صُلح الإمام الحسن (عليه السلام)

قراءة جديدة في صُلح الإمام الحسن (عليه السلام)
تكشف لأول مرة أسرارا جديدة تثبت أنه كان فتحا مبينا لمشروع علي عليه السلام الإحيائي للسنة النبوية.

المؤلف: سماحة العلامة المحقق السيد سامي البدري.
الطبعة الثانية: 1438هـ / 2017م.
عدد الصفحات: 136 صفحة.
حجم الورق: القطع الرقعي.

يتحدث الكتاب بصورة موجزة عن احدى أهم الأحداث في تاريخ حركة الأئمة (ع)، وهو الحدث الأهم والأبرز في حياة الإمام الحسن المجتبى (ع)، ألا وهو صلحه (ع) مع معاوية، حيث يكشف هذا العمل التحقيقي التجديدي الذي قام به العلامة البدري طوال ثلاثة وعشرين عاما عن أسرار وحقائق تأريخية مغيّبة أثبتت أن صلح الإمام الحسن (ع) كان فتحا مبينا لمشروع أبيه أمير المؤمنين (ع) الإحيائي للسنة النبوية.
انطلق المؤلف في هذا العمل من جواب الإمام الحسن المجتبى (ع) لسؤال أبي سعيد عقيصا عن علة الصلح، قال: (علة مصالحتي لمعاوية علة مصالحة النبي (ص) لبني ضمرة وبني أشجع ولأهل مكة حين انصرف من الحديبية، أولئك كفار بالتنزيل ومعاوية واصحابه كفار بالتأويل)، والذي يعني كما يقول المؤلف في مقدمته: (أن السبب الموجب للصلحين واحد، وهذا يستلزم وحدة الخلفيات التي سبقت الصلح ثم وحدة الظرف الموجب له، ثم وحدة الموقف إزاءه، ثم وحدة النتائج المترتبة) وقد تكفلت الأبحاث الموجزة في هذا الكتاب ببيان ذلك، ومن الجدير بالذكر أن هذا الكتاب هو مختصر عن كتاب (صلح الامام الحسن (ع) في مواجهة الانشقاق الأموي) المطبوع في عام 2013م، وقد جاء أبحاث هذا الإصدار المختصر في خمسة فصول بعد المقدمة:
الأول: شخصية الامام الحسن (ع) بين الافتراء والواقع.
الثاني: القراءة السائدة للصلح والاشكاليات عليها.
الثالث: صلح الإمام الحسن (ع) قراءة جديدة في ضوء كلامه (ع).
الرابع: مسار ثقافة الامة المسلمة لخمسين سنة من تأسيسها.
الخامس: مقارنة بين مراحل سير مشروع النبوة مشروع الامامة في هداية الأمة.

المحتويات

«صفحة 1»

«صفحة 2»

هوية الكتاب:

اسم الكتاب: صلح الإمام الحسن (عليه السلام) ـ قراءة جديدة.

المؤلف: العلامة المحقق السيد سامي البدري.

دار النشر: دار وارث.للطباعة والنشرـ كربلاء المقدسة، والفقه للطباعة والنشر ـ قم المقدسة.

الطبعة: الأولى ـ 1438 هجرية ـ كربلاء.

ملاحظة: ترقيم الصفحات موافق للمطبوع

«صفحة 3»

صلح الإمام الحسن (عليه السلام)

«قراءة جديدة»

دراسة تكشف لأول مرة أسرارا جديدة
عن صلح الامام الحسن (عليه السلام)
وتثبت أنه كان فتحا مبينا لمشروع علي (عليه السلام) الإحيائي للسنة

السيد سامي البدري

«صفحة 4»

«صفحة 5»

المقدمة

«صفحة 6»

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين .

تعد قضية صلح الإمام الحسن (عليه السلام) مع معاوية كما تُصورها لنا المصادر التاريخية الأولى من أشد القضايا غموضا وتشوّها في تاريخ أهل البيت (عليهم السلام) من جهة ، وفي تاريخ العراق الإسلامي المبكر من جهة أخرى .

فقد درس الباحثون شخصية الإمام الحسن (عليه السلام) من جانبين : الأول سيرته الشخصية ، والثاني سيرته السياسية وتعد ابرز قضية فيها دوافع صلحه مع معاوية ونتائجه .

وكان الباحثون على صنفين؛ مستشرقون وإسلاميون ، اما المستشرقون فكان رأيهم سلبيا في الحسن (عليه السلام) في كلا الجانبين وقد استندوا في ذلك على روايات مبثوثة في المصادر التاريخية الإسلامية المبكرة .

اما الإسلاميون فهم فريقان أيضا :

باحثون شيعة يعتقدون مسبقا بالإمامة الإلهية للحسن (عليه السلام) وعصمته وأنه بريء مما وصفه به الرواة من كونه متهالكا على المال ومنصرفا إلى حياة الترف وأن اهم دافع للصلح مع معاوية هو تخاذل

«صفحة 7»

الكوفيين آنذاك إذ كان فيهم من يفكر بتسليم الحسن (عليه السلام) حيا ألى معاوية وفي مثل هذه الحال أقدم الحسن (عليه السلام) على الصلح لحفظ نفسه وقلة من شيعة أبيه من جهة ، ولفضح معاوية إذ أنه سيعلن عن عدم التزامه بالشروط ، وإن معاوية قد أعلن ذلك عندما دخل الكوفة وإنه إنما قاتل على الإمرة وقد أعطاه الله ذلك .

وباحثون سنة يرون في الإمام الحسن (عليه السلام) شخصية إسلامية عظيمة عكست التقوى والزهد في الدنيا وتقديم المصلحة العامة على المصلحة الشخصية وقد وافق أغلبهم الباحثين الشيعة فيما ذهبوا إليه من تحليل لدوافع الصلح عند الحسن (عليه السلام) في جزئها الأول وهو خذلان العراقيين له .

استند الباحثون سنة وشيعة في نظرتهم تلك إلى روايات تاريخية نسب بعضها إلى الإمام الحسن (عليه السلام) نفسه؛ كما استند الشيعة في تحليلهم أن معاوية قد افتضح امره وكشفت حقيقته بإعلانه عن عدم وفائه والتزامه شروط الصلح إلى روايات ذكرتها المصادر الأولى في التاريخ الإسلامي .

والجديد الذي يقدمه هذا البحث نلخصه في النقاط التالية :

1 . إن الروايات الطاعنة في شخصية الحسن (عليه السلام) وفي شخصية الكوفيين قد وضعت من قبل العباسيين الحاكمين لمواجهة خصومهم الحسنيين الثائرين وتجريدهم من القاعدة الشعبية التي تؤيدهم وتطويق الكوفة بوصفها قلعة المؤيدين لهم ، وإن الروايات الصحيحة عن شخصية الحسن (عليه السلام) تبرزه إماما في العبادة والعلم وعمل الخير ، كما

«صفحة 8»

أن الروايات الصحيحة تبرز أهل العراق بأنهم كانوا أوفياء ومخلصين لعلي والحسن 8 وقدموا في سبيل الوفاء ما لم يقدمه شعب آخر فی وقته .

2 . إن شروط الحسن (عليه السلام) وأهمها أمان شيعة علي (عليه السلام) في الكوفة كانت منفّذة لعشر سنوات وهي حقيقة مغيبة في بطون المصادر التاريخية عتَّمت عليها كثرة الأخبار الموضوعة وإن معاوية غدر بالحسن (عليه السلام) وشيعته في سنة 50هـ وليس سنة 40هـ بأسوأ ما يتصوره المرء في حق غادر ، وكان نقضه للشروط قد بدأ بدس السم للحسن (عليه السلام) نفسه ثم إعادته لعن علي (عليه السلام) والمنع من ذكره بخير ، وقتل شيعته الممتنعين عن لعنه وكان آخر ما نقضه من الشروط هو تعيين ولده يزيد حاكما وهاديا من بعده . وفي ضوء الحقيقة الكبيرة التي كشف عنها البحث حقيقة الأمان للشيعة وحرية التعبد والتعبير لعشر سنوات في حياة الحسن (عليه السلام) كان لابد من البحث عن دوافع أخرى للصلح غير ما تبناه الباحثون ، وقد انطلق البحث للكشف عن تلك الدوافع من كلام الإمام الحسن (عليه السلام) نفسه حين أجاب عن سؤال أبي سعيد عقيصا حول الصلح قال (علة مصالحتي لمعاوية علة مصالح النبي (صلى الله عليه وآله) لقريش) .

3 . إن الصلح كان قد طلبه معاوية أولا ، وكانت صيغته أن يبقى كل منهما على بلاده التي بايعته ، ولكن الحسن (عليه السلام) بصفته الشاهد الإلهي على الأمة وإمام الهدى المنصوص عليه رفض هذه الصيغة لأنها تكرس الانشقاق في الأمة ، وتكرس الرؤية السلبية التي أوجدها الإعلام الأَموي الكاذب ضد مشروع علي (عليه السلام) الإحيائي للسنة النبوية

«صفحة 9»

كما أوجد الإعلام القرشي من قبل رؤية سلبية ضد مشروع النبوة ، كما أن الصلح كان أداة النبي (صلى الله عليه وآله) في مواجهة الكذب وإحقاق الحق كذلك عند الحسن (عليه السلام) ، وتقدم الحسن (عليه السلام) بصيغة الصلح التي تحقق له أَمرين :

الأول: معالجة الانشقاق في الأمة وإقامة تجربة حكم مدنِّي في المجتمع الإسلامي كله بشقيه ويكون الحاكم فيه معاوية بحكم بيعة أهل الشام له ، ومن بعده يكون الحاكم هو الحسن (عليه السلام) بحكم بيعة أهل العراق له ، ووضع الحسن (عليه السلام) للحكم المدنيّ شروطه ، منها ألا تتدخل السلطة في الشؤون الدينية وأن يترك تداول السلطة بعد معاوية والحسن (عليه السلام) للناس يبايعون من تشير إليه النصوص الدينية ويؤكده الواقع .

الثاني: تأسيس ظاهرة المرجعية الدينية المستقلة عن السلطة سواء أكانت مرجعية علي (عليه السلام)التي جاءته بنص من الله ورسوله 9 ثم صارت للحسن (عليه السلام) من بعده بالنص من الله ورسوله 9 أيضا ومن بعده للحسين (عليه السلام) وللتسعة من ذرية الحسين (عليهم السلام) كما أكدت النصوص ذلك ، أم مرجعية قريش المسلمة التي تمثلت بالخلفاء الثلاثة وما شرعته للناس من فتاوى في الدين ، ويكون الناس بالخيار في العمل بفتاوى هذه المرجعية أو تلك .

لقد وافق معاوية على هذه الأطروحة بل طار لها فرحا وسال لها لعابه، وبعث للحسن (عليه السلام) بأوراق موقعة منه ليكتب ما شاء من الشروط واصطلحا على ذلك ووفى بها عشر سنوات ثم غدر بعدها .

«صفحة 10»

وقد جاء البحث في خمسة فصول :

الفصل الأول : شخصية الحسن (عليه السلام) بين الافتراء والواقع .

الفصل الثاني: القراءة السائدة للصلح والإشكالات عليها .

الفصل الثالث: القراءة الجديدة للصلح وأدلتها .

الفصل الرابع : مسار ثقافة الأمة الإسلامية للسنوات الخمسين الأولى من تأسيسها .

الفصل الخامس: مقارنة بين مراحل سير مشروع النبوة ومشروع الإمامة في هداية الأمة .

ومن الجدير بالذكر أن هذا العرض الموجز خلاصة يجد القارئ الكريم تفصيلها في كتابنا المفصل الذي يحمل عنوان (الإمام الحسن (عليه السلام) في مواجهة الانشقاق الأَموي) والمطبوع في سنة 1433هـ .

ختاما أزجو من الله تعالى أن يفتح الطريق أمام هذه القراءة الجديدة لدوافع الصلح ونتائجه والحقائق الجديدة التي كشفت عنها لتكون بديلا عن الرؤية المشوشة والتصورات السلبية التي سادت حول شخصية الإمام الحسن (عليه السلام) وشيعته في العراق .

