تُعدّ الدراسات المقارنة في حقل التاريخ عملاً متأخِّراً نوعاً ما، ينبغي لنا أن نواصل العمل عليه؛ لأنّنا سوف نتعرّف من خلاله على حقائق وقضايا جديدة لا يمكننا أن نحصل عليها إلّا من خلال المقارنة. لو أخذنا سيرة علي والحسن والحسين عليهم السلام، لوجدنا مراحل مسيرتهم التي تنتهي بالفتح الحسيني، وتركة الحسين عليه السلام المتمثِّلة بكتاب الله والأئمّة التسعة من ذرّيته، تتطابق كاملاً مع مراحل البعثة النبويّة بخصوص الخلفية، والهدف، والمراحل، والفتح، والتركة.
هذا البحث الذي هو بعنوان «النهضة الحسينية والبعثة النبوية دراسة مقارنة في الخلفية والأهداف» للعلامة السيد سامي البدري ـ عبارة عن ندوة علمية أُقيمت في مؤسسة وارث الأنبياء للدراسات التخصصية في النهضة الحسينية، بتاريخ ١/٩/٢٠١١. ونشر في مجلة الإصلاح الحسيني العددان 31ـ32 .
وقد اقتبسنا النص من موقع مؤسسة وارث الأنبياء.
وقد أعدنا ترقيم المباحث مع عدم تغيير في النص.
المحتويات
«صفحة 1»
«صفحة 2»
عنوان الإصدار : النهضة الحسينية والبعثة النبوية دراسة مقارنة في الخلفية والأهداف
اعداد : السيد سامي البدري
سنة الإصدار : 2022/1444
نوع الإصدار : إلكتروني ـ PDF
الناشر : مركز فجر عاشوراء الثقافي
الموقع : fajrashura.com
ملاحظة: ترقيم الصفحات وافق للاصدار المنشور
«صفحة 3»
«صفحة 4»
«صفحة 5»
مقدِّمة(1)
تُعدّ الدراسات المقارنة في حقل التاريخ عملاً متأخِّراً نوعاً ما، ينبغي لنا أن نواصل العمل عليه؛ لأنّنا سوف نتعرّف من خلاله على حقائق وقضايا جديدة لا يمكننا أن نحصل عليها إلّا من خلال المقارنة. وعليه؛ فقد قمتُ شخصياً بدراسات مقارنة متعدّدة، منها: المقارنة بين سيرة موسى (عليه السلام) وأهل بيته مع سيرة محمد (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام) على مدى أكثر من أربعة عشر قرناً، وكانت النتائج باهرة جدّاً.
وقد شجّعتني هذه المقارنة على أن أُجري مقارنة بين البعثة النبويّة وسيرة أهل البيت (عليهم السلام)، وقد ذكرتُ جدولاً مختصراً بهذه السيرة في كتابي (الإمام الحسن (عليه السلام) في مواجهة الانشقاق
ـــــــــــــــــــــــ
(1) هذا البحث عبارة عن ندوة علمية أُقيمت في مؤسسة وارث الأنبياء للدراسات التخصصية في النهضة الحسينية، بتاريخ ١/٩/٢٠١١. ونشر في مجلة الإصلاح الحسيني العددان 31ـ32 وقد اقتبسنا النص من موقع مؤسسة وارث الأنبياء.
«صفحة 6»
الأُموي)(1)، يُبيِّن هذا الجدول التطابق العجيب والمثير جدّاً بين مراحل السيرة النبويّة مع سيرة الإمام علي (عليه السلام) والإمامين الحسن والحسين (عليهما السلام)، بدءاً من الخلفيات، ثمّ الهدف، ثمّ المراحل، ثمّ النهاية (الفتح والتركة)؛ بمعنى: لو أخذنا سيرة علي والحسن والحسين (عليهم السلام)، لوجدنا مراحل مسيرتهم التي تنتهي بالفتح الحسيني، وتركة الحسين (عليه السلام) المتمثِّلة بكتاب الله والأئمّة التسعة من ذرّيته، تتطابق كاملاً مع مراحل البعثة النبويّة بخصوص الخلفية، والهدف، والمراحل، والفتح، والتركة، وقد اقتطعت جزءاً من هذه الدراسة المقارنة فيما يتعلّق بالحسين (عليه السلام).
إنّ الفضل ـ كلّ الفضل ـ يعود في دراساتي لأحاديث أهل البيت (عليهم السلام)، خصوصاً تلك الدراسات التي اكتشفت فيها جديداً في السيرة والتاريخ، فقد كنتُ أتعامل مع تلك الروايات كمفاتيح، وهذا الذي ينبغي أن ننطلق منه في روايات أهل البيت (عليهم السلام)، فبين أيدينا كمٌّ هائل من التراث. نعم، ربّما بعضه لا يصلح باعتباره
ـــــــــــــــــــــــ
(1) هذا الكتاب ظاهره تاريخٌ، ولكن واقعه هو المنهج التاريخي في إثبات إمامة أهل البيت .
«صفحة 7»
قد نُسب إليهم خطأً، أمّا بعضه الآخر فيصلح حينما تصحّ النسبة أو حينما يفتح لنا آفاقاً جديدة؛ إذ أحياناً تأتي رواية عن الإمام (عليه السلام) مرسلة ولا نمتلك ما يُثبِت صحّتها، ولكنّها كمفتاح بإمكانها أن تُعطي فوائد معرفية وعلمية.
وقد يرد هنا سؤال، وهو: كيف نعرف ـ على سبيل المثال ـ أنّ هذا المفتاح نافعٌ وصحيح؟
الجواب: حينما يفتح لنا باباً من المعرفة ـ وهذه قضية واقعية ـ ونتحرّك في الداخل نجد خزانةً وعلماً؛ فنكتشف أنّ هذه الرواية هي لهم، وخاصّة إذا كانت هذه الخزانة تشتمل على معلومات جديدة ما كنّا نطمح أن نكتشفها إلّا ببركة هذا المفتاح؛ ولذلك لا نحتاج معه إلى تصحيح السند، وإنّما الأثر الواقعي الذي حقّقه المفتاح هو دليل على صدق نسبتها إلى الأئمّة (عليهم السلام).
إنّ دراستنا هذه تهدف إلى بيان التشابه الحاصل بين حركة النبي (صلى الله عليه وآله) وحركة الإمام الحسين (عليه السلام) في جميع المراحل، سواء الخلفية منها، أم الهدف، أم المراحل، أم الفتح والتركة؛ وعليه نعقد دراستنا هذه في مباحث عدّة:
«صفحة 8»
المبحث الأوّل ـ خلفية البعثة النبويّة والنهضة الحسينيّة:
إنّ إحدى نقاط الاشتراك بين البعثة النبويّة والنهضة الحسينيّة هي الخلفية؛ ولذا نطرح هذا البحث أولاً ببيان الخلفية من البعثة النبويّة، ثمّ بيان خلفية النهضة الحسينيّة.
الأمر الأول ـ خلفية البعثة النبويّة:
إنّ الخلفية الداعية لبعثة النبي (صلى الله عليه وآله)هي تحريف دين إبراهيم من قِبل قريش(1)، مع أنّها كانت تؤمن بدين إبراهيم، وتنتمي إليه وإلى قبلته، وتعمل بشريعته، فهي منذُ زمن قصيّ إلى زمن عبد المطّلب لا تعبد الأصنام وإن كانت معلقة على الكعبة؛ لأنّ الذي علّق الأصنام على الكعبة هم قبيلة خزاعة، حينما تولّت البيت بقيادة عمرو بن لحي والذي جاء بهبل(2) من سوريا، فعادت الأيّام بأن تنصب خزاعة ـ وخزاعة هي قبيلة
ـــــــــــــــــــــــ
(1) من المعروف أنّ إبراهيم صاحب كتاب، إلّا أنّه قد ضُيِّع.
(2) هبل هو: مقلوب بعل، وبعل هو مردخ في بابل الذي علّق إبراهيم الفأس برقبته يوم حطّم الأصنام، وهو ـ بنظرهم ـ أحد الملائكة؛ إذ كانوا يعبدون الملائكة، وأحياناً يُعظَّم ملك من الملائكة بسبب من الأسباب أكثر من غيره، فيُصبح رمزاً لتلك المدينة التي علّقته في معابدها أو اهتمّت به.
«صفحة 9»
تنتمي إلى إبراهيم أيضاً ـ الأصنام فعلّقت هُبل (بعل) على الكعبة.
والسؤال المطروح هو: مَن هم قريش؟ الجواب: هم ذرّية فِهر؛ إذ ظهر هذا اللقب أيّام قصيّ، فلُقِّب قصيّ بقريش(1)؛ لأنّه جمع ذريّة فِهر، وكانت قبل ذلك بيوتاً متفرّقة، فجمعها لمّا استولى على البيت في حربه مع خزاعة، مستعيناً بأخيه لأُمّه رازح، الذي كان شيخ عشيرة خضاعة في الشام، وكذلك بوِلد عمّه؛ إذ كانوا بيوتاً متفرّقة يشعرون أنّ خزاعة انتزعت منهم موقع السدانة، وهم الأولياء الشرعيّون. ومن الطبيعي أنّ الأُسرة التي تشعر بأنّ حقّها مغتصب سوف تكون بمعزل عن البِدَع التي يأتي بها الغاصبون ـ وربّ ضارّةٍ نافعة ـ فغَصْب حقّهم كان في ضررهم، لكنّه قد صانهم من جهة أُخرى، وهي: عدم وقوعهم تحت تأثير هذه البدعة؛ أي: بدعة أن يُؤتى بالصنم ويوضَع في الكعبة.
آباء النبي (صلى الله عليه وآله) حملة الوصية الإبراهيمية:
انتهت الوصية إلى قصيّ من زمن إسماعيل،
ـــــــــــــــــــــــ
(1) معنى قريش: التجمّع. اُنظر: الفراهيدي، الخليل بن أحمد، العين: ج5، ص39.
«صفحة 10»
وهي وصية إبراهيم التي تحمل نبوءة محمد (صلى الله عليه وآله) واثني عشر إماماً من أهل بيته (عليهم السلام)، وهي ما زالت مسجّلة في التوراة المتداولة عالمياً اليوم، وتُسمّى ببركة إسماعيل. يقول إبراهيم (عليه السلام): «يا ربّ، بارك في إسماعيل بعدما رأيته قد استجاب لأمرك. قال: ها أنا باركته وأثمرته ونميّته جدّاً جدّاً، اثني عشر رئيساً يلد، وأجعله أُمّة كبيرة»(1). فكان يتداول هذه الوصية أوصياء إبراهيم من ذرّية إسماعيل. هذا في الترجمة العربية.
وإذا رجعنا إلى الأصل العبري نجد أنّ لفظ (جدّاً جدّاً) يقابله عبارة (بمئود مئود)، وتعني كذلك: (جدّاً جدّاً). يقول علماء اليهود الذين أسلموا: إنّ هذا اللفظ هنا (بمئود مئود) بحساب الجمل يساوي (92)، وهي القيمة العددية لاسم النبي المبعوث، فكأنّه كان هنا اسم محمد (صلى الله عليه وآله) وحرَّفوه إلى كلمة (بمئود مئود).
فآباء النبي (صلى الله عليه وآله) أوصياء إبراهيم من ذرّية إسماعيل، يحملون النبوءة، ويحملون تراث إبراهيم (عليه السلام)، وإن انحرفت الفروع والذرّية، فهؤلاء الأوصياء لا ينحرفون. وقصيّ هو
ـــــــــــــــــــــــ
(1) سفر التكوين، الإصحاح (17)، الفقرة:20.
«صفحة 11»
من جملة هؤلاء الأوصياء، وقد ذكرت كتب التاريخ أنّ أجداده كانوا يبشِّرون بالنبي (صلى الله عليه وآله)، إلى أن انتهت إليه الوصية، واستطاع أن يسترجع البيت، فأسّس التجمّع من ذرّية (فِهر) الذي يُعدّ وصياً أيضاً. وعليه؛ فقد استمرّت الوصية في بيته بالنصّ، على خلاف ما هو مشهور في كتب التاريخ من أنّ قريشاً ابتكرت الوصية، فالوصيّة مستمرّة من إسماعيل إلى أبي طالب؛ وصيّة تحمل البِّشارة بالنبي المكّي، وأنّ هذا البيت أُسِّس ليستقبل محمداً (صلى الله عليه وآله).
قريش وعبادة الأصنام:
إنّ النظرية المطروحة هي أنّ قريشاً لم تكن تعبد الأصنام على الرغم من أنّها معلَّقة على الكعبة، ولم يعترض على ذلك قصيّ؛ لأنّ عبادة الأصنام قضية لها واقع، فكانت تعبدها كنانة ـ وهي أكبر قبيلة في ذرّية إسماعيل ـ وكذلك خزاعة وقضاعة في الشام؛ ولذا فإنّ الاعتراض على المعبودات والمنع منها سوف يفوِّت على قصيّ السيطرة على الكعبة، وتأسيس تجمّع في مكّة ينتظر النبي الإسماعيلي المكّي محمداً (صلى الله عليه وآله). وعليه؛ فتحطيم الأصنام سوف يفوِّت مكاسب كثيرة، وعلاوةً
«صفحة 12»
على ذلك أنّ تحطيمها ليس وظيفة أيّ أحدٍ، وفي أي مكان، وخصوصاً إذا كان المكان هو مكّة.
نعم، إنّ قريشاً بعد وفاة عبد المطّلب انفتحت على الشرك وبدأت تعبد الأصنام(1)؛ لسبب قد اهتدينا إليه، وهو: أنّ بطون قريش حسدت بيت هاشم ـ المتمثِّل بعبد المطّلب وبيته(2) حول الزعامة، وانتظروا موت عبد المطّلب، فقاموا بالانقلاب على أبي طالب وادّعوا أنّهم آل الله(3).
وكيف يمكن لقريش أن تنجح في انقلابها هذا؟ كان تحليلنا هكذا: إنّها قامت بالتقرّب إلى الأصنام في بداية الأمر كعملٍ سياسي؛ من أجل كسب قبائل كنانة وقُضاعة وخُزاعة، فعبدوا
ـــــــــــــــــــــــ
(1) خلافاً للرؤية المشهورة بأنّ قريش كانت تعيش الشرك قبل ذلك.
(2) کان عند هاشم عبدُ المطلب فقط؛ ولذلك حينما نقول: بني هاشم، أو نقول: بني عبد المطّلب، فواحدٌ. وكان وصي عبد المطّلب هو أبو طالب.
(3) مصطلح (آل الله) برز على يد عبد المطّلب، لمّا دفع الله به الفيل؛ فقد كان لعبد المطّلب موقفٌ واضحٌ جداً في قصّة الفيل، إذ قال لقريش: تعالوا نقاتل والنصر من الله تعالى. فرفضوا وقالوا: لا طاقة لنا بذلك. فالله تعالى أيّد عبد المطّلب وصار هو الأَوْلى بالله من الناحية الواقعية؛ لأنّ نصر الله جرى على يده، فادّعت قريش هذا اللّقب بعد موته، وقالوا: بل نحن آل الله، الله تعالى دفع عنّا جميعاً ولا يختصّ ذلك ببني هاشم؛ فظهرت بيوت قريش وادّعت الزعامة، وأحدثوا البدع.
«صفحة 13»
هذه الأصنام تدريجياً خلال الأربعين سنة، وما تعني عبادتهم إلّا التقرّب بهذه الأصنام إلى الله: ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى الله زُلْفَى﴾(1)، ولم يكونوا يعتقدون أنّ هذه الأصنام تخلق وتبعث الرسل وما شاكل ذلك، فهم باقون على دين إبراهيم.
ربما يستغرب أحدٌ كيف يكون ذلك؟! نقول: ها هم بنو إسرائيل قد بنو بيت المقدس، وكانت القبلة إليه وعندهم التوراة، إلّا أنّهم بعد سليمان ـ وسليمان امتداد لموسى ـ انحرفوا وعبدوا الأصنام، مع اعترافهم بأنّهم على دين موسى، وأنّهم يحملون التوراة، ويحجّون إلى البيت، فعبدوا الأصنام وضاعت عندهم التوراة، فأخرجها لهم بعد السبي البابلي (عُزير) مرّة ثانية(2)؛ لأنّه كان يملكها كوثيقة يتداولها آل هارون، وعُزير آخِرُ آلِ هارون قبل السبي البابلي.
فإذاً، هناك تشابه كبير جدّاً وواضح؛ فبنو إسرائيل على دين موسى (عليه السلام)، ويؤمنون بتوراة
ـــــــــــــــــــــــ
(1) الزمر: آية3.
(2) عُزير: هو الذي قال عنه القرآن الكريم: ﴿أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىَ يُحْيِـي هَـَذِهِ الله بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ الله مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ﴾ (البقرة: 259).
«صفحة 14»
موسى، ولكنّها فُقِدَت، وكذلك قريش، فهم على دين إبراهيم (عليه السلام)، ويؤمنون أنّ إبراهيم رسولٌ وله صُحُف، ولكنّها فُقِدَت كذلك.
فتحُ الطريق إلى الله:
ممّا تقدم يتّضح أنّ خلفية البعثة النبويّة، هي كون قريش قد حرّفت دين إبراهيم (عليه السلام) حينما عبدت الأصنام، وهذا يعني تحريف العقيدة الدينية المتمثّلة بالتوحيد، وتحريف الإمامة الإبراهيمية ـ أيضاً ـ التي كانت تُعلِّم الناس حجّ إبراهيم (عليه السلام)، ولكن تحوّل الأمر، فصار الذي يُعلِّم الناسَ الحجَّ قريشٌ كلّها، وصار الحج بثيابٍ قَرشيّة، فإذا طاف الحاج بثيابه، عليه أن يرميها مهما كانت قيمتها، وعليه أن يعمل بفتاوى قريش المشركة.
