراحل حركة التأريخ البشرى على أساس الصورتَين المحتملتَين لبداية ونهاية حركة التأريخ على أربع صور هي:
الأولى: مرحلة الوحدة المنطوية على الاختلاف، ثمّ مرحلة الاختلاف، ثمّ مرحلة الوحدة التي لا تنطوي على اختلاف.
الثانية: مرحلة التعدّد، ثمّ مرحلة الوحدة التي لا تنطوي على اختلاف.
الثالثة: مرحلة الوحدة، ثمّ مرحلة الاختلاف المستمرّ.
الرابعة: الاختلاف المستمرّ.
الحتمية:
وهي على نوعَين:
1 ـ الحتمية في الطبيعة: يراد بها القول بوجود علاقات ضرورية ثابتة في الطبيعة توجب أن تكون كلّ ظاهرة من ظواهرها مشروطة بما يتقدّمها أو يصحبها من الظواهر الأخرى. ومعنى ذلك أنّ القول بالحتمية ضروري لتعميم نتائج الاستقراء العلمي، فلولا اعتقادنا أنّ ظواهر الطبيعة تجري وفق نظامٍ كلّي دائم لما استطعنا أن نعمّم نتائج الاستقراء(1).
2 ـ الحتمية التأريخية: ونريد بها الوقوع الضروري للحدث التاريخي، أو الاتّجاه التاريخي، بمعنى أنّهما لو توفّرت الشروط التي توجب حدوثهما لحدثا اضطرارا.
ويوجد في الفكر البشرى موقفان من
الحتمية التأريخية:
الأوّل: موقف ينادي بالحتمية التأريخية، ويدعو إلى استخلاص الأحكام الكلّية التي تمكن من التنبّؤ بما سيحدث في المستقبل(1). وقد جعلت الماركسية هدف التأريخ كعلم عندما يدرس العملية التأريخية المشخّصة هو اكتشاف القوانين التي تعمل في تأريخ المجتمع(2)، كما جعلت موضوع المادّية التأريخية هو معرفة القوانين العامّة للتأريخ(3)، وزعم الماركسيون أنّ النظرية الماركسية اللينينية إذ تعرّف بقوانين التطوّر الاجتماعي تمكن من رؤية الضرورة التأريخية سلفا لهذه التحوّلات الاجتماعية أو تلك، ومن توجيه نشاط الناس التطبيقي وفقا لها، بل إنّ معرفة القوانين هذه تمكن من التنبّؤ
باتّجاه التطوّر التأريخي وبنتائجه الأساسية(1).
وقد مرّ علينا سابقا أنّ القرآن الكريم نبّه العقل البشرى إلى وجود سنن تحكم الساحة التأريخية، ودعاه لاكتشافها للتحكم بظواهر الواقع السياسي. (وقد بينت هذه الحقيقة بأشكال مختلفة وبأساليب متعدّدة في عددٍ كثيرٍ من الآيات، بينت على مستوى إعطاء نفس هذا المفهوم بالنحو الكلّي، أنّ للتأريخ سننا وأنّ للتأريخ قوانين، وبينت في آيات أخرى على مستوى عرض هذه القوانين وبيان مصاديق ونماذج وأمثلة من هذه القوانين التي تتحكم في المسيرة التأريخية للإنسان… وفي آيات أخرى حصل الحثّ الأكيد على الاستفادة من الحوادث الماضية وشحذ الهمم لإيجاد عملية استقراء للتأريخ، وعملية الاستقراء هي عملية علمية
بطبيعتها تريد أن تفتّش عن سنّة أو قانون، وإلاّ فلا معنى للاستقراء من دون افتراض سنّة أو قانون)(1).
الثاني: موقف ينكر الحتمية التأريخية ويرفضها، مدّعيا عدم إمكانية استخلاص قوانين كلّية للتأريخ، ومن ثمّ التنبّؤ بالحوادث التأريخية أو الاتّجاه التأريخي على أساسها(2).
إنّ الموقف الأوّل يفترض وجود سنن وقوانين تحكم التأريخ وتحدّد مستقبله النهائي، ويدعو إلى اكتشاف هذه السنن والاستفادة منها في العمل السياسي.
أمّا الموقف الثاني فينكر وجود مثل هذه السنن أصلاً، فضلاً عن أن يستفيد منها في التحكم بظواهر الواقع السياسي أو التنبّؤ بمستقبله.
دور المثل الأعلى في حركة التأريخ:
إنّ تفسير الظواهر المتكرّرة في الساحة التأريخية أو التحكم بها والتنبّؤ بالمستقبل النهائي لها يعتمد على فهم المفردات الأساسية التي يتكوّن منها الواقع السياسي وهي: الإنسان، العلاقات الاجتماعية، المثل الأعلى للإنسان، القانون، ويشتمل على الأحكام التي تضبط حركة الإنسان باتّجاه مثله الأعلى، والأحكام التي تصون العلاقات الاجتماعية من أن تتحوّل إلى عقبة أمام حركة الإنسان نحو مثله الأعلى، ومن هنا كانت الصلة وثيقةً جدّا بين القانون والمثل الأعلى، بل يتعين تشخيص المثل الأعلى للإنسان قبل تشخيص التشريعات التي يحتاجها الإنسان في حركته باتّجاه مثله الأعلى.