«صفحة 11»

الفصل الأول ـ شخصية الإمام الحسن (عليه السلام) بين الافتراء والواقع

«صفحة 12»

أجمع الباحثون المستشرقون على وصف الحسن (عليه السلام) بأنه كان شخصية متخاذلة ليس جديرا أن يكون ابناً لعلي (عليه السلام) ، ولا رجل الساعة المطلوب سلم الحكم لقاء منحة سنوية يقدمها له معاوية ثم انصرف إلى ملذاته وشهواته ثم مات بسبب إسرافه فيها ، وكانت مصادرهم في ذلك روايات مبثوثة هنا وهناك في مصادر التاريخ الإسلامي الأولى ، كشف البحث عن كونها روايات وضعها العباسيون لمواجهة خصومهم الحسنيين الثائرين لتجريدهم من سلاح الشعبية التي كانوا يتمتعون بها في الكوفة لمكانة أَبويهم الحسن وعلي (عليهما السلام)اللذين أَقاما تجربتين رائدتين في الحكم اتسمتا بتقديم مصلحة الرسالة والأمة على المصالح الشخصية .

في الآتي خلاصة كلماتهم -أي المستشرقون- ونموذج من كلمات الخليفة العباسي (أبو جعفر الدوانيقي المنصور) الطاعنة في الحسن (عليه السلام) وأبيه علي (عليه السلام) وبعض الروايات المساندة ، ثم شواهد تاريخية على عظمة شخصية الإمام الحسن (عليه السلام) في العبادة والسلوك والمكانة الدينية والاجتماعية .

«صفحة 13»

شخصية الإمام الحسن (عليه السلام)
عند المستشرقين

قال الدكتور فيليب حتي : (ولكن الحسن الذي كان يميل إلى الترف والبذخ لا إلى الحكم والإدارة لم يكن رجل الموقف فانزوى عن الخلافة مكتفيا بهبة سنوية منحه إيّاها معاوية). (1)

وقال الراهب اليسوعي لامنس: المتخصص بالتاريخ الإسلامي(2) عن الحسن (عليه السلام) : (الحسن أكبر أَبناء علي من فاطمة بنت رسول الله … ويلوح أن الصفات الجوهرية التي كان يتصف بها الحسن هي الميل إلى الشهوات والافتقار إلى النشاط والذكاء . ولم يكن الحسن على وفاق مع أبيه وإخوته عندما ماتت فاطمة ولما تجاوز الشباب . وتوفي الحسن في المدينة بذات الرئة ولعل إفراطه في الملذات هو الذي عجل بمنيته). (3)

وقال جرهارد كونسلمان : (لقد باع [الحسن] المنصب الذي تركه محمد (صلى الله عليه وآله) لنسله من أجل المال … ويقال أنه مات بالسل والهزال) .(4)

ـــــــــــــــــــــــ

(1) فيليب حتي، العرب: ص78 .

(2) قال عبد الرحمن بدوي في موسوعته عن المستشرقين ، لامنس : مستشرق بلجيكي ، وراهب يسوعي شديد التعصب ضد الإسلام ، يفتقر إفتقاراً تاماً إلى النـزاهة في البحث والأمانة في نقل النصوص وفهمها؛ ويعد نموذجاً سيئاً جداً للباحثين في الإسلام من بين المستشرقين . .

(3) الموسوعة الاسلامية أشرف على تأليفها فنسنك وآخرون وكتبت باللغة الانجليزية وترجمت إلى الفرنسية والألمانية ثم ترجمت إلى العربية ونحن ننقل من النسخة العربية: ج7 ص401ـ402 .

(4) كونسلمان، سطوع نجم الشيعة، ترجمة محمد ابو رحمة، ط. مكتبة مدبولي القاهرة ط2 : 1414هـ – 1993م .

«صفحة 14»

وقال سايكس : إن الحسن غير جدير بأن يكون ابنا لعلي لأنه شغل بملذاته بين نسائه واكتفى بإرسال إثني عشر أَلف جندي كطليعة لجيشه بينما احتفظ بقلب الجيش في المدائن حيث ظل يتنزه في الحدائق وخاف أن يجرب حظه في ميدان القتال). (1)

وقال الكاتب العراقي هادي العلوي: (إن هذا الرجل (يقصد الحسن (عليه السلام)) يتعذر عليه أن يخوض صراعا سياسيا أو عسكريا وكان من المنتظر والطبيعي أن ينسحب بمجرد أن يؤول إليه الأمر ، وإنه لم يمارس بعد الصلح أيّ نشاط معارض وقد تفرغ الحسن لحياته الشخصية وعاش كما قال عنه أبوه بين جَفنة وخِوان كأيّ فتى من فتيان قريش المنعمين).

ثم يستطرد العلوي قائلا : إن الدفاع عن صلح الحسن من نتائج الأيديولوجيا …) (2)

ثم يقول : (ومعاوية الذي تراجع الحسن أمامه كان زعيما عظيما وقد دخل التاريخ كواحد من الأباطرة العظام بجميع المقاييس وفي شتى العصور …) (3)

ـــــــــــــــــــــــ

(1) الخربوطلي، العراق في ظل الحكم الأموي: ص74 .

(2) نفسه.

(3) مجلة الثقافة الجديدة تسلسل 223 تموز 1990، السنة 37، العدد 9 . أدرجناه ضمن المستشرقين على الرغم من كونه ينتسب إلى الإسلام والتشيع، لكنه تبنى الفكر الماركسي في الأيديولوجيا ومنهج المستشرقين في البحث ، و من الغريب أن العلوي هذا عرفه أصدقاؤه بالتقشف والزهد والبساطة في العيش يعتقد بمعاوية هذا المعتقد، ولا بد أنه قد قرأ عنه سفكه لدم حجر بن عدي وأصحابه (رضوان الله عليهم) وتشريده العراقيين وسجنهم وقطع ايديهم لا لشيء إلاّ لتوليهم عليا (عليه السلام)، فهل أن زعامة تقوم على مبدأ كهذا جديرة بالاحترام ؟!

«صفحة 15»

مصادر المستشرقين
روايات الإعلام العباسي

استند الباحثون المستشرقون في تكوين الرؤية السلبية الآنفة الذكر عن الحسن (عليه السلام)إلى رويات أوردتها مصادر تاريخية إسلامية أمثال الطبقات الكبرى لابن سعد (ت230هـ) والأغاني لأبي الفرج الأصفهاني (356هـ)، والبدء والتاريخ لمحمد بن طاهر المقدسي (507هـ).

روى ابن سعد عن وهب بن جرير بن حازم (175ه‍) عن أبيه قال أخبرنا شعبة عن أبي إسحاق عن معد يكرب أن عليا مر على قوم مجتمعين ورجل يحدثهم فقال من هذا قالوا الحسن فقال طحن إبل لم تعوَّد طحنا . إن لكل قوم صداد وإن صدادنا الحسن . (1)

وروى عن علي بن محمد عن سحيم بن حفص الأنصاري (170هـ) عن عيسى بن أبي هارون المزني قال : تزوج الحسن بن علي حفصة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر ، وكان المنذر بن الزبير هاويها ، فأبلغ الحسن عنها شيئا فطلقها الحسن . فخطبها المنذر فأبت أن تتزوجه وقالت : شهرني. فخطبها عاصم بن عمر بن الخطاب فتزوجها فرقى

ـــــــــــــــــــــــ

(1) ابن سعد، الطبقات الكبرى القسم الناقص: ج1 /277 ـ 278، أيضاً ابن معين عن غندر عن شعبة عن أبي اسحاق عن معد يكرب، ظ. تاريخ ابن معين، ابن معين: ج1/106.

«صفحة 16»

إليه المنذر أيضا شيئا ، فطلقها . ثم خطبها المنذر . فقيل لها : تزوجيه فيعلم الناس أنه كان يَعْضَهُكِ (أي يبهتك) فتزوجته فعلم الناس أنه كذب عليها . فقال الحسن لعاصم بن عمر : انطلق بنا حتى نستأذن المنذر فندخل على حفصة فاستأذناه . فشاور أخاه عبد الله بن الزبير فقال دعهما يدخلان عليها . فدخلا فكانت إلى عاصم أكثر نظرا منها إلى الحسن وكانت إليه أبسط في الحديث . فقال الحسن للمنذر خذ بيدها فأخذ بيدها . وقام الحسن وعاصم فخرجا وكان الحسن (عليه السلام) يهواها وإنما طلقها لما رقى إليه المنذر . فقال الحسن يوما لابن أبي عتيق وهو عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن وحفصة عمته هل لك في العقيق ؟ قال : نعم . فخرجا فمرا على منزل حفصة . فدخل إليها الحسن فتحدثا طويلا ثم خرج. ثم قال أيضا بعد ذلك بأيام لابن أبي عتيق: هل لك في العقيق؟ قال: نعم. فخرجا فمرا بمنزل حفصة . فدخل الحسن فتحدثا طويلا. ثم خرج ثم قال الحسن مرة أخرى لابن أبي عتيق: هل لك في العقيق؟ فقال: يا ابن أم ألا تقول هل لك في حفصة ؟ (1)

وروى عن يحيى بن حماد قال أخبرنا أبو عوانة (176هـ) (2) عن سليمان عن حبيب بن أبي ثابت عن أبي إدريس عن المسيب بن نجبة قال سمعت عليا يقول ألاَ أُحدثكم عني وعن أهل بيتي ؟ أمّا عبد الله بن

ـــــــــــــــــــــــ

(1) ابن سعد، الطبقات ‏الكبرى: ج1/307 ، سحيم بن حفص الأنصاري كنيته أبو اليقظان واسمه عامر بن حفص وسحيم لقب له . ذكره ابن النديم في الفهرست ص106، أقول: هو من شيوخ علي بن محمد المدائني.

(2) ابن سعد، الطبقات الكبرى: ج7/287، أبو عوانة واسمه الوضاح مولى يزيد بن عطاء كان أصله من أهل واسط ثم انتقل إلى البصرة فنزلها حتى مات بها.

«صفحة 17»

جعفر فصاحب لهو، وأَمّا الحسن بن علي فصاحب جفنة وخوان فتى من فتيان قريش لوقد التقتا حلقتا البطان لم يغن في الحرب عنكم شيئا ، وأمّا أنا وحسين فنحن منكم وأنتم منا . (1)

وروى عن محمد بن عبد الله الأسدي (203هـ) قال حدثنا إسرائيل(160هـ) (2)عن أبي إسحاق عن هبيرة بن يريم قال قيل لعلي هذا الحسن بن علي في المسجد يحدث الناس فقال طحن إبل لم تعوَّد طحنا ، وما طحن إبل يومئذ . (3)

وروى أَبو الفرج الأَصفهاني عن أحمد عن عمر بن شبة عن المدائني عن قيس بن الربيع (168هـ) (4) عن الأجلح عن الشعبي عن جندب : إن الحسن قال لأبيه حين طلب أن يجلد الوليد بن عقبة : مالك ولهذا ؟…(5)

ـــــــــــــــــــــــ

(1) ابن سعد، الطبقات الكبرى القسم الناقص: ج1/297، وابن أبي الحديد، شرح النهج: ج16/11 .

(2) ابن سعد، الطبقات الكبرى: 6/374، قال ابن حجر في تهذيب التهذيب : قال عثمان بن أبي شيبة عن عبد الرحمن بن مهدي إسرائيل لص يسرق الحديث .

(3) طبقات ابن سعد القسم المفقود ، من ذخائر تراثنا ترجمة الحسن (عليه السلام) من ابن سعد غير المطبوع: ص58 .

(4) العقيلي، الضعفاء: ج3/469، قيس بن الربيع عن محمد بن عبيد قال: كان قيس بن الربيع استعمله أبوجعفر على المدائن فكان يعلق النساء بثديهن ويرسل عليهن الزنابير. قال ابن حبان : كان شعبة يروى عنه وكان معروفا بالحديث صدوقا ويقال إن ابنه أفسد عليه كتبه بآخره فترك الناس حديثه. والذهبي، تذكرة الحفاظ: ج1/226 قال: قيس بن الربيع الحافظ أبومحمد الأسدي الكوفي كان من أوعية العلم وأرى الأئمة تكلموا فيه لظلمه .

(5) الاصفهاني، الاغاني: ج5/144 .