فمن هنا أُغلق الطريق إلى الله لأغلب القبائل والأفراد وذلك لسببين:
الأول: بفعل إمامة قريش وبدعها؛ ولذا يُحتاج إلى هدم هذه الإمامة، وإلى تحطيم الأصنام؛ لأجل أن ينفتح الطريق من جديد.
الثاني: بفعل الأحبار والرهبان الذين حرّفوا التوراة.
«صفحة 15»
فالطريق إلى الله في عامّة الأرض قد أُغلق تماماً. نعم، الطريق عند بني هاشم مفتوح؛ لأنّهم لم يسايروا قريش في تحريفها لدين إبراهيم؛ لذلك قال الله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾(1). إلى هنا إذا وقفنا، قد يُظنّ أنّ كلّ أهل مكّة (الأُميين) في ضَلال؛ لذلك دفع القرآن الكريم هذا الظن أو التوهم، فقال: ﴿وَآخَرِينَ مِنْهُمْ﴾(2)؛ أي: من أهل مكّة، ﴿لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ﴾(3)؛ أي: ما سايروا وما لحقوا بقومهم في ضلالهم إلى البعثة.
وليس المقصود بذلك (أهل فارس) كما هو مشهور عن أبي هريرة، واشتُهِر أيضاً في كتب التفاسير، فهذا كلام مشهورٌ لا أصل له، وإنّما أصله روايةٌ عن أبي هريرة ونظرائه، وقد وُضِعَت في العهد العبّاسي؛ من أجل أن تُعتِّم على الظهور الحقيقي للآية الكريمة، وهو ظهورٌ في وجود فئة من أهل مكّة على خطّ إبراهيم، وهو ما تجلّى في دعوة إبراهيم كما في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ
ـــــــــــــــــــــــ
(1) الجمعة: آية2.
(2) الجمعة: آية3.
(3) الجمعة: آية3.
«صفحة 16»
الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ﴾(1) إلى قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ….﴾ (2). فمَن هو هذا الرسول الذي سيفتح الطريق من جديد إلى الله؟ من المؤكّد هو النبي الأُمّي المكّي محمد (صلى الله عليه وآله)، الذي يُصطَفى من هذه الأُمّة المسلمة ليُبعَث فاتحاً.
إذاً، يوجد في مكّة خطّان: خطٌّ من ذرّية إبراهيم قد انحرف عن دين إبراهيم وعبد الأصنام. وخطٌّ آخر هو الأُمّة المسلمة (المتمثّلة ببني هاشم) التي اختار الله منها محمداً (صلى الله عليه وآله) مبعوثاً: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ…﴾ (3). فورد أوّلاً: ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ﴾، بعد ذلك: ﴿وَيُزَكِّيهِمْ﴾. بخلاف قوله تعالى في سورة الجمعة: ﴿…يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ…﴾(4)، فهنا وقعت التزكية قبل التعليم؛ لأنّ هناك مشركين في ضلالٍ مبين، أمّا في سورة البقرة فالتزكية وقعت
ـــــــــــــــــــــــ
(1) البقرة: آية127ـ 128.
(2) البقرة: آية129.
(3) البقرة: آية129.
(4) الجمعة: آية2.
«صفحة 17»
بعد التعليم؛ لأنّهم مسلمون، والمسلم لا يحتاج إلى التطهير. والمسلم هنا على مستوى إسلام إبراهيم: ﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ…﴾ (1)، فهذه الأُمّة المسلمة من ذرّية إبراهيم وإسماعيل، إسلامها كإسلام إبراهيم وإسماعيل، فأُخذ الإسلام هنا بمعناه اللُّغوي؛ أي: الانقياد لله تعالى كاملاً؛ ولذا لا بدّ أن تُقرَن الآية في سورة الجمعة مع الآية في سورة البقرة؛ لنصل إلى هذه النتيجة.
إنّ فكرة وجود أحنافٍ خارج بني هاشم أمرٌ صحيح وممكن، إلّا أنّهم أفراد معدودون في قبائلهم، أمّا كفئة، أو أُسرة، أو عشيرة، فبنو هاشم كانوا على الإسلام؛ ولذلك رأيناهم يربطون وجودهم ومصيرهم بمحمد (صلى الله عليه وآله)، وقريش قاطعتهم مقاطعة تامّة خلال ثلاث سنوات كما هو معلوم.
الأمر الثاني ـ خلفية النهضة الحسينية:
خلفية النهضة الحسينيّة تشابه الخلفية التي أوجبت بعثة النبي (صلى الله عليه وآله)، ليفتح الطريق إلى الله سبحانه وتعالى؛ ولذلك تُعدّ نهضة الإمام
ـــــــــــــــــــــــ
(1) البقرة: آية128.
«صفحة 18»
الحسين (عليه السلام) عملاً عظيماً ورساليّاً، فلولا نهضته (عليه السلام) لبقي الطريق إلى عبادة الله تعالى على الطريقة التي جاء بها الرسول محمد (صلى الله عليه وآله)، مُغلقاً أمام الناس جميعاً؛ لأنّ قريش عِبرَ بني أُميّة عَرَضَت نفسها للناس من خلال الإعلام على أنّهم خلفاء الله، وأنّهم أئمّة الهدى، وأنّهم آل النبي.
الخلافة القرشية ودورها في تحريف الإمامة الإلهية:
كيف استطاع بنو أُميّة أن يعرضوا أنفسهم خلفاء الله وأئمّة هُدى؟ الجواب على ذلك: أنّهم استندوا إلى تجربة مسبَقة، هي حكومة قريش بعد النبي (صلى الله عليه وآله) مباشرةً، تلك الحكومة التي أفرزتها عملية السقيفة التي كانت ـ في الحقيقة ـ مرحلة إخراج، وإلّا فقبل السقيفة كان هناك حزبٌ يتبنّى أُطروحة كانت تقوم على أساس شعار «حسبُنا كتاب الله»، ففُصِلَ بين كتاب الله وبين السنّة النبويّة، فهي حركة قادتها قريش وليس الأنصار؛ إذ لا تتجرّأ الأنصار أن تقود وتطرح حركة بهذا الشعار؛ لذلك نلاحظ من الحوارات الأساسية في سقيفة بني ساعدة لمّا قالت الأنصار: «منّا أميرٌ
«صفحة 19»
ومنكم أمير»(1)، قال لهم أبو بكر: «…لكنّ قريش أوْلى بمحمدٍ منكم»(2)، مذكِّراً إيّاهم أيّام الجاهلية من أين كانوا يأخذون دينهم وحجّهم؟! إذ إنّ قريش قُبيل البعثة هي التي كانت تقود إلى الله على طريقتها، وعليه انسحب الأنصار.
إذاً، قريش رفعت شعار (حسبُنا كتاب الله)، وبدأ التحريف في دين محمد (صلى الله عليه وآله)، ومن أبرز ما حُرِّف هو الإمامة الإلهية.
فصحيحٌ أنّ الإمامة بعد النبي (صلى الله عليه وآله)، هي موقعٌ تشريعي وتنفيذي، ولكن بشرط ألّا يمسّ تشريعات الله ولا نبيّه بشيء. فتشريعات الإمامة الإلهية بعد النبي (صلى الله عليه وآله) تأتي لتحافظ على تشريعات النبوّة وتشريعات الله مُسبَقاً؛ لأنّ الدين تقرّر كونه كتاباً وسنّة، فإذا جاء الإمام بعد النبي (صلى الله عليه وآله) وأراد أن يُشرِّع في منطقة له فيها حق التشريع، لا بدّ أن يكون هذا التشريع لصيانة تشريع النبي (صلى الله عليه وآله)، كما أنّ تشريع النبي (صلى الله عليه وآله) لصيانة تشريع الله سبحانه وتعالى.
ومن المؤسف جدّاً أنّ بحث الإمامة لا يبدأ
ـــــــــــــــــــــــ
(1) اليعقوبي، أحمد بن أبي يعقوب، تاريخ اليعقوبي: ج2، ص123.
(2) المصدر السابق.
«صفحة 20»
فيه ببحث النبي (صلى الله عليه وآله)، فإنّ إمامة أهل البيت (عليهم السلام) ـ كما في عقيدة الشيعة ـ إنّما هي استمرار لإمامة النبي (صلى الله عليه وآله) وامتداد لها، لا تختلف عنها في كلّ شيء، فما يشرِّعه الأئمّة دينٌ؛ ولذلك ينبغي أن نفهم الإمامة من مرحلة النبوّة.
حينما جاءت الخلافة القرشية استغلّت هذه الناحية، لا لأجل أن تحافظ على التشريعات الإلهية والنبويّة؛ وإنّما لأجل أن تُهدِّم التشريعات الإلهية والنبويّة، وأنتجت ما عُرِفَ بـ(سيرة الشيخين)، فسيرة الشيخين مصطلحٌ يُراد به ما أسَّسه الخليفتان من قضايا خالفوا فيها السنّة النبويّة، فهي ـ إذاً ـ تشريعات جديدة، وبِدَع حلّت محلّ تشريعات الله وسنن نبيّه(1). وفي الحقيقة، أنّ سيرة الشيخين هي مَعلَمٌ للإمامة الدينيّة التي ادّعتها قريش بعد النبي (صلى الله عليه وآله)، وهناك رواية واضحة المعالم جدّاً يرويها مسلم وغيره، عن أبي موسى الأشعري، قال: «قدِمتُ على رسول
ـــــــــــــــــــــــ
(1) ومن أبرزها حج التمتّع، وهو من القضايا التي ينبغي أن يتعرّف عليها كلّ مسلم، فإنّ هذا الحج ـ وهو من أبرز العبادات التي جاء بها النبي بعد الصلاة ـ كان أوضح معلم من معالم تأثير الخلافة القرشية على تحريف الدين. وكذلك الصلاة التي وقعت فيها زيادات ما لم تكن في زمن النبي ، كالتكتّف مثلاً.
«صفحة 21»
الله (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم)، وهو منيخ بالبطحاء. فقال: بِمَ أهللتَ؟ قال: قلت: أهللتُ بإهلال النبي (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم). قال: هل سُقتَ من هدي؟ قلت: لا. قال: فطف بالبيت وبالصفا والمروة، ثمّ حلّ. فطفتُ بالبيت وبالصفا والمروة، ثمّ أتيتُ امرأة من قومي، فمشّطتني وغسّلت رأسي. فكنتُ أُفتي الناس بذلك في إمارة أبي بكر وإمارة عمر، فإنّي لقائم بالموسم إذ جاءني رجلٌ، فقال: إنّك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنين في شأن النُّسك؟! فقلت: أيّها الناس، مَن كنّا أفتيناه بشيء فليتئد، فهذا أمير المؤمنين قادم عليكم، فبه فائتموا»(1).
ومعنى قوله: «فهذا أمير المؤمنين قادم عليكم، فبه فائتموا»، أنّه إمامٌ ديني؛ ولذلك بلغت الخلافة القرشية في عهد الخليفة الثاني إلى مرحلة أنّ باستطاعتها أن تُشرِّع.
الإمام علي (عليه السلام) في مواجهة الانحراف القرشي
وقف أمام هذه التجربة علي بن أبي طالب (عليه السلام) حين عرضوا عليه في الشورى: «لنا الله عليك، إن
ـــــــــــــــــــــــ
(1) النيسابوري، مسلم بن الحجاج، صحيح مسلم: ج4، ص45.
«صفحة 22»
ولّيت هذا الأمر، أن تسير فينا بكتاب الله، وسنّة نبيِّه، وسيرة أبي بكر وعمر»(1). وهذا معناه: تعالَ نبايعك على سيرة الشيخين؛ لأنّ كتاب الله وسنّة نبيِّه مفروغ عنهما. لكنّهم يعرفون عليّاً (عليه السلام) لن يقبل مُلكاً فيه ضرباً وتحريفاً لدين الله تعالى، فقال: «أسيرُ فيكم بكتاب الله وسنّة نبيِّه»(2)؛ ولذا رفض (عليه السلام) هذا الأمر؛ إذ لو أراد أن يُشرِّع لا يحتاج إلى بيعة الناس، وإنّما الله تعالى منحه ذلك عبر النبي (صلى الله عليه وآله) من خلال قول النبي (صلى الله عليه وآله): «مَن كنتُ مولاه، فهذا عليٌّ مولاه»، فكلّ ما للنبي (صلى الله عليه وآله) من صلاحية في الولاية، فهي لعليٍّ (عليه السلام)، سواء أكانت تشريعية أم تنفيذية(3). نعم، عندما عُرِضَت على عثمان قَبِلها؛ لأنّه يعتقد أنّ هذا الأمر ليس مجرّد تنفيذ أو حكم سياسي، بل هو خلافة وإمامة دينية، وأنّ قبوله بسيرة الشيخين معناه إمكان الإضافة على ذلك، ومسألة الوضوء أكبر شاهد على ذلك(4).
ـــــــــــــــــــــــ
(1) اليعقوبي، أحمد بن أبي يعقوب، تاريخ اليعقوبي: ج2، ص162.
(2) المصدر السابق.
(3) علماً أنّ الولاية التشريعية أعظم من الولاية التنفيذية، فالولاية التنفيذية يمكن للإنسان أن يقبلها أو لا يقبلها (يجمّدها)، كما صنع الإمام الحسن ، وإنّما الأصل الولاية التشريعية؛ لأنّها هي الدين الذي يجب على الناس أن يتديّنوا به.
(4) هناك بحثٌ للسيّد على الشهرستاني، طُبِعَ مستقلاً تحت عنوان: (وضوء عثمان).
«صفحة 23»
فصار في الحقيقة عندنا تجربة بعد النبي (صلى الله عليه وآله)، هي تجربة قريش المسلمة التي حرّفت دين محمد (صلى الله عليه وآله) وشريعته، كما حرّفت قريش المشركة دين إبراهيم وشريعته؛ فنهض عليٌّ (عليه السلام) في مواجهة قريش المسلمة وأبطل كلّ تشريعاتها، وأحيا من جديد سُنن النبي (صلى الله عليه وآله) والإمامة الدينية المتمثِّلة بأهل بيته (عليهم السلام)، هؤلاء الذين كلّفهم الله تعالى حفظَ الشريعة ﴿…فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَـؤُلاء﴾ ؛ أي: كفر تأويلٍ لا كفر تنزيل، ﴿فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ * أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ…﴾(1)؛ يعني: ببيانهم اقتده.
وعند التأمّل في التاريخ إلى سنة (27هـ) نرى أنّ هناك مشكلة قد حدثت في المجتمع الإسلامي؛ إذ صار هنالك خطّان: خطّ عثمان وبنو أُميّة، وخطّ قريش التي كانت ناقمة على الخطّ الأوّل. والمشكلة الأساسية بين قريش وعثمان في الحقیقة، هي مشكلة سياسة تتعلّق بالسلطة والمال، أمّا القاعدة العامّة لحكم البلاد
ـــــــــــــــــــــــ
(1) الأنعام: آية89 ـ90.
«صفحة 24»
الإسلامية، فهي سيرة الشيخين؛ فلا يعرفون حجّاً إلّا من خلال حجّ عمر، ولا يعرفون وضوءاً إلّا من خلال عثمان، ولا يعرفون زكاة إلّا من خلال الأنصبة التي كان يشخِّصها عمر، وهكذا.
نعم، هناك خطّ واضح وهو خط علي (عليه السلام) الذي أراد أن يميِّز نفسه بأنّه ليس مع قريش في نهضتهم من أجل المُلك في ذلك الظرف السياسي العصيب، فأهل البيت (عليهم السلام) لا يتحرّكون نتيجة اجتهاد شخصي أبداً؛ لأنّ حركتهم من أجل حفظ النبوّة الخاتمة، فكان لعلي (عليه السلام) سبعون عهداً من رسول الله (صلى الله عليه وآله)، عهودٌ مفصّلة، وقد أُنجز بعضها، فجاءت الفرصة المناسبة للردّ على السلطة، فقرّر أمير المؤمنين (عليه السلام) أن يُحيي حجّ التمتع في تلك السنّة، في ظل تصارع الحزبين (بني أُميّة وقريش)، فأحياه بتوفيق إلهي ووصية نبويّة.
استعان الإمام علي (عليه السلام) بأدوات تتحمّل الأذى؛ باعتبار أنّ نهضته (عليه السلام) كبعثة النبي (صلى الله عليه وآله) في مكّة؛ إذ سوف يواجه حكماً أقوى من قريش، فكان أبو ذرّ وعمّار والمقداد وغيرهم ممّن معه قد اتّفق معهم أن يحجّوا تلك السنة على أن يضعوا
«صفحة 25»
دماءهم على أكفّهم؛ لأنّ القيام بالحجّ على أساس سنّة النبي (حجّ التمتع)، هو خلاف التيار(1).
ففي البخاري عن مروان بن الحكم، قال: «شهدت عثمان وعلياً، وعثمان ينهى عن المتعة، وأن يجمع بينهما، فلمّا رأى علي، أهلّ بهما، لبّيك بعمرة وحجّة، قال: ما كنتُ لأدع سنّة النبي (صلى الله عليه وآله) لقول أحد(2)»(3). فإنّ الوقت قد حان لإحياء سنّة النبي (صلى الله عليه وآله)، بعد أن كانت مخالفة حجّهم جريمة يُعاقَب عليها؛ إذ قال الخليفة الثاني: «متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم حلالاً، أنا أنهى عنهما وأُعاقب عليهما: متعة النساء، ومتعة الحجّ»(4).