ونريد بالمثل الأعلى للإنسان النهاية
المشرقة التي يريد أن يصل إليها الإنسان، أو اُفق الكمال المناسب له، وهو حاجة تفرضها عليه خلقته وفطرته كما بينا سابقا، إنّ المثل الأعلى سوف يكون غاية الغايات للإنسان ومن أبرز صفاتها أنّها تحرّك الإنسان نحوها حركة ذاتية تنبع من أعماقه، قائمة على أساس قناعته الداخلية لا غير، ولذلك لا بدّ أن تتوفّر في المثل الأعلى مسوّغات كافية لجذب قناعة الإنسان نحوها وعلی أساس ذلك يتصوّر نوعان من المثل العليا:
النوع الأوّل: مثل أعلى يملك مسوّغات كافية لجذب الإنسان وتحريكه في أي مستوي وموقع كان هذا الإنسان وفي أي زمانٍ ومكان، وهو (المثل الأعلى المطلق) إذ لا ترتبط فاعليته بموقعٍ اجتماعي معين أو زمانٍ ومكانٍ معينين.
النوع الثاني: مثل أعلى يملك مسوّغات
جذب محدودة، ويقتصر تأثيره على موقع معين أو زمنٍ ومكانٍ معينَين، وهو (المثل الأعلى المحدود).
وبلحاظ صلة التشريعات بالمثل الأعلى من جهة، وبالإنسان من جهةٍ أخرى يتصوّر نوعان من التشريعات:
الأوّل: تشريعات صادرة من المثل الأعلى المطلق، وهذه سوف تفوز بحرص الإنسان المنفتح على المثل الأعلى المطلق وشدة تقيده بها دون حاجة إلى رقيب خارجي، كما أنها مؤهّلة لكي ينضبط بها الإنسان في كل زمان ومكان وفي أي موقع إذا قرّر المثل الأعلى المطلق ذلك.
الثاني: تشريعات صادرة من المثل الأعلى المحدود، أو من جهة أخرى غيره، وحينئذٍ يقتصر التقيد بها في مساحة محدودة من البشر. وبحدود ما يملك المثل الأعلى
المحدود أو تلك الجهة من تحريك قناعة الآخرين بالتقيد بهذه التشريعات.
وفي ضوء ذلك يتقرّر أن القانون الصالح أو (الكتاب المنير) الذي تقف حركة التأريخ عنده هو الكتاب الذي يكتبه ويشرّعه (المثل الأعلى المطلق) لأنه الوحيد الذي يملك أن يحرّك الإنسان داخليا باستمرار، ويثير فيه أعلى درجات الحرص على الالتزام والاتباع، وفي ظل هذا الكتاب والمثل الأعلى المطلق لا يتصوّر أن تزول العلاقة معه إذا كانت صادقة.
ومن هنا فإن حركة التأريخ في حقيقتها هي حركة الإنسانية نحو المثل الأعلى المطلق(1)، ومتى ما انفتحت عليه جميعا وتخلّت عن المثل العليا المحدودة والمنخفضة وقفت حركة التأريخ.
التفسير الإسلامي للتأريخ:
أجاب القرآن الكريم على الأسئلة الثلاثة المرتبطة بحركة الواقع السياسي، ومن هنا توفرت بحق في المذهب التأريخي الإسلامي الشروط العلمية التي ادعتها بعض المذاهب الأخرى لنفسها ولم تكن كذلك.
فأجاب عن سؤال عوامل انهيار الأمم وقياداتها السياسية بان أي تجاوز للسنن والقوانين التي تتحكم بحركة الواقع السياسي سيؤدي حتما إلى انهيار ذلك الواقع وقيادته.
وأجاب عن سؤال مستقبل البشرية بانها تتوحد على أساس النظام القائم على السنن الكونية فيما لو تقيدت به وحافظت عليه.
وأجاب عن سؤال وجود النظام القائم على السنن الكونية فعلاً، بالإيجاب وانه يتمثل بدين الله الذي أوحاه إلى خاتم أنبيائه محمد صلى الله عليه وآله.
وقد تناول القرآن الكريم بإسهاب مسألة السنن والقوانين التي تتحكم بظاهرات حركة التأريخ، ثم تناول مسألة توحد البشرية في المستقبل كما عرض بشكل تفصيلي ان السنن تلك تعمل لصالح دين الله ولصالح المؤمنين بهذا الدين.
وفيما يلي عرض للسنن والغاية والمراحل التي تشكل نظرية حركة التأريخ في التصور الإسلامي.
سنن التأريخ في التصور الإسلامي:
قال الشهيد الصدر قدسسره «الفكرة القرآنية عن سنن التأريخ تبلورت في عدد كثير من الآيات بأشكال مختلفة وبألسنة متعددة، في بعض هذه الآيات أعطيت الفكرة بصيغتها الكلية، كما في قوله تعالى: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ 34﴾(1)، نلاحظ في الآيتين الكريمتين ان الأجل أضيف إلى الأمة لا إلى الفرد، فالمجتمع الذي يعبر عنه القرآن الكريم بالأمة له اجل وموت وحياة، وكما ان الفرد يتحرك فيكون حيا ثم يموت كذلك الأمة تكون حية ثم تموت، وكما ان موت الفرد يخضع لأجل ولقانون وناموس كذلك الأمم لها آجالها المضبوطة، وهناك نواميس تحدد لكل أمة هذا الأجل، وكذلك
في قوله تعالى: ﴿وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً 76 سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً 77﴾(1)، فهذه الآية تؤكد المفهوم العام وان هذه السنة سلكها الله تعالى مع الأنبياء من قبل محمد صلى الله عليه وآله وسوف تستمر.