«صفحة 18»

وروى عن عمر بن شبة وسعيد بن محمد المخزومي كلاهما عن محمد بن حاتم عن إسماعيل بن إبراهيم بن علية البصري (193هـ) عن سعيد بن [أبي] عروبة البصري عن عبد الله بن الداناج عن حضين بن المنذر أبي ساسان قال : لما جيء بالوليد بن عقبة إلى عثمان بن عفان وقد شهدوا عليه بشرب الخمر قال لعلي دونك ابن عمك فأقم عليه الحد فأوعز علي إلى ابنه الحسن أنْ يقوم بجلد الوليد ، فرفض الحسن وقال له : مالك ولهذا ؟ فقال له علي : بل ضعفت ووهنت وعجزت . (1)

وقال المقدسي في البدء والتاريخ : «إنَّه (عليه السلام) كان أرخى ستره على مأتي حرة» . (2)

الروايات الطاعنة في شخصية الحسن (عليه السلام)
من وضع العباسيين

الروايات الآنفة الذكر مما وضعه الإعلام العباسي بأمر الخليفة العباسي أبي جعفر الدوانيقي لمواجهة الحسنيين الثائرين ضد العباسيين لتجريدهم من سلاح قوي بيدهم وهو التاريخ المشرق لأبيهم الحسن (عليه السلام) وجدِّهم علي (عليه السلام) وإنهم يقاتلون ليس لأجل السلطة بل لأجل المحرومين ، قال محمد بن عبد الله بن الحسن في رسالته إلى أبي جعفر الدوانيقي (وإنما ادعيتم هذا الأمر بنا وخرجتم له بشيعتنا وحظيتم بفضلنا وإن أبانا عليا كان الوصي وكان الإمام فكيف ورثتم

 

ـــــــــــــــــــــــ

(1) الاصفهاني، الأغاني: ج5/145 .

(2) المقدسي، البدء والتاريخ: ج5/4 .

«صفحة 19»

ولايته وولده أحياء ثم قد علمت أنه لم يطلب هذا الأمر أحد له مثل نسبنا وشرفنا وحالنا وشرف آبائنا) .(1)

قال علي (عليه السلام) «اللّهم إِنّك تعلم أنّه لم يكن الذي كان منّا منافسة في سلطان ، ولا التماس شيء من فضول الحطام ، ولكن لنردّ المعالم من دينك ونظهر الإصلاح في بلادك فيأمن المظلومون من عبادك وتقام المعطّلة من حدودك» . (2)

وقد سلَّم الحسن (عليه السلام) ملك العراق وهو مستقر له كما اعترف خصمه معاوية بأن يبقى على حكمه ويبقى هو على الشام فرفض ذلك وعرض عليه الحكم المدني الموحد على الكتاب والسنة لأنه يستهدف أداء وظيفته الإلهية في فتح الطريق لهداية أهل الشام وأمان الناس في العراق وغيره ولماّ اطّلع معاوية على الشروط التي وضعها الحسن (عليه السلام) وقف عند شرط أمان الناس وذكر قيس بن سعد وإنه لا بد أن يقتله فرفض الحسن (عليه السلام) ذلك وكان موقفه واضحا، حيث إن الشروط ومنها الأمان هي صفقة كاملة لا تقبل الحوار ولا التجزئة فهي إمّا أن تقبل كلها أو ترفض كلها والحسن (عليه السلام) يعلم أن شخصية مثل معاوية طامعة في الدنيا ولم يدر في خلده يوما أن يحكم وإنما منتهى رغبته حكم الشام سوف لن يرفض أطروحة الحسن (عليه السلام) وسوف يكون مستعدا لكل شرط أن يشترطه بل هو عالم بها أساسا وقد اضمر في نفسه أن يقبل لمدة ثم يغدر كما غدر أبوه من قبل مع النبي (صلى الله عليه وآله) ، وبذلك استحق

ـــــــــــــــــــــــ

(1) الطبري، تاريخ الطبري: ج6/196 .

(2) فيض، نهج البلاغة : 406 ; وعبده: ج2 / 19 .

«صفحة 20»

الحسن (عليه السلام)لقب المصلح العظيم في الأمة وأورث ذريته مجدا إلى مجد أبيه علي (عليه السلام) وجده النبي (صلى الله عليه وآله) ، ومع هذا المجد فإن العباسيين سوف لن يقر لحكمهم قرار ما دام الحسنيون ناهضين بالمعارضة ، فلابد إذن من تشويه تاريخ مجدهم فيما يتعلق بابيهم الحسن المثنى فقد وضعوا رواية أنه كان في الطف طفلا وجردوه من شرف القتال بين يدي الحسين (عليه السلام)حتى ارتث من الجراح واُسر واستوهبه أَخواله من ابن زياد وعولج وبرئ ، أَمّا فيما يتعلق بالحسن (عليه السلام) المصلح العظيم فقد أَضافوا إلى ما وضعه الأمويون في حقه زيادات لم تخطر على بال الأمويين . .

ومن أهم الشواهد على أن الروايات الطاعنة في شخصية الحسن (عليه السلام)كانت قد وضعت بأمر العباسيين موقف العباسيين أنفسهم إذ قال المنصور بعد أن سجن عبد الله بن الحسن وإخوته :

(فقام فيها علي بن أبي طالب فما أفلح ، وحكَّم الحكمين ، فاختلفت عليه الأمّة وافترقت الكلمة ، ثمَّ وثب عليه شيعته وأنصاره وثقاته فقتلوه .

ثمَّ قام بعدَهُ الحسن بن علي، فوالله ما كان برجل ، عرضت عليه الأموال فقبلها ، ودسَّ إليه معاوية إنِّي أجعلك ولي عهدي ، فخلع نفسه وانسلخ له ممَّا كان فيه ، وسلَّمه إليه وأقبل على النساء يتزوج اليوم واحدة ويطلق غداً أخرى ، فلم يزل كذلك حتّى مات على فراشه) . (1)

ومن الشواهد أيضا شعر مروان بن أبي حفصة (182هـ) : كان

ـــــــــــــــــــــــ

(1) المسعودي، مروج الذهب: ج3/301 .

«صفحة 21»

يتقرب إلى الخليفة هارون بهجاء العلويين. أنشد قصيدة يمدح بها الرشيد ويذكر فيها ولد فاطمة (عليها السلام) ويذمهم وقد بالغ حين ذم علياً (عليه السلام) ونال منه وأولها :

علىٌّ أبوكم كان أفضلَ منكم أباه(1)

ذوو الشورى وكانوا ذوي الفضل

ساء رسولَ الله إذْ ساء بنتَه

بخطبته بنتَ اللعين أبي جهل

فذمَّ رسول الله صهرَ أبيكمُ

على منبر بالمنطق الصادع الفضل

وحكَّمَ فيها حاكمين أبوكمُ

هما خلعاه خلع ذي النعل للنعل

وخلَّيتموها وهي في غير أهلها

فقد أُبطلت دعواكمُ الرثة الحبلِ

وقد باعها من بعده الحسن ابنه

وطالبتموها حين صارت إلى أهل(2)

شخصية الإمام الحسن (عليه السلام)
في الروايات الصحيحة

وفي قبال الروايات الموضوعة التي شوّهت من سيرة الحسن (عليه السلام) هناك روايات صحيحة عرّفت بعظيم شخصيته وكريم صفاته وأولها رواية سبطه الإمام الصادق (عليه السلام) عن أبيه عن جده علي بن الحسين (عليهما السلام) .

روى الشيخ الصدوق عن المفضل بن عمر قال: قال الإمام الصادق (148هـ): حدثني أبي عن أبيه أن الحسن بن علي بن أبي طالب : :

(كان أعبد الناس في زمانه ، وأزهدهم وأفضلهم ،

ـــــــــــــــــــــــ

(1) أيّ: رفضه أهل الشورى في قصة بيعة عثمان .

(2) ظ: ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة: ج4/6364، الاصفهاني، الأغاني: ج23/214 – 215، ابن خلكان، وفيات الأعيان: ج5/189 – 193، الشعر والشعراء: ج2/649 .

«صفحة 22»

وكان إذا حج حج ماشيا ، وربما مشى حافيا ،

وكان إذا ذكر الموت بكى ، وإذا ذكر القبر بكى ، وإذا ذكر البعث والنشور بكى ، وإذا ذكر الممر على الصراط بكى ، وإذا ذكر العرض على الله تعالى ذكره شهق شهقة يغشى عليه منها .

وكان إذا قام في صلاته ترتعد فرائصه بين يدي ربه عز وجل ،

وكان إذا ذكر الجنة والنار اضطرب اضطراب السليم ، ويسأل الله تعالى الجنة ، ويعوذ به من النار ،

وكان لا يقرأ من كتاب الله عز وجل : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) إلا قال : لبيك اللهم لبيك ، ولم ير في شيء من أحواله إلا ذاكرا لله سبحانه ،

وكان أصدق الناس لهجة ، وأفصحهم منطقا). (1)

وقال ابن عساكر عن عبد الله بن العباس قال : (ما ندمت على شيء فاتني في شبابي إلّا أني لم أحج ماشيا ، ولقد حج الحسن بن علي خمسا وعشرين حجة ماشيا وإن النجائب لتقاد معه). (2)

قال واصل بن عطاء : (كان الحسن بن علي عليه سيماء الأنبياء وبهاء الملوك). (3)

عن ابن عون عن عمير بن إسحاق قال: (ما تكلم عندي أحد كان أحب إليّ إذا تكلم أَن لا يسكت من الحسن بن علي وما سمعت منه

ـــــــــــــــــــــــ

(1) الصدوق، الأمالي: ص140 .

(2) ابن عساكر، تاريخ دمشق: ج14/72 ، والذهبي، سير أعلام النبلاء: ج4/387 .

(3) المجلسي، بحار الانوار/ ج43/251 .

«صفحة 23»

كلمة فحش قط إلا مرة فإنه كان بين حسين بن علي وعمرو بن عثمان بن عفان خصومة في أرض فعرض حسين أَمرا لهم لم يرضه عمرو فقال الحسن (عليه السلام) فليس له عندنا إلا ما رغم أَنفه قال فهذا أَشد كلمة فحش سمعتها منه قط). (1)

قال الواقدي : عن ثعلبة بن أبي مالك :(شهدت الحسن (عليه السلام) يوم مات ودفن بالبقيع فلقد رأيت البقيع ولو طرحت فيه إبرة ما وقعت إلاّ على رأس إنسان). (2)

وروى ابن عساكر أيضا قال :(بكى على الحسن بن علي (عليه السلام) بمكة والمدينة سبعا ، النساء والصبيان والرجال). (3)

وفي الطبقات الكبرى : عن أبي جعفر قال 🙁 مكث الناس يبكون على حسن بن علي (عليه السلام) سبعا ما تقوم الأسواق). (4)

وعن عبد الله بن عروة بن الزبير قال : (رأيت عبد الله بن الزبير قعد إلى الحسن بن علي (عليه السلام) في غداة من الشتاء باردة) قال :(فوالله ما قام حتى تفسخ جبينه عرقا)! . قال : (فغاظني ذلك فقمت إليه فقلت : يا عم). قال : (ما تشاء ؟) قلت : (رأيتك قعدت إلى الحسن بن علي فما

ـــــــــــــــــــــــ

(1) ابن عساكر، تاريخ دمشق: ج14/80، ابن سعد، الطبقات الكبرى القسم الناقص: ج1 ص279 ، المزي، تهذيب الكمال: ج2/591 ، ونسب قريش: ص24.

(2) ابن حجر، الاصابة: ج1/495 ، الحاكم النيسابوري، المستدرك: ج3/190، ابن سعد، الطبقات الكبرى القسم المتمم: ج1/351، المزي، تهذيب الكمال: ج2 ص601 ،وابن عساكر، تاريخ دمشق: ج14/118.

(3) ابن عساكر، تاريخ دمشق: ج14/118، وابن كثير، البداية والنهاية: ج8/43 .

(4) ابن سعد، الطبقات الكبرى القسم الناقص: ج1/352 ، الحاكم النيسابوري، المستدرك: ج3/189 .