فالمجتمع قد رأى تحوّلاً حدث في موسم الحجّ، فهناك حجٌّ جديد يرونه أهل البلاد المفتوحة شرقاً
ـــــــــــــــــــــــ
(1) إنّ الروايات واضحة ومحفوظة في كتب الحديث والتاريخ، فيما يتعلّق باختلاف علي وعثمان في الحجّ.
(2) هناك نسخة لـ(صحيح البخاري) مطبوعة في أربع مجلدات وبهامشه تعليقة السندي، يقول: «ما كنتُ لأدع سنّة النبي لقول أحد من الناس».
(3) البخاري، محمد بن إسماعيل، صحيح البخاري: ج2، ص151.
(4) الجصاص، أحمد بن علي، أحكام القرآن: ج2، ص191 وغيره.
«صفحة 26»
وغرباً(1). فأحدث الإمام علي (عليه السلام) ثورةً بالحجّ؛ إذ يسأل الناس الصحابة: ما هذا الحجّ؟ فيأتي الجواب: هذا الذي كنّا نحجّ به على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله).
فإذاً، مشروع الإمام علي (عليه السلام) إحياءُ سنّة النبي (صلى الله عليه وآله)، ونجح في ذلك فعلاً بعد قتل عثمان من قِبَل قريش التي كانت ترجو أنّ الناس سوف يبايعون واحداً منهم كطلحة والزبير ـ مثلاً ـ إلّا أنّ الجماهير تركتهم وذهبت إلى علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فإذا بطلحة والزبير يمدّون يد المبايعة لعلي (عليه السلام) رجاءً للمنصب، إلّا أنّ مشروعه (عليه السلام) ليس فيه مساومة على الملك والمحاصصة. ومع ذلك كلّه فقد انقسم المجتمع الكوفي على قسمين:
القسم الأول: قسم باقٍ على سنّة الخلفاء، ومع ذلك فقد ترك أمير المؤمنين (عليه السلام) الناس وحريّتهم من دون إكراه(2).
ـــــــــــــــــــــــ
(1) لأنّ حجّ التمتّع معناه عندما يصل الحاج إلى البيت يطوف سبعة ويصلّي ركعتين، ثُمّ يسعى بين الصفا والمروة، ويحلّ، إلّا أنّ مَن يعمل بسيرة الخليفة الثاني لا يجوز له أن يحلّ.
(2) كان جماعة يصلّون صلاة التراويح في مسجد الكوفة أيّام شهر رمضان في السنة الأُولى عند مجيئ أمير المؤمنين ، فقد «روي أنّ أمير المؤمنين لما اجتمعوا إليه بالكوفة فسألوه أن ينصب لهم إماماً يصلِّي بهم نافلة شهر رمضان، فزجرهم وعرّفهم أنّ ذلك خلاف السنّة، فتركوه واجتمعوا لأنفسهم وقدّموا بعضهم، فبعث إليهم ابنه الحسن فدخل عليهم المسجد ومعه الدرة فلمّا رأوه تبادروا الأبواب وصاحوا: وا عمراه!». ابن أبي الحديد المعتزلي، عبد الحميد، شرح نهج البلاغة: ج12، ص283.
«صفحة 27»
القسم الثاني: هم ممّن وعى وبدأ ينهى عن تلك البدع، فبعد مرور خمس سنوات وثلاثة أشهر صار أهل العراق يحملون مشروع علي (عليه السلام) في البلاد الشرقية؛ لأنّ الجبهة الغربية تحمل مشروع الخلفاء؛ إذ تمكّن معاوية أن يفصلهم، خصوصاً بعد حرب صفِّين؛ إذ جعل سبّ علي (عليه السلام) ولعنه بشكل علني، وذلك ـ حسب رأيهم ـ أنّ علياً (عليه السلام) قد أفسد في دين عمر الذي يعتبرونه دين الله، وعُرِضَت إمامة علي (عليه السلام) على أنّها إمامة ضالّة.
فالبلدة التي نصرت علي بن أبي طالب (عليه السلام) في مشروعه، وساندته في حروبه التي دافع بها عن مشروعه، في قبال مَن حاول وأد ذلك المشروع، هي الكوفة، فلا نجد غير أهل الكوفة أنصاراً لعلي (عليه السلام) في مشروعه الذي هَدَفَ إلى إحياء سنّة النبي (صلى الله عليه وآله)، ولولا بقاء الكوفة معه (عليه السلام) في مشروعه لما استطاع (عليه السلام) أن يستمرّ مدّة حكمه، وما يرد من كلمات تُنقل هنا وهناك في بعض المصادر في ذم أهل العراق، وأنّهم أهل الشقاق والنفاق!
«صفحة 28»
وأنّهم قد ملأوا قلبه قيحاً،… فهذه من المعيب أن نقبل بها، أو أن نصدِّقها؛ لأنّها لا تليق بإنسان يعتقد بنجاح عمله، وعقيدتنا أنّ أهل البيت (عليهم السلام) نجحوا في مسيرتهم وما فشلوا تماماً؛ لأنّ الهدف ليس هو إقامة الحكم فحسب، حتّى يقال: إنّ في زمانه وقعت حروب ثلاثة بين المسلمين، بينما في زمن الخلفاء فقد فُتحَت بلدان عديدة، فعلي (عليه السلام) بويع لا على أساس إقامة حكم، بل بويع على أساس أن يواصل مشروعه الذي نهض به سنة (27هـ).
الإمامُ الحسن (عليه السلام) في مواجهة الانحراف الأُموي:
استُشهد أمير المؤمنين (عليه السلام) والمجتمع على جبهتين: جبهة شرقية تؤمن بأنّ علياً (عليه السلام) إمام أحيا سنّة النبي (صلى الله عليه وآله)، وجبهة مُحدِثة في الشام تعتقد أنّ علياً (عليه السلام) يستحقّ اللعن.
جاء الإمام الحسن (عليه السلام) وبايعه أهل العراق بيعة مستقِرَّة(1)؛ إذ لا يوجد أفضل منه يُقيم فيهم العدل، حتّى وقع الصلح الذي كان يهدف الإمام
ـــــــــــــــــــــــ
(1) خلافاً لما ترويه بعض كتب التاريخ من أنّها بيعة مهلهلة، هذا كلّه كذب وعمل إعلامي مزيّف، فصلّناه في كتابنا (الإمام الحسن (عليه السلام) في مواجهة الانشقاق الأُموي)، وهو من أهمّ الدراسات الإسلامية المعاصرة؛ لأنّه يطرح رؤية في قبال الرؤية المشهورة القائلة: إنّ مبرّر تسليم الحسن (عليه السلام) للملك؛ هو ضعف جيش الكوفة.
«صفحة 29»
من خلاله فتح الشام بأُطروحة علي (عليه السلام)(1)؛ باعتبار أنّ فتح الشام كان منحصراً بالصلح؛ لأنّ معاوية لا يقبل أن يتنازل عن الملك، فإمّا أن تبقى هناك دولتان: دولة تحمل مشروع علي (عليه السلام)، ودولة تحمل مشروع الشيخين، وهذا ليس فيه نتائج مسرّة، وإمّا أن يَهدم الإمام أُطروحة الشيخين ويكشف حقيقتها لأهل الشام، ويُبيّن لهم أنّ هذا خلاف سنّة النبي (صلى الله عليه وآله)، ويقدِّم لهم مشروعه (عليه السلام) على أنّه الإمام بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأنّ عمله هذا لأجل إحياء سنّة النبي (صلى الله عليه وآله).
وبالفعل، فقد نجح الحسن (عليه السلام) في ذلك؛ ففي سنة (48هـ) لحقت الشام بالكوفة، حتّى بدأت تُذكَر في الشام فضائل علي (عليه السلام)، وسيرته، ونهضته في إحياء السنّة، حتّى انسحبت إلى البلاط أيضاً، وهذا هو الفتح.
وعليه صار واضحاً للناس في أيّام صلح الإمام الحسن (عليه السلام) الذي استمرّ عشر سنوات، أنّ هناك دينين: دين قريش ودين علي (عليه السلام). دين علي (عليه السلام) هو
ـــــــــــــــــــــــ
(1) باعتبار أنّ أهل الشام ما زالوا بعيدين عن إمامة علي ، والقائم عندهم هو إمامة الشيخين.
«صفحة 30»
دين رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ودين قريش هو دين الخلفاء الثلاثة تماماً. هنا اشترط الحسن (عليه السلام) على معاوية أن يبقى الناس أحراراً وأن لا تتدخّل السلطة في الجانب الديني. فما فعله الإمام الحسن (عليه السلام) بحقٍ كان عملاً عظيماً.
رأى معاوية أنّ الإمام الحسن (عليه السلام) أحيا مشروع أبيه، حتّى أصبح ذكر أبيه يعمّ البلاد، فخطّط للقضاء على مشروعه، فدسّ إليه السُّم، وهو بداية الانقلاب الأُموي على الإمام الحسن (عليه السلام)، وقد سمع المجتمع كلّه بحالة الإمام الحسن (عليه السلام)، ووقع التساؤل بين الناس: مَن الذي له مصلحة في أن يغتال الحسن (عليه السلام) بالسُّم؟ إذ لا مصلحة لأيّ جهةٍ في ذلك إلّا بني أُميّة(1).
وعليه؛ فقد قامت السلطة الأُمويّة بطرح بديل في المجتمع أَلا وهو التجربة القرشية (تجربة قريش
ـــــــــــــــــــــــ
(1) هناك من الباحثين المستشرقين مَن يتبنّى رؤية بني أُميّة وبني العباس في أنّ معاوية بريءٌ من دم الحسن ؛ إذ نقرأ في دائرة المعارف الإسلامية لـ(فنسيك) وآخرين، والتي طُبِعَت بالإنجليزية، والفرنسية، والألمانية، وهي في كلّ المكتبات العالمية، ومن المعلوم أنّ الموسوعات يُهتم بها، وتُعدّ المعلومة التي تتضمّنها الموسوعة هي خلاصة البحوث، فهي معلومة مستقرّة. فهؤلاء ينظرون إلى معاوية على أنّه بريءٌ من دم الحسن ، وأنّه لا مصلحة لمعاوية في ذلك، بينما علماء الشيعة يرون في أبحاثهم أنّ المسؤول عن ذلك هو معاوية.
«صفحة 31»
المسلمة)، فأعادتها من جديد؛ ولذلك منعوا الكثير من السنن النبويّة الصحيحة التي انتشرت على عهد الإمام علي (عليه السلام) والإمام الحسن (عليه السلام) في كلّ الأُمّة المسلمة، وذلك بعد أن عرف الناس أنّ الإمامة الدينية حقّ لأهل البيت (عليهم السلام) بعد النبي (صلى الله عليه وآله)، وأنّ إمامة قريش باطلة؛ لأنّها حرّفت دين الله.
وبعد مضي عشر سنوات تكوّن هناك جيلٌ جديد يؤمن بالأُطروحة الأُمويّة، وقد تواجد جزء منه في الكوفة؛ إذ من سنة (51هـ) هجّر زياد بأمر من معاوية (25) ألف شيعي بعوائلهم من الكوفة والبصرة، وأسكن محلَّهم نظراءهم من قبائلهم في الشام، وكانوا موالين لمعاوية؛ بمعنى أنّه أحدث تغييراً سكّانياً في الكوفة على مدى عشر سنوات، فبهذا التغيير السكّاني والولادات الجديدة أصبحت الكوفة لا تحمل مشروع علي (عليه السلام)، بل أصبحت تحمل أُطروحة الشيخين مثلما أُسّست أوّل مرّة.
رأي ونقد:
هناك نظرية مطروحة للشهيد الصدر(قدس سره) بأنّ الصلح استهدف توضيح الحق؛ لوجود شبهة أحاطت به.
«صفحة 32»
وفي مقام التحليل لهذه النظرية؛ نرى أنّ السؤال المطروح: مَن هو المخاطَب بهذا الكلام؟
إن السيد الشهيد الصدر(قدس سره) يرى: أنّ المخاطَب به العراق. فالحسن (عليه السلام) صالح معاوية، وهذا يعني أنّ أهل العراق ما كان الحق واضحاً عندهم؛ بدليل عدم الطاعة لعلي (عليه السلام) مسبقاً.
وهذا الكلام فيه تأمّل؛ لأنّنا إذا درسنا مجتمع الكوفة، أو درسنا نهضة علي (عليه السلام) من سنة (27هـ)، نشاهد أنّ الحق بدأ يتّضح بأنّ الخلافة حُرِّفَت، وأنّ علياً (عليه السلام) بدأ ينهض لإحياء سنّة نبويّة، فعلي (عليه السلام) صاحب حركة حقّانية واضحة، وأهل الكوفة إنّما نصروا علياً (عليه السلام) في حرب الجَمَل؛ لأنّهم رأوا أنّ طلحة والزبير نقضوا عهدهم معه (عليه السلام) في مواجهة يصدر منه (عليه السلام) أيّ شيء يوجب نقض العهد معه، فازدادت نصرتهم لعلي (عليه السلام) في مواجهة معاوية، وبالتالي فمهما لحق بهم من أذىً في حرب الجمل وصفّين، فإنه لم يزدهم إلّا إيماناً وتسليماً.
نعم، الانشقاق الذي حصل في الشام داخل جيش علي (عليه السلام)، كان باعتبار أنّ ذلك الجيش لم يُبنَ
«صفحة 33»
على أساس الاعتقاد بإمامة علي (عليه السلام)، بل هنالك حرب قائمة مع الظالم الذي خرج على الحق، وهي مسألة عامّة لا تستوجب أن يكون مَن يعتقد بإمامة علي (عليه السلام)، هو الذي يقاتل فقط؛ لأنّها حرب على العطاء، ثمّ يأخذ العطاء إذا دخل في هذه الحرب، فقد دخل مع علي (عليه السلام) أناس يتديَّنون بسنّة عمر، ويحجّون على طريقته، ومع ذلك لم يمنعهم علي (عليه السلام) من المشاركة في الحرب.
ولذلك، فإنّ مَن قاتل في جيش علي (عليه السلام) صنفان: صنفٌ يؤمن بإمامته وبمشروعه، وصنفٌ آخر لا يؤمن بذلك، وهم الذين انشقّوا عن جيش علي (عليه السلام). فالخوارج في الحقيقة لم يكونوا في الأصل شيعة لعلي (عليه السلام) ثمّ انشقوا عنه في صفّين، وإنّما هؤلاء بقوا أوفياء لما ألفوه من تشريعات عمر، والآن يرون أنّ السير على طريقة علي (عليه السلام) والأخذ برأيه معناه إلغاء أيّة قيمة لما كانوا يعتقدون به، ولذلك رفعوا شعار تخطئة علي (عليه السلام)، فصارت حرب النهروان، فهذه نقطة مهمّة جداً؛ إذ نرى ـ للأسف الشديد ـ في مصادر التاريخ أنّ هؤلاء من شيعة علي (عليه السلام)، حتّى جعلوا عبد الرحمن بن ملجم(1) من شيعته أيضاً!!
ـــــــــــــــــــــــ
(1) عبد الرحمن بن ملجم من رموز ذلك الخط. كتب عمر إلى عمرو بن العاص أن يختار له منزلاً بجوار منزله؛ حتّى يعلِّم الناس قراءة القرآن، ومنه تمّ تأسيس قراءة القرآن بلا تفسير. وعليه: فهو ليس من شيعة علي ، ولا يُحسَب عليهم، فإنّ شيعة علي هم الذين يقرأون القرآن ويفسّرونه للناس، ويحدِّثون بأحاديث النبي .
«صفحة 34»
فالكوفة بهذه الحروب الثلاث تدريجياً تمحّص إيمانها بعلي (عليه السلام)، واتّضح الحق فيها، فلا يصحّ أن يقال: بأنّ هؤلاء لا يعرفون الحق، وأنّهم يحتاجون إلى صلح حتّى يكتشفوا بأنّ معاوية يُريد سلطة، فهذا هو معاوية عندما نزل بالنخيلة(1) خطب قائلاً: «إنّي والله، ما قاتلتكم لتُصلُّوا، ولا لتصوموا، ولا لتحجّوا، ولا لتُزكّوا، إنّكم لتفعلون ذلك، ولكنّي قاتلتكم لأتأمَّر عليكم، وقد أعطاني الله ذلك، وأنتم له كارهون»(2). فكان يعلم العراقيون أنّ معاوية على الباطل، بل عرفوا بطلان مَن سبقه أيضاً بشكل واضح.
النهضة الحسينية وتحرير مشروع علي (عليه السلام):
أكمل معاوية الانقلاب بتنصيب ولده، وعليه
ـــــــــــــــــــــــ
(1) النخيلة: موقع بالقرب من الكوفة. اُنظر: الحموي، ياقوت، معجم البلدان: ج2، ص158.
(2) المفيد، محمد بن محمد، الإرشاد: ج2، ص14. اُنظر: ابن عساكر، علي بن الحسن، تاريخ مدينة دمشق: ج59، ص150.