وفي آيات أخر أعطيت الفكرة عن سنن التأريخ في القرآن بشكل نماذج ومصاديق كقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ﴾(2)، ﴿ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ 53﴾(3)، فالآيتان تقرران ان المحتوي الداخلي النفسي والروحي للإنسان هو القاعدة والوضع
الاجتماعي هو البناء العلوي الذي لا يتغير الا وفقا لتغيير القاعدة وقوله تعالى: ﴿وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ 34 وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ 35﴾(1)، هذه الآية تبني علاقة قائمة بين النبوة على مر التأريخ وموقع المترفين والمسرفين في المجتمعات، وليست ظاهرة وقعت في التأريخ صدفة، والا لما تحدثت عنها الآية بهذا الشكل المطرد ﴿وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ 34﴾ وقوله تعالى: ﴿وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً 16 وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً 17﴾(2)، فهذه الآية
تتحدث عن علاقة معينة بين ظلم يسود وبين هلاك تجر الأمة إليه جرا.
وفي مجموعة ثالثة أعطيت الفكرة بشكل حث وتأكيد على النظر والتدبر في الحوادث التأريخية واستقرائها كقوله تعالى: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها 10﴾(1)، وقوله تعالى: ﴿وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ 36﴾.(2)
اما كيف يتم التعبير موضوعيا عن القانون التأريخي في القرآن الكريم ؟ فيبين الشهيد الصدر (قدس سره) ان هناك ثلاثة أشكال تتخذها السنة التأريخية في القرآن الكريم هي:
الشكل الأول ـ شكل القضية الشرطية:
في هذا الشكل تتمثل السنة التأريخية في قضية شرطية تربط بين حادثتين أو مجموعتين من الحوادث على الساحة التأريخية وتؤكد العلاقة الموضوعية بين الشرط والجزاء وانه متي تحقق الشرط تحقق الجزاء، وهذه صياغة نجدها في كثير من القوانين والسنن الطبيعية والكونية في مختلف الساحات الأخرى، فمثلاً حينما نتحدث عن قانون طبيعي لغليان الماء إذا تعرض إلى الحرارة وبلغت الحرارة درجة معينة مائة مثلاً في مستوي معين من الضغط فحينئذ سوف يحدث الغليان، ومن الواضح ان هذا القانون الطبيعي لا ينبئنا شيئا عن تحقق الشرط وعدم تحققه وإنما ينبئنا ان الجزاء لا ينفك عن الشرط فمتي ما وجد الشرط وجد الجزاء، ومثل هذه القوانين تقدم خدمة
كبيرة للإنسان في حياته الاعتيادية، لان الإنسان ضمن تعرفه على هذه القوانين يصبح بإمكانه ان يتصرف بالنسبة إلى الجزاء، ففي كل حالة يري انه بحاجة إلى الجزاء يعمِل القانون ليوفر شروط هذا القانون ومتي ما رغب عنه عمل على نفي الشرط. نفس الشيء نجده في الشكل الاول من السنن التأريخية القرآنية، ففي قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ﴾ بينت السنة التأريخية بلغة القضية الشرطية وكذلك في قوله تعالى: ﴿وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً 16﴾(1)، وقوله تعالى: ﴿وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً 16﴾(2).