«صفحة 24»

قمت من عنده حتى تفسخ جبينك عرقا!) قال : (يا ابن أخي إنه ابن فاطمة لا والله ما قامت النساء عن مثله). (1)

وفيه يقول النجاشي الشاعر وكان من شيعة علي ، يرثيه عند وفاته :

لم يُسْبَلِ السترُ على مثله

في الأرض من حافٍ ومن ناعل(2)

وقيل للحسن (عليه السلام): فيك عظمة ، فقال (عليه السلام): «بل فيَّ عزة قال الله : ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾» . (3)

قال محمد بن اسحاق : (ما بلغ أحد من الشرف بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) ما بلغ الحسن بن علي . كان يبسط له على باب داره فإذا خرج وجلس انقطع الطريق فما يمر احد من خلق الله إلّا جلس إجلالا له فإذا علم قام ودخل بيته فيمر الناس . وكان إذا نزل عن راحلته في طريق مكة فمشى فما من خلق الله أحد إلّا نزل ومشى حتى سعد بن أبي وقاص فقد نزل ومشى إلى جنبه . (4)

وقال معاوية لعبد الله بن الزبير سنة 44 حين زار المدينة ألا ترى الحسن زارني مرة واحدة … قال إن مع الحسن مائة ألف سيف لوشاء ضربك بها .

قال محمد بن سعد : أخبرنا علي بن محمد ، عن محمد بن عمر العبدي ، عن أبي سعيد : (إن معاوية قال لرجل من أهل المدينة من

ـــــــــــــــــــــــ

(1) المزي، تهذيب الكمال : ج6 / 233، وابن عساكر، تاريخ دمشق: ج14/69 ـ70 .

(2) المسعودي، مروج الذهب: ج2/428.

(3) المجلسي، بحار الانوار: ج43/251.

(4) نفسه: ص254 نقلا عن المناقب .

«صفحة 25»

قريش : أخبرني عن الحسن بن علي) . قال : (يا أمير المؤمنين ، إذا صلى الغداة جلس في مصلاه حتى تطلع الشمس ، ثم يساند ظهره فلا يبقى في مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله) رجل له شرف إلاّ أتاه فيتحدثون . حتى إذا ارتفع النهار صلى ركعتين ، ثم نهض فيأتي أمهات المؤمنين فيسلم عليهن فربما أتحفنه؛ ثم ينصرف إلى منزله ثم يروح فيصنع مثل ذلك) . فقال : (ما نحن معه في شيء) . (1)

أقول :

يتضح من هذه الروايات أي جناية جناها فنسنك وزملاؤه مؤلفوا (ECYCLOPEDIA OF ISLAM) (الموسوعة الإسلامية) التي صدرت باللغة الانجليزية والفرنسية والالمانية حين قدموا الإمام الحسن (عليه السلام) إلى العالم بأنه رجل شهوات وملذات في قبال ما تعرضه الروايات الصحيحة بأنه شخصية رائدة عبادةً وسلوكاً ومكانةً في الدين وإنه بلغ في الشرف ما لم يبلغه أحد بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) . وإنه كسر الطوق الإعلامي الأموي الذي أوجده معاوية ضد نهضة علي (عليه السلام) الإحيائية للسنة النبوية.

ـــــــــــــــــــــــ

(1) ترجمة الامام الحسن (عليه السلام) من طبقات ابن سعد: ج1/297 ، ابن عساكر، تاريخ دمشق: ج14/71 ، والبلاذري، انساب الاشراف: ج3/274 .

«صفحة 26»

«صفحة 27»

الفصل الثاني القراءة السائدة للصلح والإشكاليات عليها

«صفحة 28»

يكاد يجمع الباحثون الشيعة في تعليلهم لصلح الإمام الحسن (عليه السلام) وتسليمه الأمر لمعاوية إنه انطلق من واقع منهار للكوفيين وعدم قدرتهم على الاحتفاظ بالدولة التي أنشأها في قبال معاوية بل عدم القدرة على توفير الأَمان للحسن نفسه (عليه السلام) ففي رواية مشكوك في صحتها تذكر أنه قد تعرض لمحاولة اغتيال جرح فيها جرحا بليغا ونهب متاعه . ومن ثم كاتب معاوية في الصلح ليحقق الأَمان له ولشيعته وليفضح معاوية .

الروايات التي استندت إليها الرؤية السائدة

لقد اعتمدوا في هذا التحليل على روايات في مصادر التاريخ الإسلامي منها رواية ابن سعد عن يونس بن أبي اسحاق (159هـ) قال : (شد الناس على حجرة الحسن فانتهبوها حتى انتهبت بسطه وجواريه وأخذوا رداءه من ظهره وطعنه رجل من بني أسد يقال له أبن اقيصر بخنجر مسموم في إليته فتحول من مكانه الذي انتهب فيه متاعه ونزل الأبيض قصر كسرى . وقال عليكم لعنة الله من أهل قرية (يريد أهل الكوفة) فقد علمت أن لا خير فيكم قتلتم أبي بالأمس واليوم تفعلون بي هذا . ثم دعا عمرو بن سلمة الأَرحبي فأرسله وكتب معه

«صفحة 29»

إلى معاوية بن أبي سفيان يسأله الصلح ويسلم له الأمر … ) . (1)

ومنها رواية زياد بن عبد الله ، عن عوانة بن الحكم : (بايع أهل العراق الحسن بن علي فسار حتى نزل المدائن ، وبعث قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري على المقدمات ، وهم إثنا عشر ألفا ، وكانوا يسمون شرطة الخميس ، قال : فبينا الحسن بالمدائن ، إذ نادى مناد في عسكر الحسن : ألا إن قيس بن سعد بن عبادة قد قتل ، فانتهب الناس سرادق الحسن حتى نازعوه بساطا تحته ، ووثب على الحسن رجل من الخوارج من بني أسد فطعنه بالخنجر ووثب الناس على الأسدي فقتلوه ، ثم خرج الحسن حتى نزل القصر الأبيض بالمدائن ، وكتب إلى معاوية في الصلح) . قال : (ثم قام الحسن ـ فيما بلغني ـ في الناس ، فقال : يا أهل العراق إنه سخى بنفسي عنكم ثلاث : في قتلكم أبي ، وطعنكم إيّاي ، وانتهابكم متاعي . (2)

ومنها رواية ابن الأَثير قال : (قيل للحسن (عليه السلام) ما حملك على ما فعلت ؟) فقال : (كرهتُ الدنيا ، ورأيت أَهل الكوفة قوما لا يثق بهم أحد أبدا إلاّ غُلِب ، ليس أحد منهم يوافق آخراً في رأي ولا هوى ، مختلفين لا نية لهم في خير ولا شر).(3)

ـــــــــــــــــــــــ

(1) المزي، تهذيب الكمال: ج6/245 ، وفي تاريخ دمشق لابن عساكر ترجمة الحسن قال: محمد بن سعد قال ابو عبيد عن مجالد ، عن الشعبي .

(2) نفسه.

(3) ابن الأثير، الكامل في التاريخ: ج3/407 . قال أحمد بن محمد القسطلاني في إرشاد الساري في شرح صحيح البخاري ج4/411: قال الكرماني : (وقد كان الحسن يومئذ أَحق الناس بهذا الأمر فدعاه ورعه إلى ترك الملك رغبة فيما عند الله ولم يكن ذلك لعلة ولا لذلة ولا لقلة فقد بايعه على الموت أَربعون أَلفا) . ظ: العيني، عمدة القاري في شرح صحيح البخاري: ج16/239 .

«صفحة 30»

ومنها رواية أحمد بن علي الطبرسي نسبت إلى الحسن قوله :(أرى والله إن معاوية خير لي من هؤلاء . يزعمون أنهم لي شيعة ابتغوا قتلي وانتهبوا ثقلي وأخذوا مالي ، والله لئن آخذ من معاوية عهدا أحقن به دمي وآمن به في أهلي خيرا من أن يقتلوني فيضيع أهل بيتي وأَهلي والله لو قاتلت معاوية لأخذوا بعنقي حتى يدفعوني إليه سلما والله لئن أسالمه وأنا عزيز خير من أن يقتلني وأنا أسير أو يمن علي فتكون سبة على بني هاشم إلى آخر الدهر ، ولمعاوية لا يزال يمن بها وعقبه على الحي منا والميت). (1)

رواية أبي الفرج في مقاتل الطالبيين :(كما أجمعوا على أن معاوية أعلن عن نقضه للشروط لما دخل الكوفة سنة 41هـ وأخذ البيعة من اهلها والحسن بينهم).

قال العلامة المصلح السيد عبد الحسين شرف الدين اعلى الله مقامه : (فلما تمت البيعة لمعاوية في الكوفة خطب فذكر عليا فنال منه ، ونال من الحسن (عليه السلام)، فقام الحسين (عليه السلام) ليرد عليه ، فقال له الحسن (عليه السلام): على رسلك يا أخي . ثم قام (عليه السلام) فقال : أيها الذاكر عليا ! أنا الحسن وأبي علي ، وأنت معاوية وأبوك صخر ، وأمي فاطمة وأمك هند ، وجدي رسول الله وجدك عتبة ، وجدتي خديجة وجدتك فتيلة ، فلعن الله

ـــــــــــــــــــــــ

(1) المجلسي ، بحار الأنوار: ج44/21، عن الطبرسي، الاحتجاج: ج2/290، والطبرسي، إعلام الورى: ترجمة الحسن (عليه السلام)… ص213 .

«صفحة 31»

أخملنا ذكرا ، وألأمنا حسبا ، وشرنا قديما ، وأقدمنا كفرا ونفاقا ! فقالت طوائف من أهل المسجد : آمين . ثم تتابعت سياسة معاوية ، تتفجر بكل ما يخالف الكتاب والسنة من كل منكر في الإسلام ، قتلا للأبرار ، وهتكا للأَعراض ، وسلبا للأموال ، وسجنا للأحرار ، وتشريدا للمصلحين) .

وقد استند القائلون بهذا التحليل الباحثون الشيعة منذ عصر المفيد وإلى اليوم على روايات أبي الفرج في كتابه مقاتل الطالبيين وهي ثلاث روايات مسندة :

الأولى: عن أبي عبيد عن الفضل المصري عن عثمان بن أبي شيبة عن أبي معاوية عن الأَعمش عن عمرو بن مرة عن سعيد بن سويد أنه قال: (صلى بنا معاوية بالنخيلة الجمعة في الصحن ثم خطبنا فقال: إني والله ما قاتلتكم لتصلوا ولا لتصوموا ولا لتحجوا ولا لتزكوا إنكم لتفعلون ذلك؛ وإنما قاتلتكم لأتأمر عليكم وقد أعطاني الله ذلك وأنتم كارهون). قال شريك في حديثه : (هذا هو التهتك).

الثانية: قال أبو الفرج حدثني أبو عبيد قال حدثنا فضل قال حدثنا عبد الرحمن بن شريك قال حدثنا أبي عن الأعمش عن عمرو بن مرة عن سعيد بن سويد . مثله .

الثالثة: عن علي بن العباس المقانعي عن جعفر بن محمد بن الحسين الزهري عن حسن بن الحسين (العربي) عن عمرو بن ثابت (أبي المقدام) عن أبي إسحاق (السبيعي) قال: سمعت معاوية بالنخيلة يقول: (ألا إن كل شيء أعطيته الحسن بن علي تحت قدمي هاتين لا أفي

«صفحة 32»

به) ، قال أبو إسحاق: (وكان والله غدارا) (1) .

أقول: إن أبا إسحاق في هذه الحادثة كان عمره بين 11ـ12سنة وهو عمر لا يتيح لصاحبه ان يشهد الواقعة ويكون قريبا من معاوية ويسمعه ، والأرجح أنه كان قد رواها عن عمرو بن مرة عن سعيد بن سويد وسعيد مجهول لم يترجموا له ، وعمرو بن مرة فيه كلام فلعله بسبب ذلك دلس في الرواية وتدليسه معروف لدى النقاد او لعله كان قد بدر منه ذلك في آخر عمره ، وقد تغير حفظه، وغدر معاوية بالحسن(عليه السلام) مما لا شك فيه فهو معذور في تدليسه.

وهناك سند آخر للرواية أورده ابن عساكر (2) ينتهي به إلى عبد الملك بن عمير وفي سند الرواية محمد بن خالد، قال عنه أبو حاتم الرازي: (كان يكذب) (3).