«صفحة 35»
يتّضح أنّ معاوية لم يسعَ إلى تحريف الإسلام فحسب، بل يسعى إلى حصر الإمامة الإلهية في أُسرته، فعرض نفسه إماماً إلهياً، ومن بعده الذي يقود إلى الله هو ابنه يزيد(1). وهذا الأثر للإمامة الدينية بقىَ إلى القرن الثالث، فهذا السجستاني في كتابه (المصاحف) يستشهد على قراءة (مَـلِكِ يَوْمِ الدِّينِ)(2) بروایة عن ابن شهاب: «أنّه بلغه أنّ النبي (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم)، وأبا بكر، وعمر، وعثمان، و[معاوية]، وابنه يزيد بن معاوية، كانوا يقرؤون: (مَـلِكِ يَوْمِ الدِّينِ)»(3). فالاستشهاد بقراءة يزيد يعني كونه قد عُرِضَ كإمامٍ ديني.
إذاً، بنو أُميّة حرَّفوا دين محمد (صلى الله عليه وآله)، وارتكزت في تحريفها الإمامة الإلهية والشريعة النبويّة على تجربة قريش المسلمة. فأُغلِق الطريق إلى الله تبارك وتعالى كما أُغلِق الطريق زمن قريش قُبيل البعثة(4).
ـــــــــــــــــــــــ
(1) في سنة (55هـ) لمّا عُرِضَت قضية بيعة يزيد، وكان البادئ لها كما يبدو المغيرة بن شعبة، طُلب من معاوية على الأقل تغيير سيرة ولده!، فغيّر السيرة وعُرِضَ كمجاهد، حتّى قاد المسلمين في جهاد القسطنطينية وفتحها، وكان مصطحباً معه محظياته، لكن تستّر عليهم، وما كان يشرب الخمر أمام الناس؛ لكي يُعرَض إماماً دينياً.
(2) الفاتحة: آية4.
(3) السجستاني، عبد الله، المصاحف: ج3، ص392.
(4) لأنّه كان معروفاً في المجتمع أنّ الذي يُريد أن يتحرّك إلى الله ويحجّ البيت، عليه أن يطوف بثياب قرشية، وهنا أيضاً أُُغلق الطريق، فأيّ مجاهد يُريد أن يتقرّب إلى الله تعالى بدمه عليه أن يبايع الخلافة، وأن يأخذ أمر الجهاد من يزيد وقبله أبوه معاوية، وهكذا إذا أراد أن يحجّ عليه أن يحجّ حجّ عمر. وما تركيزهم على الجهاد إلّا لأنّه إمساك للناس عن أهمّ موقع للقربة إلى الله تعالى، فصار الذي يملك القربة إلى الله تعالى ببذل الدم، هو يزيد ومن قبله معاوية.
«صفحة 36»
فجاء دور الحسين (عليه السلام)، وذلك بعد هلاك معاوية، وما نهضته إلّا من أجل تحطيم الخلافة على مستواها الأُموي والقرشي وإن كان أمير المؤمنين (عليه السلام) قد حطَّم في سيرته الإمامة الدينية لقريش، لكن بمجيء بني أُميّة وانطلاقتهم من جديد يكون قد عُتِّم على إمامة أهل البيت (عليهم السلام).
وعليه؛ فإحياء دين محمد (صلى الله عليه وآله) وشريعته على يد الحسين (عليه السلام) ليس مشروعاً وليداً، بل الحسين (عليه السلام) تابع لمشروع أبيه (عليه السلام)، فعلي (عليه السلام) هو المؤسّس لحركة إحياء دين محمد (صلى الله عليه وآله)، فلولاه لانتهى ذلك الدين؛ لأنّ قريشاً خلال (24) سنة عتَّمت على سنّة النبي (صلى الله عليه وآله)، وطوّقتها ومنعت من نشرها، حتّى صار الدين عبارة عن كتاب الله وسيرة الشيخين، فوقف علي (عليه السلام) في وجه تحريف قريش، وأرجع الإمامة الإلهية التي بشَّر بها وبلَّغها النبي (صلى الله عليه وآله).
«صفحة 37»
إنّ طريقة بني أُميّة لتركيز الضلال في المجتمع، تتمثّل بالإمامة والخلافة الأُمويّة، وبدع الخلفاء السابقين التي طُرِحَت على أنّها هي الدين، وبالمنع من نشر أحاديث النبي (صلى الله عليه وآله) في حقّ علي (عليه السلام)، وهي استراتيجية اعتمدتها الخلافة الأُمويّة لنشر الضلال بعنوان أنّه هدى، لتطويق الهدى الحقيقي وأحاديث النبي (صلى الله عليه وآله) وترتيب عقوبة على مَن يروي حديثاً من قبيل: أحاديث الغدير، والمباهلة، والمنزلة، وغيرها؛ أي: الأحاديث التي تؤسِّس الإمامة الإلهية لعلي (عليه السلام) وأهل بيته (عليهم السلام). من جهة أُخرى، هناك استراتيجية لمحاصرة الخط الهادي وتصفية أصحابه(1)، وتبنّي الأحاديث المكذوبة الموضوعة؛ من أجل أن تؤسّس إمامة مبنيّة على الكذب.
إذاً، كان أمام الحسين (عليه السلام) خلافة تزعم أنّها تمتدّ إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولكن حقيقتها أنّها إمامة تدعو إلى تحريف سنّة النبي (صلى الله عليه وآله)، ولعن أئمّة الهدى الذين عيّنهم الرسول (صلى الله عليه وآله)، وكما قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «ولُبِسَ الإِسْلَامُ لُبْسَ الْفَرْوِ
ـــــــــــــــــــــــ
(1) بل أكثر من هذا، فإنّ هناك مَن هُدم داره، ورُفع اسمه من دار العطاء بتهمة حبِّ علي .
«صفحة 38»
مَقْلُوباً»(1). الإسلام يدعو إلى كتاب الله وسنّة النبي (صلى الله عليه وآله): «إنّي تارك فيكم الثقلين، أحدهما أكبر من الآخر: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، وإنّهما لن يفترقا حتّى يردا على الحوض»(2). إلّا أنّ العترة حُوصرت بعد النبي (صلى الله عليه وآله)، وعظيم أهل البيت علي (عليه السلام) يُلعَن ويُتقرَّب إلى الله بلعنه، وأعداء الإسلام ـ الذين حاربوا الإسلام على مدى عشرين سنة ـ يعرضون أنفسهم أئمّة هدى!
إذاً، خلفية النهضة الحسينية، هي حفظ الدين الإسلامي والدفاع عنه، والوقوف بوجه بني أُميّة الذين يعملون على تحريف دين محمد (صلى الله عليه وآله) وشريعته، والتي لم یبقَ فيها إلّا قول (لا الله إلّا الله)، وعلى رأس ما حُرِّف هو الإمامة الإلهية. يقول الإمام الرضا (عليه السلام)، عن آبائه (عليهم السلام)، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، عن جبرئيل، عن الله(جل وعلى): «لا إله إلّا الله حُصني، فمّن دَخَل حُصني أَمِنَ من عذابي». قال الراوي: فلمّا مرّت الراحلة، نادانا:
ـــــــــــــــــــــــ
(1) عبده، محمد، شرح خطب نهج البلاغة: ج1، ص209، الخطبة108.
(2) ابن حنبل، أحمد، مسند أحمد: ج3، ص14، وص17، وص26.
«صفحة 39»
«بشروطها، وأنا من شروطها»(1).
فالإمامة الإلهية الدينية، هي الإمامة المتمثِّلة بعلي وأهل بيته (عليهم السلام) الذين مَن عرفهم فقد عرف الله؛ بمعنى: أنّ التوحيد لا يقف عند قولنا: (أشهد أنّ لا الله إلّا الله)، بل لا بدّ أن تترتّب عليه الآثار؛ أي: الشهادة بأنّ محمّداً رسول الله، وأنّ علياً وليّ الله. وعليه؛ يكون الإيمان بالولاية هو تمام التوحيد، وإلّا بقيَ ناقصاً.
المبحث الثاني ـ الهدف من البعثة النبويّة والنهضة الحسينيّة:
تقدّم أنّ إحدى نقاط الاشتراك بين البعثة النبويّة والنهضة الحسينيّة هو الهدف، وعليه نبيّن في هذا المبحث الهدف من البعثة النبويّة، ثمّ نذكر هدف النهضة الحسينيّة.
الأمر الأول ـ هدف البعثة النبويّة:
اتّضح وجه المقارنة بين خلفية بعثة النبي (صلى الله عليه وآله)، وبين خلفية نهضة الإمام الحسين (عليه السلام)، وعليه يصبح الهدف واضحاً جدّاً من خلال ما تقدّم؛
ـــــــــــــــــــــــ
(1) الصدوق، محمد بن علي، عيون أخبار الرضا : ج2، ص145.
«صفحة 40»
فهدف البعثة النبويّة تحرير دين إبراهيم وتحرير مدينته (مكّة)، أي: فتح الطريق إلى الله تعالى، بتقديم الكتاب الإلهي الصحيح ﴿وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ﴾(1)، وقد نجح النبي (صلى الله عليه وآله) في ذلك فعلاً.
الأمر الثاني ـ هدف النهضة الحسينيّة:
تقدّم أنّ خلفية النهضة الحسينية هي الوقوف بوجه بني أُميّة الذين يعملون على تحريف دين محمد (صلى الله عليه وآله)، وعليه يكون هدف النهضة هو فتح الطريق إلى الله تعالى بتهديم إمامة بني أُميّة الدينية، كما هُدِمَت الإمامة الدينية لقريش المشركة، وتقديم حملة كتاب الله تعالى، والذين هم الأئمّة (عليهم السلام).
هذا هو التطابق العجيب بين حركة الحسين (عليه السلام) وبين بعثة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وكما نجح النبي (صلى الله عليه وآله) في الوصول إلى الهدف من المشروع الملقى على عاتقه، كذلك نجح الإمام الحسين (عليه السلام) في تحقيق الهدف بنهضته؛ لأنّ الكوفة بعد ثلاث سنين من شهادته (عليه السلام)، أُقيمت فيها دولة علي (عليه السلام) من جديد، وانفتحت على الإمامة الإلهية لعلي (عليه السلام)، ومنذُ ذلك الوقت وإلى يومنا هذا، بل وإلى ظهور الإمام
ـــــــــــــــــــــــ
(1) الرعد: آية43.
«صفحة 41»
المهدي(عجل الله فرجه الشريف) تحمل الكوفة وظهرها النجف مشروع علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ولم يتبدّل أهل العراق منذُ نهضة الحسين (عليه السلام) إلى اليوم، وهم يحملون لواء الإمامة الدينية لأهل البيت (عليهم السلام).
نعم، قد بقيت الإمامة الدينية عند أهل الشام مستمرّة بعد يزيد في بني مروان، ولكنّها انكسرت في بقيّة الأقطار الإسلامية وخصوصاً في العراق.
إذاً، نهضة الحسين (عليه السلام) تستهدف إحياء سنّة النبي (صلى الله عليه وآله) والإمامة الإلهية، وتحرير مشروع علي (عليه السلام)؛ من أجل أن ينطلق من جديد في الأُمّة.
فالمشكلة بعد النبي (صلى الله عليه وآله) لم تکن في التوحيد ولا في الشرك، بل الكلام في الإمامة. فمكة القريشية منذُ الخلافة الأُولى إلى اليوم تعادي إمامة أهل البيت (عليهم السلام)، وفي آخر الزمان من المفردات الأساسية التي ستكون على وجه الأرض في مكّة وفي العراق وفي الشام هو عودة العباسيين والأُمويين، فالمعركة ستكون معركة مع مَن يمثِّل هذه الحكومات التي تبنّت تحريف دين محمد (صلى الله عليه وآله)، والمهدي(عجل الله فرجه الشريف) هو الذي يُمثّل آباءه في حمل قضية الإمامة.
«صفحة 42»
طريقة الحسين (عليه السلام) لإحياء السنّة في المجتمع الإسلامي:
بعد العرض المتقدّم يقع التساؤل التالي: ما هي الطريقة الحسينية لإحياء دين محمد (صلى الله عليه وآله) في المجتمع آنذاك؟ أي: مَا الذي تحتاج إليه الأُمّة لترجع الهداية من جديد إلى المجتمع؟
ما تحتاج إليه الأُمّة أمران:
الأول: أن يُفتضح أمر الخلافة (الفضح الفكري)، وعرضها على كونها خلافة ضالّة باطلة، وأنّ هذه التشريعات هي بالأصل بدع، فإذا عرف المسلمون ذلك فُتِحَ الطريق من جديد.
الثاني: إزالة صفة القوّة، بمعنى أن تُزال الطغمة التي ترعى هذا الضلال بالقوّة، وإلّا يبقى الخوف والخضوع حاضراً في المجتمع، بعد أن استطاعت السلطة الأُمويّة أن تُخضِع المجتمع لأفكارها؛ إذ أماتوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجعلوا ذلك من صفات الخوارج، وغالوا في مسألة نشر أحاديث النبي (صلى الله عليه وآله) في قتال الخوارج، وزادوا عليها. وعليه؛ سوف تلاحق تهمةُ الخوارج أيَّ ثائرٍ وإن لم يكن من خطّ
«صفحة 43»
الخوارج(1)، ولو تتبّعنا نصّ العهد الذي كُتِب في زمان عبد الملك، والذي وزّعه الوليد بن يزيد بن عبد الملك في مرحلة متأخِّرة، عندما أراد أن يأخذ العهد لولده، نقرأ فيه أنّ من علامة تأييد الله للخلافة أن اُنظروا الذين يخرجون عليها كيف صنع الله بهم! فهذا الإعلام مطروح من أيّام معاوية ويزيد؛ إذ نرى قول ابن زياد للسيّدة زينب (عليها السلام): «كيف رأيتِ صُنع الله بأخيك وأهل بيتك؟»(2)، فقالت (عليها السلام): «ما رأيت إلّا جميلاً»(3). فهم يستدلّون بهذا السبيل، فقطعوا الرؤوس ومارسوا مع أهل البيت (عليهم السلام) ظواهر لا تُمارس حتّى مع أهل الشرك، معتبرين ذلك دليلاً تكوينياً بأنّ الله هو الذي أمر بذلك!
وعليه؛ فقد عمَّ الخوف كلّ شخص حتّى على مستوى ابن الزبير الذي هو منافس لمعاوية، فقد كان يخشى ملاحقة الإعلام الأُموي وإلصاقهم تهمة الخارجي عليه، فكان المجتمع ينتظر شخصاً آخر لا يمكن أن يُصبَغ بصبغة الخوارج، وما هو إلّا الحسين (عليه السلام).
ـــــــــــــــــــــــ
(1) إنّ التهمة بـ(الخارجي) تعني: سلب الدين عنه، باعتباره مارقاً، فأيّ أذى يلحق به يكون من استحقاقه.
(2) ابن أعثم الكوفي، أحمد، الفتوح: ج5، ص122.
(3) المصدر السابق.
«صفحة 44»
فالحسين (عليه السلام) أمامه واقع مرير، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لم يُعمل بهما، وشبهة الخوارج سوف تلحق بأيّ شخص يقاوم السلطة، وعليه لا بدّ أن يفتح ذلك بالجهاد من أجل الإطاحة بهذه الطغمة وإن لم يُقم هنالك دولة؛ إذ كان يهدف بالدرجة الأُولى إلى تحريك المجتمع في قبال الحكم الأُموي، منطلقاً من عقيدة ترى أنّ الدين يدعو إلى الإطاحة ببني أُميّة وعدم التزام طاعتهم. هذا هدفٌ مهمٌّ سعى إليه الحسين (عليه السلام) بعد أن رأى المجتمع المتديّن على صنفين: مجتمع جديد يرى في طاعة بني أُميّة ديناً، ومجتمع قديم يعرف الحق لكن لا يستطيع أن ينهض به لخوفه من الشبهة.
رأي ونقد:
هناك نظرية مطروحة للشهيد الصدر(قدس سره) تقول: إنّ نهضة الحسين (عليه السلام) استهدفت تحرير الإرادة؛ لأنّ الحق لمّا اتّضح كانت الإرادة ضعيفة وغير قادرة على الحركة.
وفي مقام التحليل والنقد؛ نقول: إنّ الصحيح هو القول: بأنّ الأُمّة تحتاج إلى إحياء
«صفحة 45»
فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأنّ الإعلام الأُموي طوّق أيّ حركة لذلك بشبهة (الخارجي)؛ ولذا فقد فتح الإمام (عليه السلام) حركة الجهاد الداخلي بطريقة أُخرى تختلف عن طريقة الخوارج؛ لأن الخوارج يكفِّرون كلّ الناس الذين يطيعون السلطة، وهو مفسدة في المجتمع، بينما حركة الحسين (عليه السلام) حركة سلمية في التعامل مع العدو، وإلّا كيف نبرّر أنّ الحسين (عليه السلام) يكفّ عن قتال الحرّ، بينما بعض أصحابه طلبوا قتاله، فجاءهم الجواب من الحسين (عليه السلام): «ما كنت لأبدأهم بالقتال»(1)، ففرق كبير بين المنهجين.
المبحث الثالث ـ مراحل تحقيق الهدف:
بطبيعة الحال، فإنّ كلّ هدف في الواقع الاجتماعي يحتاج إلى مراحل حتّى يتمّ تحقيقه.
والسؤال هو: ما هي الخُطوات والمراحل التي انتهجها الإمام الحسين (عليه السلام) في ذلك المجتمع من أجل تحقيق هدفه؟
الجواب: هناك ست مراحل، هي عينها المراحل التي انتهجها النبي (صلى الله عليه وآله) في تحقيق هدف بعثته، والعجيب أنّه إذا ثبت هذا الأمر، فلا يمكن أن
ـــــــــــــــــــــــ
(1) المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج44، ص380.