الشكل الثاني ـ شكل الفصلية الناجزة الوجودية المحققة:
وهذا الشكل نجد له أيضا أمثلة وشواهد في القوانين الطبيعية والكونية، مثل العالم الفلكي حينما يصدر حكما علميا على ضوء قوانين مسارات الفلك بان الشمس سوف تنكسف في اليوم الفلاني، هذا قانون علمي وقضية علمية، إلا أنها قضية وجودية ناجزة وليست قضية شرطية، فالقانون هنا يخبر عن وقوع الحادثة في الزمان الآتي على أي حال، وكذلك القرارات العلمية التي تصدر عن الأنواء الجوية (المطر ينهمر على المنطقة الفلانية) والسنة التأريخية التي بينت في القرآن بشكل القضية الوجودية هي الاستخلاف في قوله تعالى: ﴿إِنِّي جاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ والآية تبين ان العلاقة الاجتماعية التي يتحرك الإنسان بموجبها
رباعية لا ثلاثية إذ بتحليل الاستخلاف نجد انه ذو أربعة أطراف لأنه يفترض مستخلفا أيضا فلابد من مستخلِف ومستخلَف عليه ومستخلَف فهناك إضافة إلى الإنسان وأخيه الإنسان والطبيعة يوجد طرف رابع في طبيعة وتكوين علاقة الاستخلاف وهو المستخلِف إذ لا استخلاف بدون مستخلِف فالمستخلِف هو الله سبحانه وتعالي والمستخلَف هو الإنسان وأخوه الإنسان أي الإنسانية ككل، والمستخلَف عليه هو الأرض وما عليها ومن عليها وفي مقابلها توجد للعلاقة الاجتماعية صيغة ثلاثية الأطراف صيغة تربط بين الإنسان والإنسان والطبيعة، ولكنها تقطع صلة هذه الأطراف مع الطرف الرابع.(1)
الشكل الثالث: السنة التأريخية المصاغة على شكل اتجاه طبيعي
السنة التأريخية المصاغة على شكل اتجاه طبيعي هو في حركة التأريخ لا على صورة قانون صارم وحدّي، وفرق بين الاتجاه والقانون، إذ القانون التكويني لا يقبل التحدي من قبل الإنسان، فالإنسان مثلا لا يمكنه ان يجعل الماء لا يغلي إذا توفرت شروط الغليان، اما الاتجاه فهو سنة يمكننا تحديها على شوط قصير، ولكن المتحدي يتحطم على سنن التأريخ نفسها. واهم مصداق يعرضه القرآن الكريم لهذا الشكل من السنن هو الدين، فالدين ليس فقط تشريعات وإنما هو سنة من سنن التأريخ، فقوله تعالى: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ
كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ﴾(1) يبين الدين كتشريع، اما في قوله تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ30﴾(2). فهنا الدين لم يعد مجرد قرار وتشريع من أعلى وإنما الدين هنا فطرة الناس، فطرة الله التي فطر الناس عليها ولا تبديل لخلق الله، فالدين سنة ولكنها ليست صارمة على مستوي الغليان، سنة تقبل التحدي على الشوط القصير، فيمكن تحدي هذه السنة بالإلحاد وغمض العين عن هذه الحقيقة الكبري ولكن هذا التحدي لا يكون الا على شوط قصير لان العقاب سوف ينزل بالملحدين لا العقاب الاخروي، وانما
العقاب هنا من سنن التأريخ نفسها التي تفرض العقاب على كل أمة تريد تبديل خلق الله سبحانه وتعالي: ﴿وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ47﴾(1) ففي سنن الله اليوم الواحد (المهلة القصيرة) هو الف سنة.
أقول: وفيما يلي عرض لخمس سنن تأريخية عُني بها القرآن، والسنة نعتبرها أساسية في تفسير حركة التأريخ في التصور الإسلامي وهي:
1 ـ سنة الفطرة:
قال تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ30﴾(1).
الفطرة في اللغة: الخلقة (2)، وفطر الله الخلق يفطرهم: خلقهم وبدأهم.
وقد وردت في القرآن الكريم اربع عشرة مرة بصيغة الفعل واسم الفاعل بالمعني اللغوي كقوله تعالى: ﴿إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ79﴾(3)، ﴿قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا 72﴾(4) ﴿يا قَوْمِ لا
أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ 51﴾(1)، ﴿قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالأَرْضِ﴾(2)، ﴿قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ﴾(3).
ووردت مرة واحدة بصيغة المصدر (فطرة) وذلك في قوله تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ 30﴾(4)وقد جاء في أحاديث أهل البيت عن النبي صلى الله عليه وآله ان الفطرة هنا يراد بها الإسلام، كما في رواية الصدوق عن عبد الله بن سنان قال سألته عن قول الله عز وجل: فطرة الله التي فطر الناس عليها، ما تلك الفطرة؟ قال هي الإسلام (5). وفي
رواية أخرى هي التوحيد، وثالثة هي الحنيفية، ورابعة معرفته انه ربهم وخامسة هي التوحيد ومحمد صلى الله عليه وآله رسول الله وعلي عليه السلام أمير المؤمنين (1).
وكون الفطرة هي الإسلام معني جديد استعملت اللفظة فيه، وبهذا المعني الجديد ورد قوله صلى الله عليه وآله «كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه يهوّدانه وينصّرانه»(2). وحينئذ تكون (على) بمعني اللام، (فكأنه قال كل مولود يولد للدين ومن اجل الدين) لان الله تعالى لم يخلق من يبلغ مبلغ المكلفين إلا ليعبده فينتفع بعبادته، يشهد بذلك قوله تعالى: ﴿وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ56﴾(3) والدليل على ان (على) يقوم
مقام ماحكاه يعقوب بن السِّكيت بن أبي يزيد عن العرب انهم يقولون: صف عليَّ كذا وكذا حتى اعرفه بمعنى صف لي، ويقولون ما أعبطك عليَّ يريدون ما أغبطك لي، والعرب تقيم بعض الصفات مقام بعض وإنما ساغ ان يريد بالفطرة التي هي الخلقة في اللغة الدين من حيث كان هو المقصود بها، وقد يجري على الشيء اسم ماله به هذا الضرب من التعلق والاختصاص وعلى هذا يتأول قوله تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها﴾ اراد دين الله الذي خلق الخلق له، وقوله تعالى: ﴿لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ﴾ أراد به ان ما خلق العباد له من العبادة والطاعة ليس مما يتغير ويختلف حتى يخلق قوما للطاعة وآخرين للمعصية ويجوز ان يريد بذلك الأمر وان كان ظاهره الخبر فكأنه قال: (لا
تبدلوا ما خلقكم الله له من الدين والطاعة بان تعصوا وتخالفوا)(1).