وحصيلة البحث إن الرواية من أخبار الآحاد تنتهي إلى سعيد بن سويد وهو مجهول الحال، وعلى فرض صحة سند الرواية فإنها معارضة بروايات أخرى ومع واقع تاريخي ثابت يخالفها.

كذلك استندوا إلى رواية أبي الحسن علي بن محمد بن أبي سيف المدائني في كتابه (الأحداث) قال: (كتب معاوية نسخة واحدة إلى عماله بعد عام الجماعة أن برئت الذمة ممن روى شيئا من فضل أبى تراب وأهل بيته فقامت الخطباء في كل كورة وعلى كل منبر يلعنون

ـــــــــــــــــــــــ

(1) الاصفهاني، مقاتل الطالبيين: ص45 .

(2) ابن عساكر، تاريخ دمشق: ج52 /380 .

(3) نفسه: ج52/381 .

«صفحة 33»

عليا ويبرؤون منه ويقعون فيه وفي أهل بيته وكان أشد الناس بلاء حينئذ أهل الكوفة لكثرة من بها من شيعة علي (عليه السلام) فاستعمل عليهم زياد بن سمية وضم إليه البصرة فكان يتتبع الشيعة وهو بهم عارف لأنه كان منهم أيام علي (عليه السلام) فقتلهم تحت كل حجر ومدر وأخافهم وقطع الأيدي والأرجل وسمل العيون وصلبهم على جذوع النخل وطرفهم وشردهم عن العراق فلم يبق بها معروف منهم … فلم يزل الأمر كذلك حتى مات الحسن بن علي (عليه السلام) فازداد البلاء والفتنة فلم يبق أحد من هذا القبيل إلا وهو خائف على دمه أو طريد في الأرض . ثم تفاقم الأمر بعد قتل الحسين (عليه السلام) وولى عبد الملك بن مروان فاشتد على الشيعة وولى عليهم الحجاج بن يوسف) . (1)

ومنذ عهد العلامة المحقق الشيخ راضي آل ياسين (رحمه الله) في كتابه صلح الإمام الحسن (عليه السلام) ، والعلامة المصلح السيد عبد الحسين شرف الدين (رحمه الله) في تقديمه له سادت فكرة تحليلية حول الصلح مفادها : إن الإمام الحسن (عليه السلام) بصلحه وشروطه – مع علمه إن معاوية سوف لا يفي بواحدة منها – استهدف فضحه أمام المسلمين والحفاظ على الثلة الطيبة من شيعة علي (عليه السلام).

وقد أخذت صيغتها التامة على يد المرجع الراحل الشهيد السيد محمد باقر الصدر (رحمه الله) قال : (أصيب المجتمع الإسلامي إبان إمامة الحسن (عليه السلام) بمرض(الشك في القيادة) وهذا الداء ظهر في أواخر حياة

ـــــــــــــــــــــــ

(1) ابن أبي الحديد، شرح النهج: ج11/ 46 .

«صفحة 34»

أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) . إذ واجه أيّام خلافته عدة حروب ذهب ضحيتها عشرات الآلاف من أبناء الأمة ، فأخذ الناس يشكّون هل أن المعارك التي تخاض معارك رسالية أم أنها معارك قبلية أو شخصية ؟ وقد عبّر أمير المؤمنين (عليه السلام) عن ظهور هذا الداء الاجتماعي في عدة مرات منها في خطبته المعروفة بخطبة الجهاد التي ألقاها على جنوده المنهزمين في مدينة الأنبار حيث قال لهم والألم يعصر قلبه : (ألا وإني قد دعوتكم إلى قتال هؤلاء القوم ليلا ونهاراً، وسرا وعلاناً، وقلت لكم أغزوهم قبل أن يغزوكم ، فوالله ما غزي قوم في عقر دارهم إلا ذلوا ، فتواكلتم وتخاذلتم حتى شنت الغارات عليكم ، وملكت عليكم الأوطان) واستفحل (الداء) واشتد في حياة الإمام الحسن (عليه السلام) ، فلم يكن باستطاعته في مثل هذه الظروف والمجتمع المصاب بهذا الداء أن يخوض معركة مصيرية تنتهي بالنصر على خصمه المتربص به ، فإذا أضفنا إلى هذا شخصية الخصم معاوية الذي كان بإمكانه أن يبدو أمام الناس بمظهر الحاكم الملتزم بالدين وكذلك تعدد انتماءات المقاتلين مع الإمام الحسن (عليه السلام) حتى أبدى بعضهم استعداده لمعاوية أن يسلم له الإمام (عليه السلام) حيا ، وطعنه بعضهم طعنة غادرة ، إذا جمعنا هذا وغيره من الظروف عرفنا لماذا صالح الإمام الحسن (عليه السلام) معاوية) . (1) انتهى كلام الشهيد الصدر(رحمه الله) .

ـــــــــــــــــــــــ

(1) الكوراني، الانتصار: ج8/137- 139 .

«صفحة 35»

الإشكاليات أمام القراءة السائدة

يرد على القراءة السائدة للصلح أن الروايات التي اعتمدت عليها معارضة بروايات أخرى ولكن الباحثين أغفلوها عند التحليل .

1 . ففي قبال ما رواه ابن الاثير واعتمده الباحثون في التحليل أن الحسن (عليه السلام) قال : (رأيت أهل الكوفة قوما لا يثق بهم أحد أبدا إلا غُلِب ، مختلفين لا نية لهم في خير ولا شر) ونظيراتها، توجد روايات تعطي رؤية أخرى عن أهل الكوفة :

منها : ما رواه هشام بن محمد بن السائب الكلبي قال : أخبرني أبي وعوانة بن الحكم والشرقي بن القطامي قالوا : (لما قدم معاوية المدينة أتاه وجوه الناس ، ودخل عليه عبد الله بن الزبير ، فقال له معاوية : ألا تعجب للحسن بن علي ، أنه لم يدخل عليّ (وفي رواية : ألا تعجب من الحسن وتثاقله عنّي ؟ ) منذ قدمت المدينة ، وأنا بها منذ ثلاث ، قال : يا أمير المؤمنين ! دع عنك حسنا فإن مثلك ومثله كما قال ‹ الشماخ › :

أجامل أقواما حياء وقد أرى

صدورهم تغلي علي مراضها

والله لو شاء الحسن أن يضربك بمائة ألف سيف لفعل ، ولأهل العراق أبر (وفي رواية ارأف وفي أخرى ارأم) به من أم الحُوار بحُوارها . قال معاوية : أردت أن تغريني به ، واللَّه لأصلنّ رحمه ولأقبلنّ عليه).(1)

ـــــــــــــــــــــــ

(1) الأصفهاني، الأغاني: ج9/173، (قال أبو الفرج: نسخت من كتاب يحيى بن حازم حدّثنا عليّ بن صالح صاحب المصلَّى قال حدّثنا ابن دأب)، أيضا ابن حمدون، التذكرة الحمدونية: ج5/192، والحُوار : ولد الناقة من وقت ولادته إلى أن يفطم ويفصل . وقول معاوية والله لأصلن رحمه ولاُقبلن عليه : هي المجاملة حياء التي استشهد ببيت الشعر لأجلها ، وهي من أجل أن يعبر مرحلة فرضها عليه الحسن (عليه السلام) لمعالجة الانشقاق وفتح الشام لأخبار علي (عليه السلام)، وقد انتقم معاوية بعد ذلك من الحسن (عليه السلام) بدس السم له ومن شيعته بتشريدهم وقتلهم .

«صفحة 36»

وفي رواية المدائني أن معاوية قال لابن الزبير : (ألا تعجب من الحسن وتثاقله عنّي ؟) فقال ابن الزبير: (مثلك ومثل الحسن كما قال الشاعر :

أجامل أقواما حياء وقد أرى

تأرى (تغلي) قلوبهم عليّ مِراضها(1)

فقال معاوية : والله ما جامل ولقد أعلن ، قال : بلى والله لقد

ـــــــــــــــــــــــ

(1) وفي رواية تغلي، و(مِراض) جمع مريض، ومرض القلب أو الصدر هو الشك والعداوة ، وهو هنا العداوة ، والمعنى أجامل اقواما حياء ولكني ارى قلوبهم او صدورهم تغلي عليَّ حقدا وعداوة . وفي لسان العرب أَتأَر إِليه النَّظَرَ : أَحَدَّه . وأَتْأَره بصره: أَتْبَعَه إِياه‏ ، وقد اراد معاوية باستشهاده بالبيت أن يُفهم ابن الزبير أن الحسن (عليه السلام) يجامله مجاملة قد اضطر إليها لحل أزمة الانشقاق في امة جده ، والا فإن قلب الحسن (عليه السلام) يغلي عليه لانه لا ينسى قتلى شيعة أبيه في صفين واعلامه الكاذب فيه . وقد روى المجلسي في البحار: ج44/ 57 إن حجر بن عدي قال للحسن (عليه السلام): (أما والله لوددت أنك مت في ذلك اليوم ومتنا معك ولم نر هذا اليوم ، فإنا رجعنا راغمين بما كرهنا ، ورجعوا مسرورين بما أحبوا). فلما خلا به الحسن (عليه السلام) قال: (يا حجر قد سمعت كلامك في مجلس معاوية، وليس كل انسان يحب ما تحب، ولا رأيه كرأيك، وإني لم أفعل ما فعلت إلا إبقاء عليكم، والله تعالى كل يوم هو في شأن) وأنشأ (عليه السلام) لما اضطر إلى البيعة:

أجامل أقواما حياء وقد أرى

قلوبهم تغلي علي مراضها

قال البهبودي في /هامش 57 : أظن الصحيح هكذا :

أجامل أقواما حياء ، وقد أرى

قدورهم تغلى على مراضها

يقال : غلت القدر تغلى غليانا : جاشت وثارت بقوة الحرارة ، ومراض القدر أسفلها إذا غطى من الماء ، يقول : إنهم يثورون ثورة ظاهرية كالقدر التي ثارت أعلاه ولم تغلِ أسفلها ، فهم منافقون يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم .

أقول : لم أجد في لسان العرب ولا في تاج العروس ، إن مِراض القدر اسفلها ، ومهما يكن فإن استشهاد الامام الحسن (عليه السلام) بالبيت إن صحت القصة فهو (عليه السلام) يريد أنه جامل معاوية وهش في وجهه بما تقتضيه مصلحة الرسالة والامة وهو يعلم أن قلب معاوية يغلي عليه عداوة لقتلاه في بدر، اما المعنى الذي ذهب إليه البهبودي فهو بعيد.

والبيت سواء استشهد به معاوية او الامام الحسن (عليه السلام)فمعناه واحد ، مع ملاحظة أن معاوية حين استشهد به اراد به أن الحسن (عليه السلام)حين جامله فإن قلبه يغلي عليه بما قتل من شيعة أبيه في صفين وبما عرضه من اعلامه الكاذب فيه ، وإن الحسن (عليه السلام)حين استشهد به اراد أنه اجبر معاوية على مجاملته مع أن قلبه يغلي عليه حقدا لقتلاه في بدر ، ولم يأخذ بثأرهم لان ثأرهم في تصوره لا يكون الا حين يقتل من بني هاشم علياءهم الامر الذي حققه ولده يزيد بعده بوصية منه، ومن هنا فإن حلم معاوية ليس حلما حقيقة بل هو تكتيك بلغة العصر كما كشف ذلك لعائشة بنت عثمان حين قال لها: (فاظهرنا لهم حلما تحته غضب) .

«صفحة 37»

جامل ، ولو شاء أن يطلق عليك عقال حرب زبون لفعل(1).

فقال : أراك يا ابن الزبير تجول في ضلالتك.(2)

أقول : وقول ابن الزبير (ولأهل العراق أبر (وفي رواية ارأف وفي أخرى ارأم) به من أم الحُوار بحوارها) .

يشهد له قول الحسن (عليه السلام)حين خرج من الكوفة إلى المدينة إذ تمثل بقول الشاعر :

وما عن قِلى فارقتُ دارَ معاشري

هم المانعون حوزتي وذماري

ويشهد له أيضا قول معاوية للزرقاء بنت عدي وقد استضافها وحاورها (والله لوفاؤكم له بعد موته أعجب إليَّ من حبكم له في حياته!) .(3)

ـــــــــــــــــــــــ

(1) أي حرب صعبة [ زبن ] : الزَّبْنُ ، كالضَّرْبِ : الدَّفْعُ ، كما في الصِّحاحِ . وفي المُحْكَم : دَفْعُ الشيء عن الشيء ، كالناقَةِ تَزْبِنُ ولَدَها عن ضرْعِها برِجْلِها وتَزْبِنُ الحالِبَ . زَبَنَ الشيء يَزْبِنُه زَبْناً وزَبَنَ به : دَفَعَه (تاج العروس) .