«صفحة 46»
يُفسَّر بغير وجود عهدٍ عند الحسين (عليه السلام)، يقتدي ويقتفي أثر جدّه النبي (صلى الله عليه وآله) في تلك المراحل، وأنّها هي التي تنسجم مع الواقع؛ ولذلك فإنّ هذه الدراسة ـ في القسم الثاني ـ من جهة هذا التطابق، تدخل ضمن المنهج التاريخي لإثبات إمامة الحسين (عليه السلام)، والأئمّة من ذريته (عليهم السلام).
المرحلة الأُولى ـ العُزلة:
إنّ أوّل مرحلة بارزة من مراحل البعثة النبويّة، هي مرحلة العُزلة في غار حراء، باعتبار أنّ النبي (صلى الله عليه وآله) لـمّا اعتزل في غار حراء كان نبيّاً بالفعل(1)، فالنبوّة الفعليّة تحقّقت له (صلى الله عليه وآله) لـمّا بلغ عمره الشريف (28) سنة، وهي سنة ولادة علي (عليه السلام) ـ في رواية ـ لذلك كان النبي (صلى الله عليه وآله) يُسمّي سنة ولادة علي (عليه السلام) سنة الخير والبركة؛ لمِا «شاهد من الكرامات، والقدرة الإلهيّة، ولم يكن من قَبلها شاهد من ذلك شيئاً»(2). يقول (صلى الله عليه وآله) في الرواية: «إنّ الملائكة صلَّت عليَّ، وعلى عليٍّ سبع سنين،
ـــــــــــــــــــــــ
(1) ليس كما هو المشهور من أنّه بُعث في سن الأربعين، بل هو نبي منذُ أن ولد، بل هو مُعيَّن نبيّاً قبل خلق آدم .
(2) ابن أبي الحديد، عبد الحميد، شرح نهج البلاغة: ج4، ص115.
«صفحة 47»
قبل أن يُسلم بشر»(1). فعند حسابنا من عمر النبي (صلى الله عليه وآله) وهو في سن الثامنة والعشرين ـ ولادة علي (عليه السلام) ـ إلى سن الخامسة والثلاثين، وقد تزوّج من السيّدة خديجة (عليها السلام)(2)، يصبح عمر الإمام عليٍّ (عليه السلام) سبع سنين؛ إذ بدأ يأخذه معه إلى غار حراء، وهو نبيٌّ يُوحى إليه.
إذاً، هذه المرحلة (مرحلة العُزلة)، جزء منها كان النبي (صلى الله عليه وآله) يتعبّد خاصّة من دون عليٍّ (عليه السلام)، ولكن لـمّا بلغ عليٌّ (عليه السلام) ذلك العمر بدأ يصطحبه؛ لأنّ كليهما سيبدآن بحركة تبليغيّة، تُناط فيها الوزارة لعليٍّ (عليه السلام). وكأنّ هذه المرحلة تعني الإعداد الخاصّ لمحمّدٍ (صلى الله عليه وآله) نبيّاً ولعليٍّ وزيراً.
الإمام الحسين (عليه السلام) ومرحلة العُزلة:
قد مرّ الإمام الحسين (عليه السلام) بمرحلة العُزلة تماماً، كما مرّ جدّه رسول الله (صلى الله عليه وآله) بتلك المرحلة، فالإمام
ـــــــــــــــــــــــ
(1) ابن عساكر، علي بن الحسن، تاريخ مدينة دمشق: ج56، ص36.
(2) توجد هناك روايات عديدة في سن زواج النبي من السيّدة خديجة، والمشهور: أنّ زواجه كان في سن الخامسة والعشـرين، ولكن نحن لا نقول بهذا الرأي، كما هو رأي السيّد جعفر مرتضى العاملي كذلك، فهناك رواية تقول: إنّه تزوّج وعمره(35) سنة، أو(33) سنة.فيكون عمر عليٍّ حينما انتقل إلى بيت خديجة في أوّل سنة هو ست سنوات تقريباً.
«صفحة 48»
الحسين (عليه السلام) استلم الإمامة لـمّا تُوفّيَ أخوه الإمام الحسن (عليه السلام)(1)، ولكن بعد وفاة الإمام الحسن (عليه السلام) حصل انقلاب؛ إذ بدأ الإعلام يتحرّك نحو تشويه خط الإمامة فقام الأُمويون بلعن عليٍّ (عليه السلام) على المنابر، وآخر مكان أُعلن فيه لعن عليٍّ (عليه السلام) هو المدينة المنورة، وذلك بعد وفاة سعد بن أبي وقّاص.
فالأُمّة قد عاشت تلك الحقبة التي يُلعن فيها عليّ (عليه السلام) على المنابر، إلّا الكوفة التي كانت تعيش حالة ثورة في مواجهة ذلك اللعن، فلم يسكت أهلها؛ لذلك مورست في حقهم أبشع الجرائم، فقُطِّعت الأيدي والأرجل، وهُجّر الناس، وبقىَ العراق منشغلاً ـ من بعد وفاة الإمام الحسن (عليه السلام) من سنة (51هـ) إلى (53هـ) ـ تمرّ عليه الفتن والمحن بما لم يكن في أيّ بلدٍ آخر؛ لكثرة مَن كان فيه من شيعة الإمام عليٍّ (عليه السلام).
ـــــــــــــــــــــــ
(1) الإمامة هنا ميزانها أن ينتقل روح القُدس الذي كان عند النبي بالوفاة إلى الإمام عليٍّ ، ثُمّ منه إلى الإمام الحسن ، وهكذا إمام بعد إمام.فإنّ روح القُدس إذا حلّ بإنسانٍ صيّره عالماً تنكشف أمامه الأشياء، ومن أمثلته: عندما تُوفّيَ الإمام الكاظم سُئل الإمام الرضا : كيف عرفت وفاة أبيك؟ قال : «لأنّه تداخلني ذلّة لله لم أكن أعرفها».الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي: ج1، ص381.واُنظر: الصفّار، محمد بن الحسن، بصائر الدرجات: ص465، وص471.
«صفحة 49»
فالإمام الحسين (عليه السلام) اختار العُزلة سنة (51هـ)؛ إذ لزم بيته وانصرف إلى العبادة، مُكتفياً بنهضة حِجر بن عدي (رضوان الله عليه) ـ التي قادها على أساس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ـ وبعد قتل حجر (رضوان الله عليه) أمر أصحابه أن يكونوا أحلاس بيوتهم، وينشغلوا بالعبادة ريثما يموت معاوية، واستمر هذا الوضع إلى سنة (59هـ)، أي: قبل موت معاوية بسنتين تقريباً.
نعم، كانت سنوات عجاف، سنوات حصل فيها انقلاب على الأعقاب، لم تشهد الأُمّة نظيراً له منذُ البعثة، وقد أُقيم هذا الانقلاب على أُطروحة الانقلاب القرشي الأوّل على سنّة النبي (صلى الله عليه وآله)، فأُعيد ولكن مع سنّةٍ مُحرّفةٍ، ففي الانقلاب القرشي الأوّل كان الناس يفهمون أنّ متعة الحجّ حرّمها عمر، ويعرفون جيداً أنّها سيرة الشيخين، وفَهِم أهل البلاد المفتوحة ـ شرقاً وغرباً ـ أنّ من حقّ الخليفة أن يُحلّل ويُحرِّم، وخاصّة أنّ أهل هذه البلاد تعوّدوا في سيرتهم مع ملوكهم وحكّامهم أن يؤسّسوا لهم ديناً.
بينما في عهد الانقلاب الأُموي فإنّ الأمر ليس كذلك، فمعاوية لم يرتقِ بعدُ إلى أن يُشرِّع، وإنّما مشى في ظلّ الأُطروحة القرشيّة الأُولى.
«صفحة 50»
إذاً، لا بدّ أن توضع أحاديث للتديُّن بهذه السنّة(1)؛ لأنّ معاوية كان يرغب أن يستعيد موقع الخلافة بالتحريف كاملاً، وأورث هذا الطموح إلى ولده يزيد الذي هدم الإسلام كاملاً.
نعم، إنّ الجديد على الأُطروحة الأُولى هو لعن عليٍّ (عليه السلام) والبراءة منه، بمعنى أنّ الخلافة القرشيّة الأُولى لم تمس سيرة عليٍّ (عليه السلام)، وإنّما حاصرته وأبعدته، أمّا الأُطروحة الأُمويّة في الانقلاب، فهي تصوّر علياً (عليه السلام) مُفسداً في الدين؛ من أجل أن تُؤسّس أمراً، وهو أنّ سيرة الشيخين هي الدين الصحيح، وهذا أخطر شيء، حتّى لُوحِق شيعة عليٍّ (عليه السلام) بجرم الانتماء، ومَن يرفض لعن عليٍّ (عليه السلام) والبراءة منه، يلاقي أشدّ العقوبات(2).
إنّ انصراف الإمام الحسين (عليه السلام) إلى العبادة؛
ـــــــــــــــــــــــ
(1) هذه فرضية، ولعلّها هي الأصوب.وفرضية أُخرى تقول: إنّ هذه الأحاديث التي وضعت لتصحيح سيرة الشيخين، إنّما وضعت في العهد العباسي.
(2) طبعاً هناك ثلاثة انقلابات فكريّة في الإسلام بثوب سياسي، الانقلاب الأوّل: انقلاب قريش المسلمة، التي وقفت في وجه علي بن أبي طالب .الانقلاب الثاني: الانقلاب القرشي الأُموي، الذي كان من أبرز معالمه لعن علي ، فضلاً عن المَعلم القرشي الأوّل.والانقلاب القرشي الثالث: هو على يد بني العباس، حينما تبنّوا المذاهب الأربعة، وتطويق مدرسة أهل البيت .
«صفحة 51»
كان من أجل أن تبرز أُطروحة بني أُميّة، وتأخذ صورتها الواضحة، ولم يكن عنده خيار آخر؛ إذ إنّ القيام في وجه الانقلاب الأُموي من اليوم الأوّل مشوبٌ بالريبة عند كثير من الناس، فإنّ هناك مَن يقول: إنّ الحسين (عليه السلام) قد أعطى تعهّداً، فما عدا ممّا بدا؟ وكيف ثبت له (عليه السلام) أنّ معاوية خالف العهود؟! هذا أولاً، وثانياً سيُفهَم قيام الحسين (عليه السلام) عند الكثير من الناس ـ ممّن لا يفهم الحقيقة، ويتأثّر بالعمل الإعلامي ـ بأنّه خروجٌ على العهد؛ ولذا ترك (عليه السلام) الأمر.
علاوةً على ذلك، محاولته إبراز أنّ مدرسة علي (عليه السلام) كانت ناجحة في تربية أشخاص، ومجتمع، وعلماء، على دين النبي (صلى الله عليه وآله)، ومن أبرز معالم ذلك الدين، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يخفى أنّ من أبرز المنكرات لعن عليٍّ بن أبي طالب (عليه السلام)، التي تحتم مسؤولية الوقوف أمام الفاعلين لهذا المنكر؛ ومن هذا المُنطلق كانت نهضة حجر بن عدي (رضوان الله عليه) مُؤيَّدة من قِبل الإمام (عليه السلام).
المرحلة الثانية ـ الحركة التبليغيّة السريّة:
المرحلة الثانية للنبي (صلى الله عليه وآله)، هي الحركة التبليغيّة
«صفحة 52»
السريّة في عشيرته(1)، وذلك على مدى ثلاث سنوات، وانتهت هذه الحركة السريّة بأن أعلن النبي (صلى الله عليه وآله) في بني هاشم وزارة عليٍّ (عليه السلام) وخلافته.
كما أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) أيضاً كان عنده عملٌ سرّي قبل أن يُعلن نفسه للخارج ويتصدّى لمواجهة السلطة الظالمة المتمثلة ببني أُميّة، فقد أخبر سُليم(2) في كتابه المعروف بـ(كتاب سُليم): أنّ الإمام (عليه السلام) عقد مؤتمراً سريّاً بأصحابه قبل موت معاوية بسنة أو سنتين(3).
ولكن أين يعقد الحسين (عليه السلام) مثل هذا المؤتمر، ويبقى محافظاً على سريّته؟ فإنّ أفضل مكان لذلك، هو مضارب بني هاشم(4)، في الجمرة
ـــــــــــــــــــــــ
(1) ليس كما هو المشهور من أنّه قد أعلن حركته بعد العُزلة مباشرةً في مجتمع مكة.هذه الفكرة غير صحيحة، ومن صنع مصادر مدرسة القوم.
(2) هذا الخبر خاص عند الشيعة، لا تنقله إلّا المصادر الشيعيّة؛ لذلك اختصّ بنقله سُليم.
(3) قد ورد(سنة) في كتاب سُليم، ورأيت في نسخة الاحتجاج يروي قبل موت معاوية بـ(سنتين)، ونحن نرجّح ما في هذه النسخة؛ لكثرة التصحيفات والتحريفات العفويّة، وأحياناً العمديّة في كتاب سُليم، فيحتاج إلى تمحيص وتدقيق، بينما كتاب الاحتجاج عند ذكره سنتين، فهو عمل معقول جداً؛ وعليه رجّحنا رواية السنتين.
(4) مضارب بني هاشم معناها: إنّه لا يستطيع غريب أن يدخل إلّا بإجازة منهم.
«صفحة 53»
الوسطى، وفي موسم الحجّ، هذا المكان كان مُهيَّأً لهذا العمل، وقد دعا فيه مجموعة أصحاب أبيه، وأصحاب أخيه، وبعض التابعين، حتّى بلغ العدد سبعمائة، موضِّحاً لهم موقفه من الأعمال التي قامت بها الحكومة الأُمويّة، من قبيل: انتشار الكذب لعشر سنوات على الله وعلى رسوله (صلى الله عليه وآله)، وتطويق أحاديث الإمامة، حتّى عرضوا أنفسهم أئمّة هُداة، وعرضوا علياً (عليه السلام) إمام ضلالة، ومفسداً في الدين يجب لعنه. فما ترك حديثاً من أحاديث النبي (صلى الله عليه وآله) يؤسِّس للإمامة الإلهيّة إلّا وتلاه وطلب تدوينه، واستشهد بالصحابة الذين سمعوا الرواية؛ وذلك من أجل أن لا يروي التابعون الموجودون هذا الحديث عن الحسين (عليه السلام) فقط، وهي فكرة الإمام عليٍّ (عليه السلام) نفسها في أيّام الغدير، فقد كان يصعد المنبر ويتلو الحديث، ثمّ يُنشد الله أيّهم سمع من النبي (صلى الله عليه وآله) هذا الحديث؛ من أجل أن يرويه الناس عن المجموع، فيؤسِّس حالة التواتر في الأحاديث.
إذاً، عرض الحسين (عليه السلام) رؤيته في هذا المؤتمر، والإمام قد استلم ما يخصّ عمله الرسالي من النبي (صلى الله عليه وآله)، فسكوتهم ونهضتهم إنّما هي بعهد
«صفحة 54»
معهود من الله، بلّغهم به النبي (صلى الله عليه وآله)، إلّا أنّ هذه العهود تأتي متطابقة مع واقع الحال، وهذا هو الذي يُميِّز علم النبوّة عن بقيّة العلوم الأُخرى، فالإمام لا يتحرّك استناداً إلى اجتهاد يُحتمل فيه الخطأ والصواب، وإنّما يتحرّك ـ في الواقع ـ على أساس عهود مسبقة، هي عبارة عن قراءة للواقع قراءة شاملة دقيقة وصحيحة؛ لأنّها تستند إلى الخالق تعالى(1).
المرحلة الثالثة ـ الإعلان عن المرجعيّة الدينيّة:
بعد انتهاء المؤتمر السرّي رجع الإمام الحسين (عليه السلام) إلى المدينة فاتح الأبواب؛ مُعلناً التصدّي للمرجعيّة الدينيّة. فصحيحٌ أنّه ـ أساساً ـ إمامٌ ديني فضلاً عن الإمامة السياسيّة، لكنّه فعلاً قد أعلن عن ممارسته لدوره كإمامٍ ديني بشكل صريح. أمّا الإمامة السياسيّة، فقد غدر معاوية ولم يُسلِّمها الإمام الحسين (عليه السلام)، وإنما نصّب ولده خليفةً للمسلمين.
إذاً، أصبح الإمام يُمارس عمله الديني،
ـــــــــــــــــــــــ
(1) طبعاً هذا لا يدخلنا إلى بحث الجبر والتفويض؛ لأنّه ليس هذا موضع الحديث، وإنّما في علم الكلام، ذلك أنّ الله تعالى يعلم ما سيقع وما سيختاره الإنسان؛ ولذا فإنّ الإرادة محفوظة فيه.
«صفحة 55»
والناس يُجدّدون العهد بزيارته ويستفتونه بمرأى ومسمع من السلطة، فكتب مروان بن الحكم إلى معاوية: «إنّي لست آمن أن يكون حسين مُرصِداً للفتنة، وأظنّ يومكم من حسين طويلاً»(1). فكتب له معاوية يدعوه إلى مراقبة الحسين (عليه السلام) ليلاً ونهاراً، ثُمّ كتب رسالة إلى الحسين (عليه السلام) يهدّده فيها: «وقد أُنبئتُ أنّ قوماً من أهل الكوفة قد دعوك إلى الشقاق، وأهل العراق مَن قد جرَّبت، قد أفسدوا على أبيك وأخيك، فاتقِ الله واُذكر الميثاق، فإنّك متى تكدني أكدك»(2).