وقال السيد الطباطبائي رحمه الله في بيان معني كون الدين فطريا: «إذا تأملنا هذه الأنواع الموجودة التي تتكون وتتكامل تدريجا سواء كانت ذوات حياة وشعور كأنواع الحيوان أو ذات حياة فقط كأنواع النبات أو ميتة غير ذي حياة كسائر الأنواع الطبيعية ـ على ما يظهر لنا ـ وجدنا كل نوع منها يسير في وجوده سيرا تكوينيا معينا ذا مراحل مختلفة بعضها قبل بعض وبعضها بعد بعض يرد
(1) بحار الأنوار 3: 281 نقلاً عن السيد المرتضي في كتابه الغرر والدرر وقد ذكر في كلامه: ان قوله صلى الله عليه وآله يولد على الفطرة يحتمل أمرين: احدهما ان تكون الفطرة ههنا الدين ويكون على بمعني اللام، والوجه الآخر يكون المراد به الخلقة وتكون لفظ (على) على ظاهرها لم يرد بها غيره ويكون المعني كل مولود يولد على الخلقة الدالة على وحدانية الله تعالى وعبادته لأنه جل وعز قد صور الخلق وخلقهم على وجه يقضي النظر فيه معرفته والإيمان به وان لم ينظروا ويعرفوا فكأنه عليه السلام قال: كل مخلوق ومولود فهو يدل بخلقته وصورته على عبادة الله وان عدل بعضهم فصار يهوديا أو نصرانيا.
النوع في كل منها بعد المرور بالبعض الذي قبله وقبل الوصول إلى ما بعده ولا يزال يستكمل بطي هذه المنازل حتى ينتهي إلى آخرها وهو نهاية كماله.
وهذا التوجه التكويني لاستناده إلى الله يسمي هداية عامة إلهية وهي كما عرفت لا تضل ولا تخطيء في تسيير كل نوع في مسيره التكويني وسوقه إلى غايته الوجودية بالاستكمال التدريجي وبأعمال قواه وأدواته التي جهز بها لتسهيل مسيره إلى غايته قال تعالى: ﴿قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى 50﴾(1)، وقال ﴿الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى 2 وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى 3 وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى 4 فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى 5﴾(2).
نوع الإنسان غير مستثني من كلية الحكم
المذكور اعني شمول الهداية العامة له، فنحن نعلم ان النطفة الإنسانية من حين تشرع في التكوين متوجهة إلى مرتبة إنسان تام كامل له آثاره وخواصه قد قطع في مسيره مراحل الجنينية والطفولية والمراهقة والشباب والكهولة والشيب.
غير ان الإنسان يفارق سائر الأنواع الحيوانية والنباتية وغيرها فيما نعلم في أمر(1)وهو أنه لسعة حاجته التكوينية وكثرة نواقصه الوجودية لا يقدر على تتميم نواقصه الوجودية ورفع حوائجه الحيوية وحده، بمعني ان الواحد من الإنسان لا تتم له حياته الإنسانية وهو وحده بل يحتاج إلى اجتماع منزلي ثم اجتماع مدني يجتمع فيه مع غيره بالازدواج والتعاون والتعاضد،
فيسعى الكل بجميع قواهم التي جهزوا بها للكل ثم يقسم الحاصل من عملهم بين الكل فيذهب كل بنصيبه على قدر زنته الاجتماعية.
والمجتمع الإنساني لا يتم انعقاده ولا يعمر الا بأصول علمية وقوانين اجتماعية يحترمها الكل ويحفظها من الضيعة ويجريها في المجتمع وعند ذلك تطيب لهم العيشة وتشرف عليهم السعادة.
اما الأصول العلمية فهي معرفته إجمالاً بما عليه نشأة الوجود من الحقيقة وما عليه الإنسان من حيث البداية والنهاية فان المذاهب المختلفة مؤثرة في خصوص السنن المعمول بها في المجتمعات، فالمعتقدون في الإنسان أنه مادي محض ليس له من الحياة الا الحياة المعجلة المؤجلة بالموت وأن ليس في دار الوجود الا السبب المادي للكائن
الفاسد ينظمون سنن اجتماعهم بحيث تؤديهم إلى اللذائذ المحسوسة والكمالات المادية ما وراءها شيء.
والمعتقدون بصانع وراء المادة كالوثنية يبنون سننهم وقوانينهم على إرضاء الآلهة ليسعدوهم في حياتهم الدنيوية. والمعتقدون بالمبدأ والمعاد يبنون حياتهم على أساس يسعدهم في الحياة الدنيوية ثم في الحياة المؤبدة التي بعد الموت، فصور الحياة الاجتماعية تختلف باختلاف الأصول الاعتقادية في حقيقة العالم والإنسان الذي هو جزء من أجزائه.
واما القوانين والسنن الاجتماعية فلولا وجود قوانين وسنن مشتركة يحترمها المجتمعون جميعهم أو اكثرهم ويسلمون لها لتفرق الجمع وانحل المجتمع.