(2) البلاذري، انساب الاشراف: ج5/38 .

(3) اخبار الوافدات من النساء: ص63 ، العقد الفريد: ج1/220، وبلاغات النساء : ص49 ، قاموس الرجال: ج12/259 – 260، محادثات النساء: ص76 ، وابن عساكر، تاريخ دمشق: ج73/124.

«صفحة 38»

2 . وفي قبال الجزء الآخر من رواية ابن الاثير و هو قوله (مختلفين لا نية لهم في خير ولا شر) توجد روايات معارضة لها منها :

ما رواه البلاذري عن عوانة : أن عليا (عليه السلام)كتب إلى قيس ابن سعد بن عبادة وهو عامله على آذربيجان : «أما بعد فاستعمل على عملك عبيد الله بن شبيل الأحمسي وأقبل فإنه قد اجتمع ملأ المسلمين وحسنت طاعتهم ، وانقادت لي جماعتهم ولا يكن لك عرجة ولا لبث ، فإنا جادّون معدّون ، ونحن شاخصون إلى المحلين ، ولم أؤخر المسير إلا انتظارا لقدومك علينا إن شاء الله والسلام)).

وعن عوانة قال: قال عمرو بن العاص حين بلغه ما عليه عليّ من الشخوص إلى الشام وأن أهل الكوفة قد انقادوا له :

لا تحسبني يا عليّ غافلا

لأوردن الكوفة القبائلا

ستين ألفا فارسا وراجلا

فقال : عليّ :

لأبلغن العاصي بن العاصي

ستين ألفا عاقدي النواصي

مستحقبين حلق الدلاص(1)

ويشهد له أيضا : ما رواه سليم قال : (ولم يبق أحد من القراء ممن كان يشك في الماضين ويكف عنهم ويدع البراءة منهم ورعا وتأثما إلا استيقن واستبصر وحسن رأيه وترك الشك يومئذ والوقوف وكثرت

ـــــــــــــــــــــــ

(1) البلاذري، انساب الاشراف: ج2/481، والدلاص: الدروع اللينة، والاحْتِقابُ: شَدُّ الحَقِيبةِ من خَلْفٍ ، وكذلك ما حُمِلَ مِن شي‏ء من خَلْف .

«صفحة 39»

الشيعة(1) بعد ذلك المجلس من ذلك اليوم وتكلموا ، وقد كانوا أقل أهل عسكره وسائر الناس يقاتلون معه على غير علم بمكانه من الله ورسوله(2) ، وصارت الشيعة بعد ذلك المجلس أجل الناس وأعظمهم) . (3)

قال ابن حجر : وأخرج الطبري بسند صحيح عن يونس بن يزيد عن الزهري قال: جعل علي على مقدمة أهل العراق قيس بن سعد بن عبادة وكانوا أربعين ألفا بايعوه على الموت فقتل علي فبايعوا الحسن بن علي بالخلافة . (4)

3 . وفي قبال ما رواه ابو الفرج الاصفهاني بإسناده إلى أبي اسحاق

ـــــــــــــــــــــــ

(1) أي: الموالين له المعادين لعدوه المتبرئين منهم .

(2) نحن نتحفظ على قوله (وسائر الناس يقاتلون معه على غير علم بمكانه من الله ورسوله) فإن معركة النهروان وقعت في صفر او في شعبان سنة 38هـ أي بعد سنتين ونصف وقعت خلالها معركتا الجمل وصفين ، وقد ظهر فيها من الآيات لعلي (عليه السلام) وأحاديث النبي 9 فيه ، ما لم يدع شكا في علي (عليه السلام) ، وانما الناس تنفتح قلوبها على الحقائق تدريجيا ﴿ قالَتِ الأَْعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِْيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ ﴾ الحجرات/14 ، فالناس الذي كانوا يقاتلون مع علي (عليه السلام)كانوا يعرفون مكانته من الله ورسوله ولكنهم لم تنفتح قلوبهم بعد ، وفي النهروان بعدما شهدوا آية جديدة للنبي 9 في علي (عليه السلام) هو قصة مثدن اليد ، انفتح قلب من لم يكن قد انفتح على امامة علي (عليه السلام)؛ والى هذه المرحلة من الانقياد والاجتماع يشير علي (عليه السلام) في كتابه إلى قيس بن سعد بن عبادة عامله على اذربيجان يقول له(أقبل فإنه قد اجتمع ملأ المسلمين وحسنت طاعتهم ، وانقادت لي جماعتهم ولا يكن لك عرجة ولا لبث ، فإنا جادّون معدّون ، ونحن شاخصون إلى المحلين ، ولم أؤخر المسير إلا انتظارا لقدومك علينا)

(3) كتاب سليم بن قيس، تحقيق الانصاري: ص220 .

(4) ابن حجر، فتح الباري: ج12/53 .

«صفحة 40»

ت (127هـ) وهي المشهورة عند الباحثين الشيعة (1) ، إن معاوية بالنخيلة قال: ألا إن كل شيء أعطيته الحسن بن علي تحت قدمي هاتين لا أفي به .

ـــــــــــــــــــــــ

(1) روى الكثير من الباحثين الشيعة عن الشيخ المفيد منهم الخوئي في منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة ج19/143 ، وكذلك الشيخ الكوراني في جواهر التاريخ عن الشيخ المفيد في الارشاد ج 2/14 بغير سند قال : (فلما استتمت الهدنة سار معاوية حتى نزل بالنخيلة ، وكان ذلك يوم جمعة فصلى بالناس ضحى النهار ، فخطبهم وقال في خطبته : إني والله ما قاتلتكم لتصلوا ولا لتصوموا ولا لتحجوا ولا لتزكوا ، إنكم لتفعلون ذلك ، ولكني قاتلتكم لأتأمر عليكم ، وقد أعطاني الله ذلك وأنتم له كارهون، ألا وإني كنت منيت الحسن وأعطيته أشياء ، وجميعها تحت قدمي لا أفي بشيء منها له) وهي رواية أبي الفرج في مقاتله وقد رواها مسندة ، رواها من كتاب أبي الفرج مباشرة كثير من الباحثين الشيعة المعاصرين كالعلامة التستري في قاموس الرجال 4/109 ، والعلامة السيد علي الشهرستاني في وضوء النبي (صلى الله عليه وآله) 1/209 وأستاذنا العلامة العسكري في احاديث أم المؤمنين عائشة 1/322 ، والعلامة الشيخ راضي ال ياسين /12في صلح الحسن (عليه السلام) وغيرهم كثير ، وكذلك من الباحثين القدامى من غير الشيعة كابن أبي الحديد في شرح النهج16/15 ومن الشيعة القاضي النعمان في شرح الاخبار 2/533 ، اما ابو الفرج فقد ساق للرواية ثلاثة اسانيد سندان منها عن أبي عبيد احدهما فيه عبد الرحمن بن شريك (177هـ) ولي قضاء الكوفة للمنصور وابنه ، والاخر عن عثمان بن أبي شيبة وقد رواه في مسنده عن أبي معاوية الضرير وهو من جلساء هارون ووضع له احاديث في ذم الرافضة وكلاهما يرويانها عن الاعمش عن عمرو بن مرة عن سعيد بن سويد وهو مجهول ، والسند الثالث عن المقانعي عن جعفر بن محمد بن الحسين الزهري عن حسن بن الحسين العربي عن عمرو بن ثابت (ابن أبي المقدام) عن أبي اسحاق السبيعي ولكننا لا نجدها في المصادر الشيعية الاصيلة وكلهم ثقاة بما فيهم ابو اسحاق ، و رواية الثقة قد تصطدم مع الواقع التاريخي فتحمل على الاشتباه ، وقضية تخلف معاوية عن الشروط وغدره بالحسن(عليه السلام) مسالة مفروغ منها والكلام في الزمن: هل كان هذا النقض في أول الصلح او بعد عشر سنوات؟ فيكون الوقوع في الاشتباه امر معقول، ويضيف ابن عساكر في تاريخه 52/3360 طريقا آخر قال: عن محمد بن خالد يعني القرشي الدمشقي حدثني محمد بن سعيد بن المغيرة الشيباني عن عبد الملك بن عمير: (إن معاوية خطب عند دخوله الكوفة) و محمد بن خالد قال عنه ابو حاتم الرازي (كذاب) والشيباني مجهول .

«صفحة 41»

توجد روايات أخرى تفيد أن نقض الشروط لم يكن في حياة الامام الحسن (عليه السلام)بل كان بعد استشهاده (عليه السلام) بالسّم.

فقد روى ابن عبد ربه وابن كثير قالا : قدم معاوية المدينة اول حجة حجها (سنة 44ه‍) بعد عام الصلح ، فتوجه إلى دار عثمان ، فلما دنا إلى باب الدار . صاحت عائشة بنت عثمان وندبت اباها .

فقال لها : يا بنت اخي إن الناس قد اعطونا سلطاننا ، فاظهرنا لهم حلما تحته غضب ، واظهروا لنا طاعة تحتها حقد ، فبعناهم هذا بهذا وباعونا هذا بهذا ، فإن اعطيناهم غير ما اشتروا منا شحوا علينا بحقنا وغمطناهم بحقهم ، ومع كل انسان منهم شيعته وهو يرى مكان شيعته ، فإن نكثناهم نكثوا بنا ثم لا ندري اتكون لنا الدائرة ام علينا ؟

وأن تكوني ابنة عم امير المؤمنين خير من أن تكوني امرأة من عُرُض الناس . (وفي رواية ابن كثير : وأن تكوني ابنة عثمان امير المؤمنين احب الي من أن تكوني امة من اماء المسلمين ونعم الخلف انا لك بعد ابيك).(1)

وفي ضوء هذه الرواية فإن معاوية إلى سنة 44هجرية لم يكن قد غدر بشروطه لمكان الحسن (عليه السلام) وشيعته وللتكتيك الذي تقيَّد به معاوية.

ـــــــــــــــــــــــ

(1) الجاحظ، البيان والتبيين: ص529 عن عيسى بن زيد عن اشياخه ، ابن قتيبة، عيون الاخبار: ج1/67، البلاذري، انساب الاشراف: ج5/125 : 356 عن المدائني عن عيسى بن يزيد ، ابن عبد ربه، العقد الفريد: ج4/15، ابن كثير، البداية والنهاية: ج8/120، ابن عساكر، تاريخ دمشق: ج59/ 155، شرح الاخبار للقاضي المغربي: ج2/114، العقيلي، الضعفاء: ج3/422، ابن حمدون، التذكرة الحمدونية: ج7/174.

«صفحة 42»

ويشهد لذلك أيضا :

ما رواه البلاذري قال حدثني أبو مسعود ، عن ابن عون عن أبيه قال : (لمّا ادّعى معاوية زيادا وولَّاه ، طلب زياد رجلا كان دخل في صلح الحسن وأمانه ، فكتب الحسن فيه إلى زياد ، ولم ينسبه إلى أب فكتب إليه زياد : أما بعد فقد أتاني كتابك في فاسق تؤوي مثله الفسّاق من شيعتك وشيعة أبيك ! فأيم الله لأطلبنّه ولو بين جلدك ولحمك ، فإن أحبّ لحم إليّ أن آكله للحم أنت منه ! فلما قرأ الحسن الكتاب قال : كفر زياد ، وبعث بالكتاب إلى معاوية ، فلما قرأه غضب فكتب إليه : أما بعد يا زياد ، فإن لك رأيين : رأي من أبي سفيان ، ورأي من سميّة ، فأمّا رأيك من أبي سفيان فحزم وحلم ، وأما رأيك من سميّة فما يشبهها فلا تعرض لصاحب الحسن ، فإني لم أجعل لك عليه سبيلا ، وليس الحسن مما يرمى به الرجوان وقد عجبت من تركك نسبته إلى أبيه أو إلى أمّه فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فالآن حين اخترت له والسلام). (1)

ورواية الجاحظ اكثر دقة، قال : حدثني سليمان بن أحمد الخرشي قال حدثني عبد الله بن محمد بن حبيب قال: (طلب زياد رجلا كان في الأمان الذي سأله الحسن بن علي لأصحابه فكتب فيه الحسن رضي الله تعالى عنه إلى زياد من الحسن بن علي إلى زياد أما بعد فقد علمت ما كنا أخذنا لأصحابنا وقد ذكر لي فلان أنك عرضت له فأحب أن لا تعرض له إلا بخير.