فكتب له الإمام الحسين (عليه السلام) جواباً عظيماً، وضع فيه النقاط على الحروف: «أتاني كتابُك وأنا بغير الذي بَلغك عنّي جدير، والحسناتُ لا يهدي لها إلّا الله، وما أردتُ لك محاربةً، ولا عليك خلافاً، وما أظنّ لي عند الله عذراً في ترك جهادك، ولا أعلم فتنةً أعظم من ولايتك أمر هذه الأُمّة»(3)، ثُمّ قال (عليه السلام): «وقلتَ فيما قلتَ: متى تكدني أكدك، فكدني يا معاوية فيما بدا لك، فلعمري لقديماً يُكاد
ـــــــــــــــــــــــ
(1) ابن عساكر، علي بن الحسن، تاريخ مدينة دمشق: ج14، ص205.
(2) المصدر السابق: ص205 ـ 206.
(3) المصدر السابق: ص206.
«صفحة 56»
الصالحون، وإنّي لأرجو أن لا تضرّ إلّا نفسك، ولا تمحق إلّا عملك، فكدني ما بدا لك، واتقِ الله يا معاوية، واعلم أنّ لله كتاباً لا يُغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلّا أحصاها، واعلم أنّ الله ليس بناسٍ لك قتلك بالظنّة، وأخذك بالتّهمة، وإمارتك صبياً يشرب الشراب، ويلعب بالكلاب، ما أراك إلّا وقد أوبقت نفسك، وأهلكت دينك، وأضعت الرعيّة»(1).
وبالطبع، فإنّ الإمام الحسين (عليه السلام) لا يجد قُربةً إلى الله أفضل من أن يجاهد معاوية، ولكن ليس فاعلاً ذلك؛ لأنّ الظرف غير مُؤاتٍ ما دام هناك شيء اسمه عهدٌ ـ ولو شبهةً ـ حتّى لا يُوصف الإمام الحسين (عليه السلام) بأنّه خالف العهد، فإذا مات معاوية فبإمكان الإمام الحسين (عليه السلام) أن يتحرّر من أيّ شبهةِ عهد، ولن يستطيع أحدٌ أن يقول: إنّ الحسين نقض العهد. إذاً؛ فالإمام الحسين (عليه السلام) أراد أن تكون حركته في قبال الطغمة الأُمويّة واضحةً وضوح الشمس في رائعة النهار، من دون أيّ نوعٍ من أنواع التلبيس، أو الشبهة، أو الشك.
ـــــــــــــــــــــــ
(1) ابن قتيبة الدينوري، عبد الله، الإمامة والسياسة: ج1، ص157.
«صفحة 57»
إنّ معاوية يعلم أنّه يتعامل مع أُناس أصحاب كلمة؛ إذ قال: «إن أثرنا بأبي عبد الله إلّا أسداً»(1). فهو يعرف جيداً أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) سيتحرّك بعده؛ فلذا لا بدّ أن يعدّ العُدّة، وهذا خلاف الرسالة التي عُرفت عن معاوية، من أنّه أوصى ولَده يزيد إذا ظفرت بالحسين فارفق به، فإنّ شيعته في العراق سيجبرونه على الخروج. فوضع القضية على شيعة العراق، بل الصحيح أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) هو الذي أسّس للنهضة.
إذاً، الإمام الحسين (عليه السلام) مارس المرجعيّة الدينيّة علناً، وتوافد عليه المسلمون، ولكن السلطة شدّدت الخناق عليهم، فالوليد بن عتبة منعَ العراقيين من أن يزوروا الإمام الحسين (عليه السلام)؛ ولذلك قال (عليه السلام) مخاطباً إيّاه: «عَلامَ تَحول بيني وبين قومٍ عرفوا من حقّي ما جهلته أنت وعمُّك؟!»(2).
ـــــــــــــــــــــــ
(1) ابن عساكر، علي بن الحسن، تاريخ مدينة دمشق: ج14، ص206.
(2) البلاذري، أحمد بن يحيى، أنساب الأشراف: ج3، ص157.
«صفحة 58»
المجتمع الكوفي في مواجهة الانحراف الأُموي:
المجتمع الكوفي: هو المجتمع الذي وقف بوجه تلك الانحرافات الأُمويّة، فهو المجتمع الذي انتمى إلى الإمام علي (عليه السلام)، واعتمده الإمام الحسن (عليه السلام) في نشر فكر أبيه (عليه السلام)، وإمامته في المجتمعات الأُخرى، فتعالوا نُراهن على هذا المجتمع، لندرس ردّ فعله إزاء مُنكرات السلطة الأُمويّة، ثلاث سنوات (50 ـ53هـ) لم يذق مجتمع آنذاك، ولا أهل بلد من بين كلّ بلدان الخلافة، كما ذاق أهل الكوفة من الهوان والظلم وسفك الدماء، والتشريد والتقتيل، ونصب المشانق وغير ذلك؛ والسرُّ هو ارتباطهم بعلي (عليه السلام) ورفضهم لعنه. فإنّ الذين يتكلّمون على أهل الكوفة سلباً بما تكلّم به الإعلام العباسي، فجوابهم هذا: أن تعالوا اُنظروا واُدرسوا ما الذي حلّ بأهل الكوفة من جنايات لا تُغتَفر، ناهيك عن تلك المشانق والسجون.
وأما ما ورد من كلام للإمام الحسين (عليه السلام) يقول فيه: «الناس عبيد الدنيا، والدين لعق على ألسنتهم، يحوطونه ما درَّت معايشهم، فإذا
«صفحة 59»
مُحِّصوا بالبلاء قلَّ الديّانون»(1)، لم يكن المقصود فيه هم أهل الكوفة، فقد رفض أهل الكوفة لعن الإمام عليٍّ (عليه السلام)، وتعرّضوا للبلاء، أَليس هذا دليلاً على أنّ أهل الكوفة ليس هم المقصودون بكلام الإمام الحسين (عليه السلام)؟ وإنّما يصدق ذلك على آخرين كأهل المدينة، وأهل مكّة، وأهل الشام، وغيرها من الأمصار الإسلامية ممن تنطبق عليه الأوصاف التي ذكرها (عليه السلام)؛ فينبغي أن لا نقع فريسة الإعلام الأُموي الذي استهدف تجريد الكوفة من أبرز معالمها الثابتة تاريخياً.
وكما قلنا سابقاً: إنّ معاوية كان قد أسكن محلّ مَن هجَّرهم من الكوفة ـ من شيعة الإمام علي (عليه السلام) ـ نظراءهم من القبائل، وهذه خطة رهيبة وخطيرة للغاية؛ ولذلك لا عجب أن تعود الكوفة مرةً ثانيةً تحمل مشروع عليٍّ (عليه السلام)، فها هم أصحاب الحسين (عليه السلام) الذين قُتلوا في كربلاء، كان معظمهم من الكوفة، وهم الذين اعتمد عليهم الإمام الحسين (عليه السلام) في المرحلة الثانية أيّام التبليغ السرِّي.
ـــــــــــــــــــــــ
(1) المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج44، ص383.
«صفحة 60»
المرحلة الرابعة: الإعلان عن المرجعيّة السياسيّة:
بعد وفاة معاوية انتقل الإمام الحسين (عليه السلام) إلى المرحلة السياسيّة؛ ليُحدّد موقفه الرافض للبيعة بعد أن طُولب بها، وهذا معناه الانتقال إلى المرجعيّة السياسيّة بعد أن عُرِف عنه أنّه رافض لهذا الوضع السياسي الجديد. فقد اتّضح لدى المجتمع الكوفي أنّ الحسين (عليه السلام) نهض للإطاحة بذلك الصنم البشري الذي عرض نفسه إماماً، وما الإمام إلّا الذي فرضه الله تعالى، لا يأمر إلّا بما أمر الله سُبحانه، وسلطانه من النبي (صلى الله عليه وآله) بأمرٍ من الله تعالى، ودون ذلك، فما هي إلّا أسماء سمَّوها هم وآباؤهم ما أنزل الله بها من سلطان، حتّى تحوّلوا إلى أرباب وآلهة، يُشرِّعون ويُتقرَّب بهم.
إنّ رفض الإمام (عليه السلام) البيعة باعتبار أنَّها جُعلت من ضروريات الدين؛ إذ استغلوا بذلك رواية صحيحة، تقول: «مَن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتةً جاهليةً»(1)، فنراهم قد استعاروا هذا لمعاوية ويزيد، متجاهلين المعنى الحقيقي للبيعة في خصوص الإمام الذي عيّنه النبي (صلى الله عليه وآله)
ـــــــــــــــــــــــ
(1) الهيثمي، علي بن أبي بكر، مجمع الزوائد: ج5، ص218.واُنظر: الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي: ج2، ص21.
«صفحة 61»
بأمر الله تعالى. فالإمام الحسين (عليه السلام) نهض ليهدم هذا الشعار، مُنطلقاً بمرحلة جديدة، فكما قيل للنبي (صلى الله عليه وآله): تعالَ نُعطيك كلّ شيء وتنازل عن هذا الأمر؟ فأجابهم قائلاً: «يا عمّاه، لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر حتّى يُظهره الله، أو أهلك فيه، ما تركته»(1)، وقال الإمام الحسين (عليه السلام) بما يشبه قول النبي (صلى الله عليه وآله): «يا أخي، والله لو لم يكن في الدنيا ملجأ ولا مأوى لما بايعت ـ والله ـ يزيد بن معاوية أبداً»(2).
فالإمام الحسين (عليه السلام) حينما يُعلِن عن عدم البيعة، لا يستطيع أحدٌ أن يتّهمه بأنّه لا دين له، ولا يجرأ أحدٌ على ذلك؛ بعد أن عرفوا قدره (عليه السلام) وأحاديث النبي (صلى الله عليه وآله) في حقّه، خصوصاً عند مَن تراوحت أعمارهم بين (40) و(70) سنة؛ إذ يعرفون الأحاديث الواردة بحق الإمام الحسين (عليه السلام)، التي من جملتها قول النبي (صلى الله عليه وآله): «حسين منّي وأنا من حسين»(3)، بل حتّى الكبراء من أهل الشام يعرفون هذه الأحاديث.
ـــــــــــــــــــــــ
(1) الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الأُمم والملوك: ج2، ص67.
(2) ابن أعثم الكوفي، أحمد، الفتوح: ج5، ص21.
(3) ابن حنبل، أحمد، مسند أحمد: ج4، ص172.وايضاً: الترمذي، محمد بن عيسى، سنن الترمذي: ج5، ص324.
«صفحة 62»
نعم، ربما يتقبل ذلك ـ ابتداءً ـ الشباب الذي تتراوح أعمارهم من (15) إلى (25) سنة، الذين لم يسمعوا عن النبي (صلى الله عليه وآله) ما قاله بحقّ الإمام الحسين (عليه السلام)، إلّا أنّ قبولهم لذلك سيكون مؤقتاً؛ إذ بمجرد أن يتغيّر الوضع، وينهار الإعلام الأُموي، ويبدأ الكبار يتحدّثون بأحاديث النبي (صلى الله عليه وآله)، سوف يتّضح كلّ شيء حتّى لهذا الجيل الجديد.
هذا، ولا بدّ أن نعرف شيئاً عن عمق البيعة دينيّاً في الأُطروحة الأُمويّة، فبعد البيعة عندهم يصبح للخليفة الحقّ أن يُشرِّع ويقف أمام سنّة النبي (صلى الله عليه وآله)، فصارت عندهم البيعة مفتاحاً للتشريع، وأصبحت عندهم جزءاً من الدين، وقد ثقَّف الإعلام الأُموي الأُمّة على أنّ البيعة لشخص ما تجعل منه إماماً تجب طاعته، وأنّ مَن لا بيعة له لا دين له.
مشروع الإمام الحسين (عليه السلام) لإعلان المرجعيّة السياسيّة:
ولبيان ذلك نقول: هل كان للإمام الحسين (عليه السلام) مخططٌ للعمل السياسي؟ ومن أين أعلن ذلك؟
«صفحة 63»
توجد هنا ثلاث روايات، إلّا أنّ المشهور ـ مع الأسف ـ أخذ بروايةٍ واحدةٍ، وهي أنّ الحسين (عليه السلام) أعلن ذلك في المدينة، وفي دار الوليد بن عتبة أمامَ مروان. وهذه الرواية غير صحيحة، ولا تُقبَل، وقائمة على عواطف وميول ضيقة، وإنّما الإمام الحسين (عليه السلام) خطّط أن يُعلن هذا الموقف من مكة، فهو (عليه السلام) كان قاصداً أن تكون مسيرته كمسيرة جدّه الذي أعلن من مكّة رفضه للأصنام؛ لذلك أعلن من مكّة رفضه للبيعة.
والسبب في ذلك؛ أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) إذا أراد أن يرفض البيعة من داخل دار الوليد، ففي قِباله تجربة أبيه عليٍّ (عليه السلام) عندما رفض البيعة لعثمان، جاءه التهديد بالمجاهدة، بأنّ خلف الباب (50) سيّافاً، وكذلك فإنّ رفض الإمام الحسين (عليه السلام) البيعة معناه القتل تماماً ونهاية حركته؛ فلذا تلطّف (عليه السلام) وخرج، ثُمّ أعلن من مكة أنّه لا يُبايع.
ولكنّنا نقول ـ مع غضّ النظر عن الحقّ الشرعي للإمام (عليه السلام) في الخلافة ـ: ما هي المشكلة في عدم البيعة يا ترى؟ فهو رأيٌ، فذاك ـ على سبيل المثال ـ سعد بن أبي وقّاص لم يبايع علي بن أبي
«صفحة 64»
طالب (عليه السلام)، ومع ذلك لم يصنع عليٌّ (عليه السلام) معه شيئاً وتركه، وكذلك عبد الله بن عمر؛ فلذا من حقّ الإمام الحسين (عليه السلام) أن يقول: لا أُبايع.
فهذا الإعلام في المجتمع سيثير عند الشباب ـ الذين يعتبرون البيعة ديناً ـ تساؤلاً مُهماً: لو كانت البيعة ديناً، فلماذا رفض الإمام الحسين (عليه السلام) البيعة ليزيد؟
هذا التساؤل ينشأ بعد أن دسّت السلطة الأُمويّة أحاديث موضوعةً كثيرةً، نحو: «مَن رأى من أميره شيئاً يكرهه، فليصبر عليه…»(1)، أو من قَبيل: «إن كان لله خليفة في الأرض، فضرب ظهرك، وأخذ مالك، فأطعه…»(2)، وغيرها من الأحاديث الموضوعة التي جعلت من الدين الصبر على ما يفعله الخليفة الظالم، وعدم القيام علىه.. فأماتوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتّى جاء الإمام الحسين (عليه السلام)، وفتح باباً للحركة، فأحيا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وهكذا، فاستقرّ الإمام الحسين (عليه السلام) في مكّة
ـــــــــــــــــــــــ
(1) البخاري، محمد بن إسماعيل، صحيح البخاري: ج8، ص87.
(2) السجستاني، سليمان بن الأشعث، سنن أبي داوود: ج2، ص300.
«صفحة 65»
أربعة أشهر تقريباً، وهي مدّة قد أُتيح له (عليه السلام) من خلالها فرصة أن يلتقي بجمع غفير من الناس؛ إذ يصف الكثير من المؤرِّخين ـ ومنهم ابن كثير، والطبري ـ أنّ الحسين (عليه السلام) تقوّضت إليه الحلقات في مكّة، حتّى كان عبد الله بن الزبير من جملة مَن كان يحضر عنده، ولا يجرأ أحدٌ أن يُؤسّس حلقة في البيت الحرام والحسين (عليه السلام) مجتمع بالناس، فقد فتح الإمام (عليه السلام) الباب للناس على مصراعيه؛ لمعالجة الشبهات الفكرية خصوصاً لذلك الجيل الذي كان يعتقد بسبب الإعلام الأُموي أنّ البيعة جزء من الدين.
ففي هذه المرحلة بدأ الإمام الحسين (عليه السلام) يبحث عن أنصار، كما هو الحال عندما أعلن النبي (صلى الله عليه وآله) كلمة التوحيد (لا إله إلّا الله)، وبعد مدّة ـ لـمّا اشتدّ عليه الضيق ـ بدأ يبحث عن أنصار يحمونه لمواصلة التبليغ، وليس ذلك من أجل إقامة دولة، وهكذا الإمام الحسين (عليه السلام) قد نهض من أجل تحرير الإنسان من الانحراف الفكري.
ومن الخطأ القول: بأنّ النهضة الحسينيّة انطلقت أساساً من أجل إقامة حكومة، بل الصحيح أنّ حركة الإمام الحسين (عليه السلام) حركة
«صفحة 66»
تصحيح العقيدة، وتحرير العقل من هذا الانحراف الفكري، وأنّ الدين لا يدعو إلى بيعة هؤلاء، بل إنّ البيعة ليست من الدين بشيء أصلاً، فالدين يفرض عليك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأنّ الإمام الحقّ بعد النبي (صلى الله عليه وآله) هو علي بن أبي طالب (عليه السلام).
نعم، عندما نقول: إنّ هذه المرحلة سياسيّة؛ لأنّها تتصل بشكل واضح بطاعة الحاكم؛ لذلك وُصفت بالسياسيّة، وإلّا واقعها أعظم من كونها سياسيّة، وذلك برفض هذه الأُطروحة التي أنتجت معاوية ووَلده يزيد كخلفاء لله تعالى علواً كبيرا!!