وهذه السنن والقوانين قضايا كلية عملية
صورها: يجب ان يفعل كذا عند كذا أو يحرم أو يجوز، وهي ايا ما كانت معتبرة في العمل لغايات مصلحة للاجتماع والمجتمع تترتب عليها تسمي مصالح الاعمال ومفاسدها.
قد عرفت ان الإنسان انما ينال ما قدر له من كمال وسعادة بعقد مجتمع صالح يحكم فيه سنن وقوانين صالحة تضمن بلوغه ونيله سعادته التي تليق به، وهذه السعادة أمر أو أمور كمالية تكوينية تلحق الإنسان الناقص الذي هو أيضا موجود تكويني فتجعله إنسانا كاملاً في نوعه تاما في وجوده.
فهذه السنن والقوانين ـ وهي قضايا علمية اعتبارية ـ واقعة بين نقص الإنسان وكماله متوسطة كالعبرة بين المنزلتين، وهي كما عرفت تابعة للمصالح التي هي كمال أو كمالات انسانية، وهذه الكمالات امور حقيقية مسانخة ملائمة للنواقص التي هي
مصاديق حوائج الإنسان الحقيقية.
فحوائج الإنسان الحقيقية هي التي وضعت هذه القضايا العملية واعتبرت هذه النواميس الاعتبارية، والمراد بالحوائج هي ما تطلبه النفس الإنسانية بأميالها وعزائمها ويصدقه العقل الذي هو القوة الوحيدة التي تميز بين الخير والنافع وبين الشر والضار دون مات طلبه الأهواء النفسانية مما لا يصدقه العقل فانه كمال حيواني غير إنساني.
فأصول هذه السنن والقوانين يجب ان تكون الحوائج الحقيقية التي هي بحسب الواقع حوائج لا بحسب تشخيص الأهواء النفسانية.
وقد عرفت ان الصنع والإيجاد قد جهز كل نوع من الأنواع ـ ومنها الإنسان ـ من القوي والأدوات بما يرتفع بفعاليته حوائجه ويسلك به سبيل الكمال ومنه يستنتج ان
للجهازات التكوينية التي جهز بها الإنسان اقتضاءات للقضايا العملية المسماة بالسنن والقوانين التي بالعمل بها يستقر الإنسان في مقر كماله مثل السنن والقوانين الراجعة إلى التغذي المعتبرة بما ان الإنسان مجهز بجهاز التغذي والراجعة إلى النكاح بما ان الإنسان مجهز بجهاز التوالد والتناسل».(1)
فالدين هو الطريقة المسلوكة التي يقصد بها الوصول إلى السعادة الحقيقية والسعادة الحقيقية هي الغاية المطلوبة التي يطلبها الشيء حسب تركب وجوده وتجهزه بوسائل الكمال طلبا خارجيا واقعيا، وحاشا ان يسعد الإنسان أو أي شيء آخر من الخليقة بأمر لم يتهيأ بحسب خلقته له أو هيّأ لخلافه كأن يسعد بترك التغذي أو النكاح أو ترك المعاشرة والاجتماع وقد جهز بخلافها، أو
يسعد بالطيران كالطير أو بالحياة في قعر البحار كالسمك ولم يجهز بما يوافقه(1).
فالإنسان لما كان مجهزا بجهاز التغذية والنكاح كان حكمه الحقيقي في دين الفطرة هو التغذي والنكاح دون الجوكية والرهبانية مثلا، ولما كان مطبوعا على الاجتماع والتعاون كان من حكمه ان يشارك سائر الناس في مجتمعهم ويقوم بالأعمال الاجتماعية، وعلى هذا القياس فالدين الحق هو الذي يوافق بنواميسه الفطرة(2).
وخلاصة الأمر في قانون الفطرة هو أمران:
الأول: ان خلقة الإنسان ثابتة لاتتغير وكذلك ما تتقوم به الفطرة من خصائص وتفرزه من حاجات.
الثاني: ان هذه الفطرة لا يوافقها الا دين الله وأحكامه وشريعته، ففي ظله تنمو وتزكو، وإذا فرض عليها دين آخر فقد تقبله لفترة محدودة ثم تلفظه أحيرا حين تتراكم الآثار السيئة في الفرد والمجتمع بسبب نقص ذلك الدين وبطلانه وبسبب ثبات الفطرة وعدم تبدلها.
2 ـ سنة (لا يصلح الناس الا امام عادل أو امام فاجر):
روي أبو بصير عن أبي عبد الله عليه السلام قال: «لا يصلح الناس الا إمام عادل أو إمام فاجر»، ان الله عز وجل يقول: ﴿وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا﴾ وقال: ﴿وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ﴾»(1).
ومن كلام لعلي عليه السلام حين دخل رجل
المسجد فقال: لاحكم إلا لله ثم قال آخر: لاحكم إلا لله فقال عليه السلام: «لاحكم الا لله ﴿وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ﴾(1) فما تدرون ما يقول هؤلاء ؟ يقولون: لا إمارة، أيها الناس انه لا يصلحكم الا أمير بر، أو فاجر، قالوا: هذا البر فقد عرفناه، فما بال الفاجر؟ فقال يعمل المؤمن، ويملي للفاجر، ويبلغ الله الأجل، وتأمن سبلكم وتقوم أسواقكم، ويجبي فيـئكم ويجاهد عدوكم ويؤخذ للضعيف من الشديد منكم»(2).