ـــــــــــــــــــــــ

(1) البلاذري ، أنساب الأشراف: ج3/ 52 – 53 .

«صفحة 43»

فلما أتاه الكتاب ولم ينسبه الحسن إلى أبي سفيان غضب فكتب من زياد بن أبي سفيان إلى الحسن أما بعد أتاني كتابك في فاسق يؤويه الفساق من شيعتك وشيعة أبيك وأيم الله لأطلبنهم ولو بين جلدك ولحمك وان أحب لحم إلي آكله للحم أنت منه ، فلما وصل الكتاب الحسن وجه به إلى معاوية فلما قرأه معاوية غضب وكتب من معاوية بن أبي سفيان إلى زياد بن أبي سفيان أما بعد فإن لك رأيين رأيا من أبي سفيان ورأيا من سمية فأما رأيك من أبي سفيان فحلم وحزم وأما رأيك من سمية فكما يكون رأي مثلها وقد كتب إلي الحسن بن علي أنك عرضت لصاحبه فلا تعرض له فإني لم أجعل لك إليه سبيلا وإن الحسن بن علي ممن لا يرمي به الرجوان والعجب من كتابك إليه لا تنسبه إلى أبيه أفإلى أمه وكلته وهو ابن فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم فالآن حين اخترت له والسلام). (1)

ويشهد لذلك أيضا :

مارواه ابن عبد ربه قال : (لما مات الحسنُ بن عليّ حَجّ معاوية ، فدخل المدينة وأراد أن يَلْعن عليَّا على مِنبر رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقيل له : إن ههنا سعدَ بن أبي وقاص ، ولا نراه يرضى بهذا ، فابعث إليه وخُذ رأيه . فأرسل إليه وذكر له ذلك، فقال : إن فعلت لأخرُجن من المسجد ، ثم لا أعود إليه . فأمسك معاوية عن لعنه حتى مات سعد، فلما مات لَعنه عَلَى المنبر ، وكتب إلى عماله أن يَلعنوه على المنابر ، ففعلوا). (2)

ـــــــــــــــــــــــ

(1) الجاحظ، البيان والتبيين: ص361 ، ابن أبي الحديد ، شرح نهج البلاغة: ج16/19 عن أبي الحسن المدائني .

(2) ابن عبد ربه، العقد الفريد: ج4/159 .

«صفحة 44»

ومن المعلوم إن وفاة سعد كانت بعد استشهاد الامام الحسن (عليه السلام) وفي السنة نفسها سنة 51هـ .

ويشهد لذلك أيضا واقع تاريخي ثابت وهو استضافة معاوية لعدد من الشخصيات العراقية من الرجال والنساء وسؤاله لهم عن سيرة علي (عليه السلام) وترحمه عليه مرات عديدة فإن هذا الواقع -وهو ثابت- لا ينسجم مع ما ادعته روايات أبي الفرج من أن معاوية قد اعلن عن نقض الشروط في النخيلة او عند دخوله الكوفة .

تحريف في رواية المدائني

إن المدائني لم يكن معنيا في روايته بأن يشخص بدقة وقت نقض الشروط بل ذكر على الاجمال إن ذلك كان بعد عام الجماعة اما متى فلم يكن معنيا به، قال :

(كتب معاوية نسخة واحدة إلى عماله بعد عام الجماعة أن برئت الذمة ممن روى شيئا من فضل أبى تراب وأهل بيته فقامت الخطباء في كل كورة وعلى كل منبر يلعنون عليا ويبرؤون منه ويقعون فيه وفي أهل بيته) .

ولكنه يشير إلى أن ملاحقة الشيعة قد اشتدت حينما استعمل زيادا على الكوفة، قال: (وكان أشد الناس بلاء حينئذ أهل الكوفة لكثرة من بها من شيعة علي (عليه السلام) فاستعمل عليهم زياد بن سمية وضم إليه البصرة فكان يتتبع الشيعة وهو بهم عارف لأنه كان منهم أيام علي (عليه السلام) فقتلهم تحت كل حجر ومدر وأخافهم وقطع الأيدي والأرجل وسمل العيون

«صفحة 45»

وصلبهم على جذوع النخل وطرفهم وشردهم عن العراق فلم يبق بها معروف منهم … فلم يزل الامر كذلك حتى مات الحسن بن علي(عليه السلام) فازداد البلاء والفتنة فلم يبق أحد من هذا القبيل الا وهو خائف على دمه أو طريد في الأرض) .

أقول : قوله (فلم يزل الامر كذلك حتى مات الحسن بن علي (عليه السلام) فازداد البلاء والفتنة) في هذا المكان تحريف للرواية وذلك لأن معاوية كان قد ولّى زياداً الكوفة بعد وفاة المغيرة بن شعبة في شعبان سنة 50ـ51هجرية، وقد استشهد الحسن (عليه السلام) في صفر وفي رواية أخرى في ربيع الأول سنة 50ـ51 هـ أي قبل وفاة المغيرة بن شعبة!

ومما يؤكد أن الغدر بالشروط واهمها الأمان ولعن علي قد تم بعد وفاة الامام الحسن (عليه السلام) أي سنة 50-51هـ إننا حين تتبعنا تاريخ من قتلهم زياد بأمر معاوية أو دفنهم أحياء أونفاهم أو شردهم من شيعة علي (عليه السلام)في الكوفة كحجر وأصحابه وعبد الرحمن بن حسان الذي دفنه حيا ، وعمرو بن الحمق الخزاعي وزوجته آمنة بنت الشريد وصعصعة بن صوحان وتسيير خمسين الف من الكوفة والبصرة بعيالاتهم وجدنا ذلك كله بعد وفاة الحسن (عليه السلام) أي في سنة 51ه‍ وهو اكتشاف تاريخي لم يسبق أن انتبه إليه الباحثون .

«صفحة 46»

دقة رواية سليم بن قيس مع سريان تحريف المدائني إليها :

وفي ضوء ذلك فإن رواية سليم بن قيس لقضية كتابة معاوية إلى عماله نسخة (1) في نهيهم لذكر فضائل علي تكون اكثر دقة على أنها لم تسلم من التحريف التي أصاب رواية المدائني ، فإن سليم يذكر أن معاوية كتب كتابه إلى عماله وهو في المدينة ولا يمكن أن يكون قد كتبه في سنة 44هجرية لما ذكرناه انفا من جوابه لعائشة بنت عثمان لما تلقته وهي تندب اباها ، بل كتبه لما زار المدينة بعد رجوعه من الحج سنة 50ـ51هـ حيث أراد أن يلعن علياً (عليه السلام)على منبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) في المسجد النبوي وقد قام بذلك بعد موت سعد بن أبي وقاص كما مرّ.

قال سليم : (وكان معاوية يومئذ بالمدينة ، فعند ذلك نادى مناديه وكتب بذلك نسخة إلى جميع البلدان إلى عماله(2) : “ألا برئت الذمة ممن روى حديثا في مناقب علي بن أبي طالب أو فضائل أهل بيته وقد أحل بنفسه العقوبة …” ثم إن معاوية مر بحلقة من قريش ، فلما رأوه قاموا له غير عبد الله بن عباس، فقال له : يا بن عباس، فإنا قد كتبنا في الآفاق ننهى عن ذكر مناقب علي وأهل بيته ، فكف لسانك – يا بن عباس – وأربع على نفسك، وإن كنت لابد فاعلا فليكن ذلك سرا ولا يسمعه أحد منك علانية .

ـــــــــــــــــــــــ

(1) الطبرسي، الاحتجاج: ج2/19 .

(2) هذا النداء منه بعد استشهاد الحسن (عليه السلام)وموت سعد بن أبي وقاص .

«صفحة 47»

ثم اشتد البلاء بالأمصار كلها على شيعة علي وأهل بيته (عليهم السلام)، وكان أشد الناس بلية أهل الكوفة لكثرة من بها من الشيعة، واستعمل عليهم زيادا أخاه(1)وضم إليه البصرة والكوفة وجميع العراقين، . فلما مات الحسن بن علي (عليه السلام) لم يزل الفتنة والبلاء يعظمان ويشتدان . . ) . (2)

والتحريف الذي أصابها هو الجملة الأخيرة وهي قوله (فلما مات الحسن بن علي (عليه السلام) لم يزل الفتنة والبلاء يعظمان ويشتدان) ، فإن موضعها الطبيعي هو قبل كتابة معاوية إلى ولاته وليس بعدها وهو التحريف نفسه الذي أصاب رواية المدائني .

وفي ضوء ذلك كله ينهار التحليل السائد المبني على تفرق الكوفيين وإن معاوية نقض شروطه سنة 41هجرية ، ونحتاج إلى تحليل آخر يفسر لنا تأخر ملاحقة معاوية للشيعة عشر سنوات مع شدة غضبه وحقده ، تحليل مبني على اجتماع الكوفيين حول علي (عليه السلام) في آخر عهده بعد النهروان ثم بيعتهم لولده الحسن (عليه السلام) من دون تردد ولا إكراه والتفافهم حوله واستقرار العراق له الامر الذي أدركه معاوية فعرض على الحسن (عليه السلام) أن يبقى كل واحد على بلده ، إذن لماذا يسلّم الحسن (عليه السلام) ملكا مستقرا له لمعاوية ويشترط عليه شروطا خاصة ؟

وهو ما نبحثه في الفصل التالي بحول الله تعالى .

ـــــــــــــــــــــــ

(1) استعمل معاوية زيادا على الكوفة سنة51 هـ بعد موت المغيرة وتوفي سنة 53حكم العراق خمس سنوت ومعنى ذلك إن ولايته على البصرة سنة 48هـ .

(2) كتاب سليم بن قيس: ص318

«صفحة 48»

«صفحة 49»

الفصل الثالث ـ صلح الامام الحسن (عليه السلام) قراءة جديدة في ضوء كلامه (عليه السلام)

«صفحة 50»

روى الشيخ الصدوق عن أبي سعيد عقيصا قال :

قلت للحسن بن علي ابن أبي طالب (عليهما السلام): يا ابن رسول الله لم داهنت معاوية وصالحته ؟ …

قال : يا أبا سعيد : (علة مصالحتي لمعاوية علة مصالحة رسول الله (صلى الله عليه وآله) لبني ضمرة وبني أشجع ، ولأهل مكة حين انصرف من الحديبية ، أولئك كفار بالتنزيل ومعاوية وأصحابه كفار بالتأويل) .(1)

أقول : معنى ذلك إن السبب الموجب للصلحين واحد ، وهذا يستلزم وحدة الخلفيات التي سبقت الصلح ثم وحدة الظرف الموجب له ثم وحدة الموقف إزاءه ثم وحدة النتائج المترتبة على الموقف وفي الآتي بيانها .

خلفية الصلحين

كان النبي (صلى الله عليه وآله) صاحب مشروع رسالي يستهدف تحرير دين إبراهيم (عليه السلام) من بدع قريش مما يخالف تنزيه الله تعالى حين عبدت الأصنام ، وتنزيه نبيه إبراهيم (عليه السلام) والحج الإبراهيمي من البدع التي أدخلتها إليه

ـــــــــــــــــــــــ

(1) الصدوق ، علل الشرائع: ج1/211.

«صفحة 51»

قريش من تحريم الجمع بين العمرة والحج في اشهر الحج وتاخير مقام إبراهيم (عليه السلام) عن البيت وغيره لتكريس امامتها الدينية التي دانت بها العرب وعملت باحكامها وكذلك تحرير كتاب الله وسيرة انبيائه من تحريفات اليهود والمسيحيين . وحين نهض النبي (صلى الله عليه وآله) بأمر الله تعالى وقفت قريش ضده وحاربته وشوهت باعلامها الكاذب سيرته وهدف حركته فامره الله تعالى بالصلح ليفضحها ويهيء اجواء الامان لتنتشر سيرة النبي (صلى الله عليه وآله)الصحيحة بين القبائل العربية التي شكلت جيش قريش في معركة الخندق تاثرا باعلامها وتاثر بها من شاء أن لا يهتدي وهكذا كان الامر .