المرحلة الخامسة ـ مؤتمر النُّصرة:
هناك مرحلة أُخرى ـ كما تُشير إليها بعض الشواهد ـ وهي: أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) عقد مؤتمراً سريّاً ثانياً بأنصاره، نظير المؤتمر الذي عقده النبي (صلى الله عليه وآله) (مؤتمر العقبة) بأهل المدينة، والذي أعقبته الهجرة بعد أن صمّمت قريش على قتله. ولـمّا انتشر خبر عقد مؤتمر بأهل المدينة؛ فحصاد حركة المبلّغين في المدينة أن جاءوا وعرضوا على النبي (صلى الله عليه وآله) النُّصرة، فصار مؤتمر النُّصرة.
«صفحة 67»
ولكن كُتُب التاريخ لم تذكر ذلك المؤتمر للإمام الحسين (عليه السلام)، وإنّما انتزعناه من خلال المقارنة؛ للترابط الموضوعي بين المسيرتين في الخلفيّة، والهدف، والمراحل، وهناك دليل أيضاً، وهو أنّ الذهبي في كتابه (سير أعلام النبلاء) يقول: «وبعث أهل العراق رُسُلاً وكُتباً إليه، فسار في آله، وفي ستّين شيخاً من أهل الكوفة، في عشر ذي الحجة»(1).
فالإمام الحسين (عليه السلام) في هذه المرحلة أثار كثيراً من المسائل التي تخصّ الحركة ومضمونها الفكري، فقد أعلن في مكة بأنّه لا يُبايع، وعرض نفسه على القبائل وعلى المسلمين الأخيار، الذين جاءوا من مُختلف البلاد؛ لكي يستنهضهم على أساس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وهذا هو الحدّ الفاصل بين حركة الإمام الحسين (عليه السلام) وحركة الخوارج، فالخوارج لم ينطلقوا من قضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل انطلقوا من الحكم على الناس بالتكفير ابتداءً، حتّى كفّروا عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، هكذا كان نهج الخوارج، بينما الإمام الحسين (عليه السلام)
ـــــــــــــــــــــــ
(1) الذهبي، محمد بن أحمد، سير أعلام النبلاء: ج3، ص304.
«صفحة 68»
أحيا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا يستبطن الرجوع إلى الكتاب والسنّة، والانطلاق منهما في تقييم الواقع السياسي الـمُنكَر، الذي يستدعي الإنكار، فأرجع الناس إلى هذه الشعيرة الدينيّة، فاستنهض الكبار والعلماء الذين يحملون في صدورهم تراث النبوّة، وبقيّة مَن تعلّم عن عليّ (عليه السلام)، أو بقيّة مَن تحرّك فيهم التراث النبوي، الذي بعثه عليٌّ (عليه السلام) من جديد في حركته من سنة (27هـ) إلى سنة (40هـ)، وكذلك في حركة الإمام الحسن (عليه السلام) من سنة (40هـ) إلى سنة (50هـ). فالإمام الحسين (عليه السلام) بدأ يُناشد هؤلاء الذين بقيت في صدورهم أحاديث الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
إذاً، طبيعة الأُمور تقتضي أن يعقد الإمام الحسين (عليه السلام) مؤتمراً بالأنصار، فتحرّك (عليه السلام) صوب النهضة من قبل سنتين، وهذه الحركة لا بدّ لها من حصاد، وكان (عليه السلام) قد عقد مؤتمراً سريّاً سابقاً، يضمّ (700) من الصحابة، والذين هيّأهم وبثّهم كدعاة لفكرته؛ فمن المتوقّع جداً أنّه (عليه السلام) يعقد مؤتمراً آخر من أجل استيعاب ما سوف يأتي من مراحل مسيرته، أي: ما يأتي بعد الإعلان عن الحركة.
«صفحة 69»
فالإمام الحسين (عليه السلام) أراد أن يلتقي بهم مرّةً أُخرى؛ لكي يأخذ منهم بيعة النُّصرة كما صنع جدّه النبي (صلى الله عليه وآله)، الأمر الذي حصل بالفعل مع الإمام الحسين (عليه السلام)، بأنّ أهل الكوفة بايعوه، وبذلك تحقق عقد النُّصرة، وخاصّة بعد أن ذهب مسلم بن عقيل (عليه السلام) إلى الكوفة ليتحرّك بتحقيق تلك المهمّة، وكانت حركته في شهر ذي الحجة(1)، وكان الهدف من حركته أن يكسب الأنصار، فتحرَّك مسلم بن عقيل (عليه السلام) من أجل أن يكسب الرؤوس العسكرية في الكوفة لصالحه؛ باعتبار أنّ فيها قادة وهم عراقيون، كما أنّ وجهاء العشائر هم عراقيون أيضاً، علماً أنّ جزءاً من الجيش العشائري هو من أهل الشام؛ باعتبار أنّ معاوية كان ماكراً في عمله، فلم يُغيّر قادة العشائر، وإنّما عوَّض الفراغ العشائري بجنود يحملون الولاء لمعاوية، فنراه قد غيَّر النظام من سبعة أسباع إلى أربعة أرباع؛ إذ كان نظام الكوفة في عهد الإمام عليٍّ (عليه السلام) أسباعاً، وكلّ سُبع له قائد، فجعله أرباعاً؛ حتّى يُقلِّص من القادة الذين يُديرون
ـــــــــــــــــــــــ
(1) هناك رواية في أنّ ذلك وقع في شهر رمضان.
«صفحة 70»
العشائر، فإذا كانت العشيرة تُعرَف بالتشيّع دمجها مع عشيرة أُخرى؛ حتّى يضيع هذا المعنى ضمن خطة مفصّلة. وهذا العمل في الواقع يحتاج إلى حركة سياسيّة؛ فبعث الإمام الحسين (عليه السلام) مسلم بن عقيل من أجل أن يعمل على كسب هؤلاء، وذلك بتوفّر العوامل المساعدة الآتية:
1ـ لن يرضى القادة العراقيون بأن يكون يزيد حاكماً وخليفةً عليهم؛ باعتبار أنّ هذا الرجل ظالمٌ، والإعلام هو الذي فرض هؤلاء، فبعد أن كانوا هم الأصل صار بلدهم تابعاً. فحركة مسلم بن عقيل (عليه السلام) تجعلهم على أقل التقادير يتحدّون السلطة، وأن لا يقفوا في صفّ مَن يقف أمام حركة واضحة الحقّ، بعد أن تعهّد معاوية بأنّه لا يُعيِّن أحداً بعده، فخالف العهد تماماً.
2ـ إنّ حركة مسلم تبعث في العراقيين روح المقارنة بين يزيد وبين الإمام الحسين (عليه السلام)، وشتّان بين هذا وذاك.
ولذا؛ فقد تحرّك الشيعة في الكوفة في إرسال الرُّسل والطلب من الإمام للحسين (عليه السلام) بالقدوم عليهم، وعندما يقال: إنّ قلوبهم مع الحسين (عليه السلام) وسيوفهم عليه. فهذا صحيح، ولكن ليس
«صفحة 71»
المقصود بالسيف هنا: هو سيف مسلم بن عوسجة ونظرائه، وإنما سيوف أولئك الأُمويين الذين صاروا كوفيين، وأصبحوا جزءاً من الجيش. والقلوب: هي قلوب الكوفة كلّها، بأنّها مع الإمام الحسين (عليه السلام)، ولا يوجد إنسان لا يرغب أن يكون مع الحسين (عليه السلام) إذا خُلّي وطبعه.
إذاً، الإمام الحسين (عليه السلام) بعث مسلماً من أجل تهيئة الأجواء قبل أن يصل الكوفة، من أجل السير بهم بسيرة جدّه (صلى الله عليه وآله) وأبيه علي (عليه السلام)، فهو مشروع لا بدّ أن يُكمله، فجدّه (صلى الله عليه وآله) نهض في وجه الأصنام، فوقفت قريش ضدّه، وأمير المؤمنين (عليه السلام) بويع من قِبل الأنصار والمهاجرين رافعاً شعار إحياء السنّة، فنهضت قريش ضدّه تقاتله. وهذه نهضة الإمام الحسين (عليه السلام) تُعرَض على المجتمع رافعةً شعار إحياء السنّة كذلك، وتحرير المجتمع من هذه الطغمة التي جعلت مال الله خولاً.
ومن هنا قلنا: إنّ الدولة كانت عملاً عرضياً تماماً كما هي في سيرة علي بن أبي طالب (عليه السلام)، أي: إنّ الدولة عُرِضَت عليه؛ لأنّ قريش قتلت عثمان، والناس يريدون حاكماً، ولا يوجد عندهم خيار أفضل من عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، فتحرّكوا نحوه.
«صفحة 72»
فمشروع الدولة لم يكن التسلسل رقم واحد لا عند النبي (صلى الله عليه وآله)، ولا عند الإمام عليٍّ (عليه السلام)، ولا عند الإمام الحسين (عليه السلام). نعم، بالتأكيد هو رقم ثانٍ، أو ثالث في مشروعهم المبارك.
المرحلة السادسة ـ الهجرة:
صار واضحاً في المرحلة السابقة بأنّ الإمام الحسين (عليه السلام) كان يطلب النُّصرة، ولم يكن إلّا أهل الكوفة، وهم الذين قد محّصتهم المحنة أيّام حجر بن عدي (رضوان الله عليه)، على أنّهم أوفياء، ومحّصتهم قبل ذلك زمن عليّ (عليه السلام) حينما نصروه، فالحسين (عليه السلام) ليس له أنصار أوفياء إلّا أهل الكوفة الذين نهضوا معه منذُ اليوم الأوّل، وبعدما مُحِّصوا أيّام حجر بن عدي (رضوان الله عليه).
ومن الطبيعي أنّ مؤتمر النُّصرة يعقبه اتخاذُ بلد النُّصرة، كما كان للنبي (صلى الله عليه وآله)، والدولة قد عرفت أنّ أهل الكوفة أنصار الإمام الحسين (عليه السلام)، فخطّطت لقتله لينتهي كلّ شيء، فعلم الإمام الحسين (عليه السلام) بذلك، فقرّر الهجرة علناً(1) في الثامن
ـــــــــــــــــــــــ
(1) نعم، ربما يقال: إنّ النبي قرّر الهجرة إلى المدينة خفية؛ وما ذلك إلّا لاختلاف الظروف.
«صفحة 73»
من ذي الحجة، وانتهت الهجرة بالحسين (عليه السلام) على أن يُطوَّق علناً، كما انتهت الهجرة بالنبي (صلى الله عليه وآله) بتطويق مكان الاختفاء، إلّا أنّ الله تعالى قد أنجاه بالتدخّل المباشر وأعمى عيونهم، ولكن في قضية الإمام الحسين (عليه السلام) شاء الله(عز وجل) أن يكون الأمر مختلفاً، بأن تُرك (عليه السلام) معهم وجهاً لوجه؛ ليُبصر المغفّلون والأُمويون والعالم كلّه ما الذي سيصدر من الإمام الحسين (عليه السلام) وأهل بيته (عليهم السلام)، وأصحابه، من صبرٍ وثباتٍ، وما الذي سيصدر من هؤلاء الذين يدَّعون الخلافة عن النبي (صلى الله عليه وآله) مع أُسرته الطاهرة، حتّى ينظر العالم جيداً كيف جُعلت ظلامة الحسين (عليه السلام) فتحاً عظيماً.
إذاً، خرج الإمام الحسين (عليه السلام) وهاجر كما هاجر النبي (صلى الله عليه وآله)، فاستقبلته خيّالة أهل الشام وفرسانهم بقيادة الحرّ، واقتادته أخيراً إلى كربلاء ـ وحاصروه ومنعوه من الذهاب، أو الاقتراب من الكوفة ـ وهذا المكان هو الحدُّ النهائي، فطابق الواقع الإخبار، فهذا أمير المؤمنين (عليه السلام) كان وهو في طريقه إلى صفِّين بعد أن أقام الصلاة، فنادى: «صبراً أبا عبد الله، صبراً أبا عبد الله! فسُئل: ماذا أبا عبد الله؟! قال: دخلتُ على النبي (صلى الله عليه وآله) وعيناه
«صفحة 74»
تفيضان، قال: قلت: يا رسول الله، ما لعينيك تفيضان؟ أغضبك أحدٌ؟ قال: قام من عندي جبريل، فأخبرني أنّ الحسين يُقتل بشطّ الفرات، فلَم أملك عيني أن فاضتا»(1). وهذا من أنباء الغيب الذي برز على لسان علي (عليه السلام)، كما برز من قَبلُ على لسان النبي (صلى الله عليه وآله).
المرحلة السابعة ـ القتال والشهادة:
وضعت السلطة خطّة مُحكمة من أجل مُحاصرة الإمام الحسين (عليه السلام)، وبالفعل فقد حُوصر (عليه السلام) تسعة أيّام مع أنصاره، وسُجن الكثير من أتباعه، وقُطعت الطرق والأخبار، ولا يستطيع أن يتحرّك أيّ أحدٍ، ومنه برزت مرحلة أُخرى في نهضة الإمام الحسين (عليه السلام)، وهي مرحلة القتال، كما حدث للنبي (صلى الله عليه وآله) بعد الهجرة بأن قاتل المشركين حتّى انتهى بالأمر إلى الفتح (الصلح). إلّا أنّه في نهضة الإمام الحسين (عليه السلام) انطوى موضوع الصلح، وانتهى الأمر إلى استشهاده (عليه السلام).
والفرق بين النهضتين: إنّ الصلح في نهضة النبي (صلى الله عليه وآله) يوم الحديبية كان مُقدّمةً لفتح مكة: (إِذَا
ـــــــــــــــــــــــ
(1) ابن أبي شيبة، عبد الله بن محمد، المصنّف: ج8، ص632.
«صفحة 75»
جَاء نَصْرُ الله وَالْفَتْحُ)(1). أمّا الإمام الحسين (عليه السلام) فقد عبّر عن شهادته يوم العاشر إلى بني هاشم بكتاب إليهم: «…أمّا بعدُ، فإنّه مَن لحق بي منكم استُشهد معي، ومَن تخلَّف لم يبلغ الفتح»(2). فما كان أمامه إلّا الشهادة، فعبَّر عنها بالفتح؛ لأنّ هذه الشهادة سوف تُحقِّق كلّ ما يُريده من قيامه، فبها يتحقّق الهدف، وإذا أوصلناها بالإمام الحجة(عجل الله فرجه الشريف)، فسيكون ذلك الحكم الذي كان مأمولاً عند كثيرٍ من الناس أن يحقّقه الإمام الحسين (عليه السلام)، سيتحقق على يد الإمام الحجة(عجل الله فرجه الشريف)، وهو ابن الإمام الحسين (عليه السلام)، الذي سينهض في يوم العاشر من المحرّم، فيكون قد تحقّق أروع عهدٍ من الحكم في تاريخ البشريّة.
المبحث الرابع ـ الفتح في مشروع الإمام الحسين (عليه السلام):
إن الإمام الحسين (عليه السلام) قد فتح بعد القتال فتحاً يختلف عن غيره من الفتوحات الماديّة الأُخرى بشكل مباشر، بل إنّما هو فتح من نوع آخر، فتحٌ تحقّقت به كلّ أهدافه.
ـــــــــــــــــــــــ
(1) النصر: آية1.
(2) الصفّار، محمد بن الحسن، بصائر الدرجات: ص502.
«صفحة 76»
حقيقة الفتح في مشروع الإمام الحسين (عليه السلام):
لا بدّ هنا أن نقف وقفةً مع الفتح الحسيني، وكيف تحقّق ذلك الفتح؟
كانت هناك خلافة تتمثّل بيزيد امتداداً لمعاوية، ولم يكن معاوية بمقدوره أن ينتج خلافةً لولا أن يستند إلى التجربة القرشيّة الأُولى؛ من أجل أن يكون فرعاً ـ وإن كان هذا الفرع سيكون أكبر من غيره ـ فاستند إليها ليبني عليها مشروعه الخطير، والذي تمّ الحديث عنه فيما سبق.
وأمّا الإمام الحسين (عليه السلام) نهض من أجل أن يُحطِّم هذا المشروع (مشروع الإمامة الضّالة). فالفتح هنا على مستوى أنّ الناس قد أدركوا تدريجيّاً أنّ هذه الخلافة الأُمويّة خلافة ضالّة، ليس لها أساس من كتاب الله وسنّة النبي (صلى الله عليه وآله)، بل إنّ ما ادُّعِي أنّها تقوم على أساس الكتاب والسنّة فهو باطل، ولذا لا يوجد اليوم ـ مَن يُعتدّ بقوله ـ في المجتمع السنّي مَن يعتقد أنّ الخليفة يزيد هو الخليفة على الكتاب والسنّة، وإنّما الكلام في معاوية، بل حتّى مع معاوية نجد الآن مَن يُعطي براهين متعدّدة كيف أنّ معاوية ارتكب أربعين كبيرة؟! فهذا هو الفتح.
«صفحة 77»
إذاً؛ الفتح: هو أن تنهار تلك الخلافة الكاذبة. والثقافة السنّية المتمثّلة اليوم بالكتب الستّة، كافية لنا بتحقيق هذا الأمر، ويستطيع المحاور الشيعي أن يُثبت أنّ الخلافة القرشيّة الأُولى ـ فضلاً عن الخلافة الأُمويّة ـ خلافة انحرفت عن الكتاب والسنّة، بل حرَّفت الكتاب والسنّة، علماً أنّ الكتب الستّة كثيراً ما اعتمدت على روايات أهل الشام.