وعن الفضل بن شاذان عن الرضا عليه السلام قال: «… ومنها إنا لا نجد فرقة من الفرق ولا ملة من الملل بقوا وعاشوا الا بقيم أو رئيس لما لابد لهم منه في أمر الدين والدنيا فلم يجز في حكمة الحكيم ان يترك الخلق مما
يعلم انه لابد لهم منه ولا قوام لهم إلا به»(1).
ان هذه النصوص تشير إلى ضرورة وجود رئيس لكل جماعة فحين يكون عادلاً أي حاكما بكتاب الله وسنة نبيه فسوف تستقيم الحياة الاجتماعية وتتفجر طاقات الإنسان في إطارها. أما حين يكون ظالما فسيحيا الناس في ظله لفترة محدودة ثم ينتفض الناس عليه ويستبدلونه بحاكم آخر أو تنهار تلك الجماعة أصلاً على يد جماعة أخري وقيادة أخرى من خارجها.
3 ـ سنة (لا تخلو الأرض من حجة لله):
عن عبد الله بن سليمان العامري عن أبي عبد الله عليه السلام قال: «ما زالت الأرض الا ولله فيها الحجة، يعرف الحلال والحرام، ويدعو الناس إلى سبيل الله»(1).
وفي رواية عن أبي عبد الله عليه السلام قال: «لو كان الناس رجلين لكان احدهما الإمام». وقال: «ان آخر من يموت الإمام، لئلا يحتج أحد على الله عز وجل انه تركه بغير حجة لله عليه»(2).
وعن عبد الله بن جندب قال «سألت أبا الحسن عليه السلام عن قول الله عز وجل: ﴿وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ 51﴾ قال:
إمام بعد إمام»(1).
وعن أبان بن تغلب قال، قال: سألت أبا الحسن عليه السلام الحجة قبل الخلق ومع الخلق وبعد الخلق(2).
ومن كلام لعلي عليه السلام: «اللهم … فانك لا تخلي أرضك من حجة على خلقك، اما ظاهر مطاع، أو خائف مغمور ليس بمطاع لكي لا تبطل حجتك، ويضل أولياؤك بعد إذ هديتهم»(3).
4 ـ سنة (إهلاك المستكبرين واستخلاف المستضعفين):
قال تعالى: ﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ 55﴾(1).
قال الشيخ المفيد رحمه الله ان مراد الآية بالاستخلاف إنما هو توريث الأرض والديار والنعمة لأهل الإيمان بعد هلاك الظالمين لهم من الكفار. دون ما ظنه القوم من الاستخلاف في مقام النبوة وهي الإمامة وفرض الطاعة على الأنام.
الا تري ان الله سبحانه قد جعل ما وعد به من ذلك مماثلاً لما فعله بالمؤمنين وبالأنبياء
قبل هذه الآية بالاستخلاف، واخبر بكتابه عن حقيقة ذلك وصورته ومعناه، وكان بصريح ما انزله من القرآن مفيدا لما ذكرناه من توريث الديار والنعم والأموال عموم المؤمنين من دون خصوصهم ومعني ما بيناه من دون الإمامة اليهم التي هي خلافة النبوة والإمرة والسلطان، قال الله تعالى: ﴿قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ 128 قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ 129﴾(1) فبشرهم بصبرهم على أذى الكافرين بميراث ارضهم والملك لديارهم من بعدهم والاستخلاف على نعمتهم، ولم يرد بشيء من ذلك تمليكهم مقام النبوة
والإمامة على سائر الأمة بل أراد ما بيناه.
ونظير هذا الاستخلاف من الله لعباده ومما هو في معناه قوله جل اسمه في سورة الأنعام: ﴿وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ 133﴾(1) وليس هذا الاستخلاف من الإمامة وخلافة النبوة في شيء، وإنما هو ما قدمنا ذكره ووصفناه وقوله تعالى: ﴿ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ 14﴾(2) إنما أراد بذلك تبقيتهم بعد هلاك الماضين وتوريثهم ما كانوا فيه النعم فجعله من مننه عليهم ولطفه بهم ليطيعوه ولا يكفروا به كما فعل الأولون(3).
ومنه قوله تعالى: ﴿آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ 7﴾(1) وقد علم كل ذي عقل ان هذا الاستخلاف مباين للإمامة في معناه.
وقد وفي الله لأصحاب نبيه صلى الله عليه وآله جميعا في حياته وبعد وفاته، ففتح لهم البلاد وملكهم رقاب العباد واحلهم الديار واغنمهم الأموال فقال عز من قائل: ﴿وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها27﴾(2).
وتقع ضمن هذه السنة سنن فرعية، كالسنة التي يشير إليها قوله تعالى: ﴿وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً 16﴾(3).
والسنة التي يشير إليها قوله تعالى: ﴿وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً 76 سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً 77﴾(1).
والسنة التي يشير إليها قوله تعالى: ﴿وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً 22﴾(2).
والسنة التي يشير إليها قوله تعالى: ﴿ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ 53﴾(3).
5 ـ سنة شكر النعمة والاستمرار أو كفر النعمة والبوار:
قال تعالى: ﴿ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ 53 كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ 54﴾ (1).
وقال تعالى: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ 167﴾(2).