ومن هنا؛ قد تحقّق هدف الإمام الحسين (عليه السلام) كاملاً، سواء على المستوى الفكري والعقدي المتمثّل بهدم صنم الخلافة، فلم يبقَ على هؤلاء الذين تهدّم في أنفسهم صنم الخلافة إلّا أن ينفتحوا على سنّة النبي (صلى الله عليه وآله)، وأين يجدون السنّة النبويّة؟ السنّة النبويّة الصحيحة لا يجدونها إلّا عند حملتها الرسميين الإلهيين، وهم الأئمّة التسعة من ذرية الإمام الحسين (عليه السلام)؛ ولذلك لاحظنا أنّ وظيفة هؤلاء التسعة بعد الحسين (عليه السلام)، أنّهم انطلقوا من حبّ الناس للحسين (عليه السلام)؛ من أجل تثقيفهم شيئاً فشيئاً، وبالتدريج يعلّمونهم ما خفي عنهم من أحكام الإسلام.
«صفحة 78»
وبقي هناك شيء يمكن الإشارة إليه، إذ يُعبّر عن حركة هذا المبدأ في سنة (83هـ) في حركة ابن الأشعث، والتي انطلقت في الشرق، وبعد ذلك جاؤوا إلى الكوفة، وجرت الحروب بين ابن الأشعث وبين الحجّاج، وفي هذه الثورة تحرّك الكثير من شيعة عليٍّ (عليه السلام) يحثّون الناس على الانخراط في الجهاد وقتال الحجّاج؛ إذ صار عند شيعة عليٍّ (عليه السلام) بعد مقتل الإمام الحسين (عليه السلام)، أنّ إسقاط بني أُميّة من الضرورات الدينيّة.
يروي لنا الطبري ما نُقل عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، أنّه نادى بالناس: «إنّي سمعتُ علياً ـ رفع الله درجته في الصالحين، وأثابه أحسن ثواب الشهداء والصدّيقين ـ يقول يوم لقينا أهل الشام: أيّها المؤمنون، إنّه مَن رأى عدواناً يُعمَل به، ومُنكراً يُدعى إليه، فأنكره بقلبه، فقد سلِم وبرئ، ومَن أنكر بلسانه، فقد أُجر، وهو أفضل من صاحبه، ومَن أنكر بالسيف؛ لتكون كلمة الله العُليا وكلمة الظالمين السُّفلى، فذلك الذي أصاب سبيل الهدى، ونور في قلبه باليقين؛ فقاتلوا هؤلاء المُحلّين المُحدِثين المُبتدعين، الذين قد جهلوا الحقّ، فلا يعرفونه، وعملوا بالعدوان، فليس ينكرونه»(1).
ـــــــــــــــــــــــ
(1) الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الأُمم والملوك: ج5، ص163.
«صفحة 79»
إذاً، بدأ التحرّك بحديث الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كأصل للحركة الثائرة ضدَّ بني أُميّة، وهذا معناه: أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) نجح تماماً في إحياء هذه الفريضة التي أماتها بنو أُميّة بفعل الأحاديث الكاذبة.
إنّ الإمام الحسين (عليه السلام) بدمه الشريف فتح الطريق لجهاد هؤلاء، من أجل إسقاطهم؛ لأنّهم حماة الضلالة. ومن جانب آخر، فقد أيّده الله تعالى بأئمّة تسعة، من أجل أن ينشروا سنّة النبي (صلى الله عليه وآله) ونهج عليٍّ (عليه السلام).
إنّ حركة الحسين (عليه السلام) أنتجت مرحلة ثالثة لشيعة أهل البيت (عليهم السلام)، ومن الخطأ القول: بأنّ التشيع تأسّس بعد الإمام الحسين (عليه السلام)، بل إنّما هي مرحلة في تاريخ التشيع الذي مرّ بعدّة مراحل:
المرحلة الأُولى: في زمن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، والدال عليه أقوال رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ودعواته لعليٍّ (عليه السلام) وشيعته، كقوله (صلى الله عليه وآله): «والذي نفسي بيده، إنّ هذا وشيعته هم الفائزون يوم القيامة»(1).
ـــــــــــــــــــــــ
(1) الخوارزمي، محمد بن أحمد، المناقب: ص111.
«صفحة 80»
المرحلة الثانية: في زمن الإمام عليّ (عليه السلام) لـمّا نهض بالأمر سنة (37هـ)، وبدأ قسمٌ من التابعين ينفتح على السنّة النبويّة وإمامة عليٍّ (عليه السلام).
المرحلة الثالثة: بعد الإمام الحسين (عليه السلام)، حينما بدأ التأسيس من خلال نشر كتاب عليٍّ (عليه السلام)، وما نُشر كتاب عليٍّ (عليه السلام) في السنن إلّا زمن الإمام الصادق (عليه السلام)، بشكل كان ظاهرةً في حياة الشيعة، ومن امتيازهم ـ من زمن الإمام الصادق (عليه السلام) إلى اليوم ـ أنّ فقههم يقوم على أساس كتاب عليٍّ (عليه السلام)، وهكذا بقيَ الكتاب ميراثاً للإمام المهدي(عجل الله فرجه الشريف)، فإذا ظهر ـ فحينئذٍ ـ يكون قد أعلن الوثائقية لهذا المذهب. نعم، تبقى المعركة قائمة حتّى بظهور الإمام(عجل الله فرجه الشريف)، فتنتهي بإخراج كتاب عليٍّ (عليه السلام) وإحيائه.
إذاً، الإمام الحسين (عليه السلام) أحيا السنّة النبويّة، وأمات الإمامة الباطلة التي لم تكن بعد قتله (عليه السلام)، قادرة على أن تعود لمثل ما كانت عليه في الزمن السابق، فصار الفصل واضحاً جدّاً بين السلطان الظالم وبين العلم، وأصبح الناس يبحثون عن العلماء لحلّ مُعضلاتهم الفكريّة، وليس السلطان.
«صفحة 81»
فإذا رجعنا إلى قضية صلح الإمام الحسن (عليه السلام) مع معاوية، وبالشروط التي يرويها لنا التاريخ، نرى أنّ الإمام الحسن (عليه السلام) لم يتخلَّ عن حقّه في الملك، وإنّما جمّده إلى وفاة معاوية، بشرط أن يعمل بكتاب الله وسنّة النبي (صلى الله عليه وآله)، وانصرف الإمام لمرجعيّة دينيّة لـمَن يؤمن بمرجعيّته، إلّا أنّ معاوية غدر بالإمام (عليه السلام)، فوحَّد بين السلطة والمرجعيّة الدينيّة، حتّى يتمكّن أن يُشرِّع، ويصبح الحاكم مُقدَّساً. فالإمام الحسين (عليه السلام) بنهضته دمّر هذا الكيان الذي أسّسه معاوية، فصار هناك السلطان والعالم.
الخاتمة:
نستطيع بهذه المقارنة أن نكتشف أنّ حركة الإمام الحسين (عليه السلام) هي من حركة النبي (صلى الله عليه وآله)، ويتجلّى ذلك واضحاً في قوله: «حسين منّي وأنا من حسين»(1). كما أنّ تركة النبي (صلى الله عليه وآله) بعد الفتح أمران: القرآن والعترة؛ فقد قال: «إنّي قد تركتُ فيكم الثقلين، أحدهما أكبر من الآخر: كتاب الله،
ـــــــــــــــــــــــ
(1) ابن أبي شيبة، عبد الله بن محمد، المصنّف: ج7، ص515.وأيضاً: الطبراني، سليمان بن أحمد، المعجم الكبير: ج3، ص33.
«صفحة 82»
وعترتي أهل بيتي، فاُنظروا كيف تُخلفوني فيهما؟ فإنّهما لن يتفرقا حتّى يردا عليَّ الحوض»(1). كذلك الحسين (عليه السلام) يُوكّد على هذه التركة في سلوكه وأفعاله أيّام النهضة، فنراه يُرجِئ القتال إلى اليوم العاشر؛ لأنّه يُريد أن يتلو القرآن الكريم، وبالفعل كان معسكر الإمام الحسين (عليه السلام) يُحيي إلى الصباح تلاوة القرآن. وأمّا التركة الأُخرى: فهي الأئمّة التسعة من ذرّية الإمام الحسين (عليه السلام)، الذين نهضوا لنشر ما كان يحمله الحسين (عليه السلام) في صدره من العلم، وما يحمله من تراث أبيه (كتاب عليٍّ (عليه السلام)). وعترة الإمام الحسين (عليه السلام) هي نفسها عترة النبي (صلى الله عليه وآله).
وبهذا نختم البحث في هذه المقارنة التي تضعنا أمام منهج تاريخي لإثبات إمامة أهل البيت (عليهم السلام). علماً أنّ هناك خمسة مناهج لإثبات إمامة أهل البيت (عليهم السلام):
1ـ القرآن الكريم: إذ لو خُلّينا والقرآن الكريم لاستطعنا أن نُثبت لأيّ إنسانٍ يُريد تمييز أهل البيت (عليهم السلام) بصفتهم أئمّة يدعون إلى الله، ويهدون بأمره، ومن دون أيّة رواية.
ـــــــــــــــــــــــ
(1) النسائي، أحمد بن شعيب، السنن الكبرى: ص2189.
«صفحة 83»
2ـ السنّة النبويّة: إذ يمكن الرجوع إلى الحديث والاستدلال به، بما في ذلك مصادر الحديث عند أهل السنّة، التي يمكن من خلالها إثبات هذا الموقع للأئمّة (عليهم السلام).
3ـ التوراة: إذ نُعلن لكلّ المسلمين والمسيحيين واليهود أنّ بيننا وبينكم هذه التوراة لندعوكم إلى النبي محمّد (صلى الله عليه وآله)، وإلى اثني عشر إماماً بعد النبي (صلى الله عليه وآله). وهذا منهج أسَّسه القرآن الكريم، وسار عليه النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمّة (عليهم السلام)، وليس كما يدّعي بعضٌ أنّه منهج سبأي.
4ـ العلم الخاص: إذ يمكن إثبات إمامتهم من خلال تراثهم، كما ورد في الكافي وغيره، والذي سنجد فيه ظواهر غيبيّة قد أنبأوا عنها، سواء في الطب، أم التاريخ، أم في مسائل أُخرى، وقد تحقّقت بعد مدّة طويلة، وهذا كلّه منشؤه العلم الخاص من النبي (صلى الله عليه وآله).
5ـ المنهج التاريخي: إذ لو خلّينا وتاريخ الأئمّة (عليهم السلام)، حتّى على مستوى التاريخ العام الذي ألّفه الطبري وابن الأثير ونظراؤهما، فهو يُقدِّم لنا معلومات عن عليٍّ والحسن والحسين (عليهم السلام)، والقليل عن أئمّة أهل البيت التسعة من أولاد
«صفحة 84»
الحسين (عليهم السلام)، وهو كافٍ ليُشيِّد لنا امتياز أهل البيت (عليهم السلام)، بأنّه لولاهم لضاعت سنّة النبي (صلى الله عليه وآله)، ولولاهم لمَا عرف الناس ـ على سبيل المثال ـ حجّ التمتع الذي يحجّ به حالياً جميع المسلمين، ولمَا عُرف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فهذه مناهج خمسة، ودراستنا هذه وقعت ضمن المنهج التاريخي، من خلال المقارنة بين البعثة النبويّة والنهضة الحسينيّة.
المصادر والمراجع:
* القرآن الكريم.
* نهج البلاغة.
* الكتاب المقدس، الكنيسة، الناشر: دار الكتاب المقدس، 1980م.
أحكام القرآن، أحمد بن علي الجصاص (ت370هـ)، تحقيق: عبد السلام محمد علي شاهين، دار الكتب العلمية، بيروت ـ لبنان، الطبعة الأُولى، 1415هـ/1994م.
الإرشاد، محمد بن محمد بن النعمان العكبري المعروف بالشيخ المفيد (ت413هـ)، تحقيق: مؤسّسة آل البيت (ع) لتحقيق التراث، دار المفيد للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت ـ لبنان، الطبعة الثانية، 1414هـ/1993م.
الإمامة والسياسة، عبد الله بن قتيبة الدينوري (ت276هـ)، تحقيق: طه محمد الزيني، مؤسّسة الحلبي وشركائه للنشـر والتوزيع.
«صفحة 85»
أنساب الأشراف، أحمد بن يحيى البلاذري (ت279هـ)، تحقيق: الشيخ محمد باقر المحمودي، دار التعارف للمطبوعات، الطبعة الأُولى، 1397هـ/1977م.
بحار الأنوار، محمد باقر المجلسي (ت1111هـ)، تحقيق: محمد الباقر البهبودي، مؤسّسة الوفاء، بيروت ـ لبنان، الطبعة الثانية المصححة، 1403هـ/1983م.
بصائر الدرجات، محمد بن الحسن الصفّار (ت290هـ)، تحقيق وتصحيح وتعليق وتقديم: الحاج ميرزا حسن كوچه باغي، منشورات الأعلمي، طهران، 1404هـ/1362ش.
تاريخ اليعقوبي، أحمد بن أبي يعقوب اليعقوبي (ت284هـ)، دار صادر، بيروت ـ لبنان.
تاريخ مدينة دمشق، عليّ بن الحسن بن عساكر (ت571هـ)، تحقيق: علي شيري، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت ـ لبنان، 1415هـ.
سنن أبي داوود، سليمان بن الأشعث السجستاني (ت275هـ)، تحقيق وتعليق: سعيد محمد اللحام، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأُولى، 1410هـ/1990م.
سنن الترمذي، محمد بن عيسى الترمذي (279هـ)، تحقيق وتصحيح: عبد الرحمن محمد عثمان، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت ـ لبنان، الطبعة الثانية، 1403هـ/1983م.
«صفحة 86»
السنن الكبرى، أحمد بن شعيب النسائي (ت303هـ)، تحقيق: دكتور عبد الغفار سليمان البنداري وسيّد كسروي حسن، دار الكتب العلمية بيروت ـ لبنان، الطبعة الأُولى، 1411 هـ/1991م.
سير أعلام النبلاء، محمد بن أحمد الذهبي (ت748هـ)، إشراف وتخريج: شعيب الأرنؤوط، تحقيق: محمد نعيم العرقسوسي، ومأمون صاغرجي، الطبعة التاسعة، 1413هـ/1993م.
شرح نهج البلاغة، عبد الحميد ابن أبي الحديد (ت656هـ)، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار إحياء الكتب العربية لعيسى البابي الحلبي وشركائه.
صحيح البخاري، محمد بن إسماعيل البخاري (ت256هـ)، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، طبعة بالأوفست عن طبعة دار الطباعة العامرة إستانبول، 1401هـ/1981م.
صحيح مسلم، مسلم بن الحجاج النيسابوري (ت261هـ)، دار الفكر، بيروت ـ لبنان، طبعة مصحّحة ومقابلة على عدّة مخطوطات ونسخ معتمدة.
العين، الخليل بن أحمد الفراهيدي (ت175هـ)، تحقيق: الدكتور مهدي المخزومي، والدكتور إبراهيم السامرائي، مؤسّسة دار الهجرة، الطبعة الثانية، 1410هـ.
عيون أخبار الرضا (ع)، محمد بن علي المعروف بالشيخ الصدوق (ت381هـ)، تحقيق وتصحيح وتعليق وتقديم: الشيخ حسين الأعلمي، مؤسّسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت ـ لبنان، 1404هـ/1984م.
الفتوح، أحمد بن أعثم الكوفي (ت314هـ)، تحقيق: علي شيري، دار الأضواء للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت ـ لبنان، الطبعة الأُولى، سنة1411هـ.
الكافي، محمد بن يعقوب الكليني (ت329هـ)، تحقيق وتصحيح وتعليق: علي أكبر الغفاري، دار الكُتب الإسلامية، طهران، الطبعة الخامسة، 1363ش.
مجمع الزوائد، علي بن أبي بكر الهيثمي (ت807هـ)، دار الكتب العلمية، بيروت ـ لبنان، 1408هـ/1988م.
مسند أحمد، أحمد بن حنبل (ت241هـ)، دار صادر، بيروت ـ لبنان.
المصاحف، عبد الله بن سليمان بن الأشعث السجستاني (ت316هـ)، دراسة وتحقيق ونقد: الدكتور محب الدين عبد السبحان، دار البشائر الإسلامية، بيروت ـ لبنان، الطبعة الأُولى، 1423هـ/2002م.
المصنّف، عبد الله بن محمد ابن أبي شيبة (ت235هـ)، تحقيق وتعليق: سعيد اللحام، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت ـ لبنان، الطبعة الأُولى، 1409هـ/1989م.
معجم البلدان، ياقوت بن عبد الله الحموي (ت626هـ)، دار إحياء التراث العربي، بيروت ـ لبنان، 1399هـ/ 1979م.
«صفحة 87»
المعجم الكبير، سليمان بن أحمد الطبراني (ت360هـ)، تحقيق وتخريج: حمدي عبد المجيد السلفي، دار إحياء التراث العربي، الطبعة الثانية مزيدة ومنقحة،1404هـ/1984م.
المناقب، محمد بن أحمد الخوارزمي (ت586هـ)، تحقيق: الشيخ مالك المحمودي (مؤسسة سيّد الشهداء (ع))، مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشـرّفة، الطبعة الثانية، 1414هـ.
***
One Response
اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين..
صراحة مركزكم مبارك جدا…إصداراتكم قيمة..كيف يتسنى لنا التواصل مع السيد الأستاذ المحقق سامي البدري أدام الله عزه؟
اختكم من الناصرية-العراق