وقال تعالى: ﴿ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ 14﴾(3).
وقال تعالى: ﴿عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ
تَعْمَلُونَ 129﴾(1).
وقال تعالي: ﴿وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً 4 فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً 5 ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً 6 إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً 7 عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً 8﴾ (2).
وقال تعالى: ﴿وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى
أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ 144﴾ (1).
وقال تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ 100 تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ 101 وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ 102﴾(2).
غاية حركة التأريخ:
توجد في القرآن الكريم والسنة المطهرة نصوص كثيرة جدا تتناول المستقبل الذي سيكون عليه الواقع البشري، وقد جاءت
مرة بلسان الحديث عن الهدف الأعلى للبشرية، وأخرى بلسان الحديث عن الانتصار الحتمي لخط أنبياء الله وظهور دينه على الدين كله، وثالثة بلسان الحديث عن الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه ولي الله المذخور لأحداث المرحلة الأخيرة في التأريخ على الأرض.
قال الله تعالى: ﴿وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ 56﴾(1) والآية تدل على ان الهدف الأساسي من خلق البشرية هو عبادتهم لله الخالق القدير، وذلك بقرينة وجود التعليل في قوله تعالى: ﴿لِيَعْبُدُونِ﴾مع الحصر المستفاد من الآية من وقوع اداة الاستثناء (الا) بعد النفي، والعبادة بمعناها العميق تقتضي إيحاد المجتمع المعصوم برأيه العام بل المعصوم بكل أفراده، ولهذا الغرض لابد ان
يشاء الله تعالى إيحاد كل ما يحققه والحيلولة دون كل ما يحول عنه شأن كل غرض الهي مهم(1).
وقال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ 33﴾ (2)، وهي تعطينا بوضوح الغاية والغرض الرئيس من إرسال رسول الإسلام صلى الله عليه وآله بالهدي ودين الحق، يدلنا على ذلك قوله تعالى: ﴿لِيُظْهِرَهُ﴾ حيث دلت لام التعليل على الغاية والسبب في إنزال شريعة الإسلام وهو ان يظهره أي يجعله منتصرا ومسيطرا على غيره من الأديان والعقائد كلها، وذلك لا يكون الا بسيطرة الحق على العالم كله (3).
وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ
الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ 105﴾(1).
وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ 171 إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ 172﴾ (2).
وقال تعالى: ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهادُ 51﴾(3).
المراحل العامة لحركة التأريخ
يستفاد من ظواهر القرآن الكريم ان لحركة التأريخ البشري ثلاث مراحل هي:
الأولى: مرحلة الوحدة الفطرية وهي مرحلة وجود آدم وحواء في الجنة.
الثانية: مرحلة الاختلاف وبعثة الأنبياء بدءا من آدم.
الثالثة: مرحلة المجتمع الصالح الوارث للأرض كلها على يد الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه.
يشير إلى المرحلة الأولى والثانية قوله تعالى: ﴿كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ
مُسْتَقِيمٍ 213﴾(1).
وقوله تعالى: ﴿وَما كانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ 19﴾ (2).
ويشير إلى المرحلة الثالثة قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ 105﴾(3).
تستوعب مرحلة الاختلاف كل تأريخ البشرية وكل أفراد بني الإنسان. يتعرض فيها كل إنسان إلى الابتلاء وهو الإطار العام الذي أطرّ به الحياة الدنيا كما في قوله تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ 2﴾(4).
﴿ تعالى وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً
وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ تعالى ﴾(1).
﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ165﴾(2).
﴿وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ118 إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ 119﴾(3).
اما المرحلة الأولى والثانية فقد خرجتا عن إطار الابتلاء والاختلاف وذلك لان المرحلة الأولى لم تكن مرحلة تكليف وابتلاء أصلاً.
وأما المرحلة الثالثة فهي مرحلة انتصار الوجبة الأخيرة من الممحصين من عباد الله
على يد بقية أصفيائه، وإنما جعلت مرحلة لامتيازها عن غيرها من عهود النصر الإلهي باتصالها بيوم القيامة وأوله الحشر الأصغر (الرجعة)(1)، حيث يرجع من محض الإيمان محضا ليزيد الله تعالى من سروره برؤيته عاقبة المتقين في الدنيا ويرجع من محض الكفر محضا ليزيد الله من حزنه وحسرته بذلك أيضا.
وبامتيازها أيضا بعدم ظهور ولادات جديدة للمؤمنين لان ذلك يستلزم تكرار حالة الاختلاف(2)، إذ لا تبديل لخلق الله، والاختلاف يستلزم تحريف الدين ومن ثم وجود وصي للنبي الخاتم أو بعثة نبي جديد وكلاهما لم يشأه الله تعالى إذ ختم النبوة
(1) كما في روايات أهل البيت عليهم السلام تفسيرا لقوله تعالى ﴿وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ 82 وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ 83﴾النمل: 82، 83.
(2) قبالة هذا الرأي توجد روايات تفيد ان الانحراف يقع بعد المهدي عجل الله تعالى فرجه وان الساعة تقوم على أشرار الناس.
بمحمد صلى الله عليه وآله وإذ ختم أوصياء النبي الخاتم بالإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه.
تم بحمد الله