وكان علي (عليه السلام) صاحب مشروع رسالي يستهدف تحرير دين محمد (صلى الله عليه وآله) من ثقافة أهل الكتاب التي نشرها كعب الاحبار وتميم الداري مما يخالف تنزيه الله وتنزيه الأنبياء بأمر قريش المسلمة ومن تحريمهم متعة الحج وارجاع مقام إبراهيم (عليه السلام)لى ما كان عليه في الجاهلية وامضاء التطليقات الثلاث بتطليقة واحدة وابتداع صلاة التراويح وغيرها من البدع التي ابتدعتها بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) لتكريس امامتها الدينية التي دان بها مسلمة الفتوح وغيرهم . ولما نهض علي (عليه السلام) بوصية من النبي (صلى الله عليه وآله) في الوقت المناسب (سنة 27هـ) وهي سنة استحكام الانشقاق بين قريش الحاكمة وضعف السلطة الحاكمة وقد توحدت بقيادة معاوية لحربه (عليه السلام)وشوهت باعلامها الكاذب سيرته وهدف نهضته فاوصى النبي (صلى الله عليه وآله) ولده الحسن (عليه السلام) وهو ولي الامر بعد أبيه علي (عليه السلام)بالصلح في شروطه الموضوعية وهي ان يطلب معاوية ذلك

«صفحة 52»

والنبي (صلى الله عليه وآله) يعلم بمستقبل الحوادث وتفاصيلها بعلم الله تعالى لأنه نبي، ليفضح معاوية ويهيء اجواء الامان لتنتشر اخبار علي (عليه السلام) في الشام التي تربى اهلها على لعن علي (عليه السلام) وحربه جهلا منهم بسيرته وباحاديث النبي (صلى الله عليه وآله) فيه، وهكذا كان الامر وانفتحت الشام على اخبار إمامة علي (عليه السلام) كما انتفتحت القبائل العربية على ادلة نبوة محمد (صلى الله عليه وآله) ، وقد يقول قائل : ولكن أهل الشام لم تؤثر فيهم تلك الاخبار فيقفوا امام انقلاب معاوية بعد موت الحسن (عليه السلام) ؟ نقول له: وكذلك القبائل لم يؤثر فيها حديث الغدير بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) ولم تقف امام انقلاب قريش على علي (عليه السلام)!

وفي الآتي تفصيل ذلك.

مفردات خلفية صلح النبي (صلى الله عليه وآله) مع قريش

1 . انقلاب قريش بعد عبد المطلب وتحريفهم دين إبراهيم (عليه السلام):

كان عبد المطلب زعيم قريش بلا منازع منزّها لله تعالى متقيدا بدين إبراهيم (عليه السلام) جاءته الزعامة الدينية والسياسية من قصي عن طريق ابويه هاشم وعبد مناف ، ولا يختلف اثنان إن قصيا مؤسس التجمع القرشي حول مكة كان على دين إبراهيم (عليه السلام)وكان ينتظر النبي الموعود ، وإن هاشما قد سنَّ لهذا التجمع رحلة الشتاء والصيف ، وصارت مكة وقريش ذات مكانة دولية مرموقة ، ولايختلف اثنان على أن قصيا كان اعلم قريش بدين إبراهيم (عليه السلام) ثم توارث العلم اوصياؤه من ابنائه عبد منا ف ثم هاشم ثم عبد المطلب ثم ولده ابو طالب، والى جانب

«صفحة 53»

ذلك تميز عبد المطلب بحفر زمزم التي كانت مطمومة منذ الحرب بين خزاعة وجرهم أي لاكثر من ثلاث قرون خلت ، وقد أُخبر بمكانها في المنام ودعا بني عبد مناف وبقية بطون قريش أن تساعده في حفرها فلم تستجب له احد منهم(1) فانفرد بمكرمة حفرها واحيائها لسقي الحجيج ، وكذلك انفرد دون بطون قريش بمهمة الدفاع عن البيت ومواجهة جيش ابرهة هو وولده وولد عمه المطلب ثم نصره الله على جيش ابرهة وكان يقول :

نحن (آل الله) فيما قــد مضى لم يزل ذاك على عهـد ابْرَهـمْ

نعبدُ الله وفينا سُنَّةٌ

صِلَةُ القربى وإيفاء الذِّمم

لم تزل لله فينا حجةٌ

يدفعُ اللهُ بها عنّا النِّقَمْ(2)

وهكذا ادركت بطون قريش كلها أن زعيمها عبد المطلب قد اصطفاه الله عليهم فهو الأولى بالبيت وبزمزم وبابراهيم (عليه السلام) وبدينه ومن ثم هو الأولى بالله أي هو الاقرب إلى الله تعالى وصارت تسميه إبراهيم الثاني ، وصار يلقب هو وولده بـ (آل الله) (3) ، وتعلّمَت منهم

ـــــــــــــــــــــــ

(1) انظر اليعقوبي .

(2) المسعودي، مروج الذهب ومعادن الجوهر: ج2/ 105 – 106، أبو حيان الاندلسي، تفسير البحر المحيط: ج1/542 .

(3) جاء في الاستيعاب ابن عبد البر ج4/1490 في ترجمة نافع بن عبد الحارث بن حبالة بن عمير الخزاعي استعمله عمر بن الخطاب على مكة وفيهم سادة قريش ، فخرج نافع إلى عمر واستخلف مولاه عبد الرحمن بن أبزى ، فقال له عمر : (استخلفت على (آل الله) مولاك فعزله ، وولَّى خالد بن العاص بن هشام بن المغيرة المخزومي). وكان نافع ابن عبد الحارث من كبار الصحابة وفضلائهم . والشاهد في الرواية هو أن عمر يسمي قريش (آل الله) ، والحال أن هذا اللقب لعبد المطلب وذريته التي على منهجه.

«صفحة 54»

شريعة إبراهيم (عليه السلام).

حسد بنو عبد شمس وبنو نوفل اولاد عمهم بني هاشم أن ينفردوا بهذا المجد دونهم ثم انتشر الحسد إلى بطون قريش الاخرى وقد برز هذا الحسد اول ما بزر بشكل منافرة بين أمية وعبد المطلب ثم تطورت اشكاله فيما بعد .

واوصى عبد المطلب إلى أبي طالب اعلم اولاده بدين إبراهيم (عليه السلام).

ثم انقلبت قريش بعد وفاة عبد المطلب على بني هاشم فادعت أن لقب (آل الله) يعم بطون قريش وليس مختصاً ببني عبد المطلب، فقد دافع الله تعالى عن قريش لأنهم سكان بيته! (1) وابتدعت قريش بدعة الحمس في دين إبراهيم (عليه السلام) وادخلت طقوس عبادة الأصنام مع طقوس عبادة الله لتكريس امامتها الدينية وصارت الإمامة الابراهيمية وتعليم احكام الحج في كل بيوتات قريش، وهكذا حوصرت امامة وزعامة أبي طالب في دين إبراهيم (عليه السلام)، وقد اشار ابو طالب في قصيدته اللامية المشهورة إلى افتراء قريش في الدين :

اعوذ برب الناس من كل طاعن

علينا بسوء أو ملّح بباطل

ومن كاشح يسعى لنا بمعيبة

ومن مفتر في الدين ما لم نحاول

وقوله (مفتر في الدين ما لم نحاول) أي مبتدع في دين إبراهيم (عليه السلام) ما لم نوافقهم عليه ، ويشير قوله تعالى في سورة الجمعة ﴿ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي

<

ـــــــــــــــــــــــ

(1) لقد وضع بنو أمية فيما بعد رواية تفيد أن عبد المطلب (عليه السلام) هو الذي اشار على قريش أن يهربوا إلى الجبال في قصة الفيل خوفا عليهم من معرة الجيش (انظر الطبري: ج1/554) .

«صفحة 55»

الأُْمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (2) وَ آخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3)﴾ الجمعة/2-3وقوله ﴿فِي الأُْمِّيِّينَ﴾ أي في أهل مكة ، وقوله ﴿فِي ضَلالٍ مُبِين﴾ أي عبادة الأصنام وبدعة الحمس ، وقوله ﴿وَ آخَرِينَ مِنْهُمْ﴾ أي من أهل مكة ، وقوله ﴿لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ ﴾ أي ما شاركوا قومهم في ضلالهم .

2 . هدف البعثة النبوية لتحرير دين إبراهيم (عليه السلام) من بدع قريش :

وبعث الله نبيه محمداً (صلى الله عليه وآله) سنة (13ق . هـ) مؤيَّدا بالبينات الالهية بدين إبراهيم (عليه السلام) واسس المجتمع الإسلامي على ولاية الله وولاية رسوله والامامة الدينية والسياسية لعلي بن أبي طالب وولديه الحسن والحسين والتسعة من ذريته (عليه السلام) ﴿إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ﴾ المائدة/55 ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَْمْرِ مِنْكُمْ﴾ النساء/59 وهدم الإمامة الدينية لقريش والامامة الدينية لاهل الكتاب ونسخ التوراة وما الحق بها واستبدلها بالقرآن مصدقا بالذي بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه ﴿ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ﴾ المائدة/48 .

3 . حروب قريش مع النبي (صلى الله عليه وآله) واعلامها الكاذب :

حينما نهض النبي (صلى الله عليه وآله) ليبلغ مشروعه الرسالي وقف ابو طالب وبنو هاشم إلى جانبه واستضعفت قريش المشركة بني هاشم ومن امن به

«صفحة 56»

وقاطعتهم حتى يسلموا محمدا (صلى الله عليه وآله) .

واعلن ابو طالب نصرته للنبي (صلى الله عليه وآله) وايمانه بمستقبل رسالته (صلى الله عليه وآله) في قصيدته اللامية المشهورة قائلا :

فأبلغ قصيّاً أنْ سينشر أمرُنا

وبشّر قصيّاً بعدنا بالتخاذل

كذِبتم وبيتِ الله نبزى محمدا

ولما نطاعن دونه ونناضلِ(1)

ونسلمه حتى نصرَّع دونه

ونذهل عن أبنائنا والحلائل

ومنها يُفهم أن ابا طالب كان يعتقد بأن رسالة محمد (صلى الله عليه وآله) قد جاءت لتحرير دين إبراهيم (عليه السلام)من بدع قريش واسلافهم هذا الدين الذي انتهت مواريثه ومهمة الحفاظ عليه إلى أبي طالب ولارجاع الإمامة الابراهيمية المغتصبة إلى اهلها الشرعيين .

ثم قيض الله تعالى أهل المدينة على النصرة وهاجر النبي لى المدينة ، وفرضت قريش المشركة على النبي (صلى الله عليه وآله) حربين ظالمتين ، الأولى في بدر وكان النصر المؤزر فيها له ، الثانية في احد وقد خسر النصر فيها بسبب معصية نفر من اصحابه لامره حين تركوا مواقعهم طمعا في الغنيمة.

طورت قريش في هذين الحربين اعلامها الكاذب الذي بدأت به(2)

ـــــــــــــــــــــــ

(1) نبزى محمدا : اي نسلبه ونغلب عليه (لسان العرب) .

(2) روى الشيخ الطبرسي في اعلام الورى /55، قال : روى علي بن إبراهيم ، قال : خرج أسعد بن زرارة وذكوان إلى مكة في عمرةِ رجب يسألون الحلف على الأوس ، وكان أسعد بن زرارة صديقاً لعتبة بن ربيعة ، فنزل عليه ، فقال له : إنّه كان بيننا وبين قومنا حرب وقد جئناكم نطلب الحلف عليهم ، فقال عتبة : بعُدت دارنا عن داركم ولنا شغل لا نتفرغ لشيء ، قال : وما شغلكم وأنتم في حرمكم وأمنكم ؟ ! قال له عتبة : خرج فينا رجل يدّعي أنه رسول اللّه ، سفّه أحلامنا ، وسبّ آلهتنا ، وأفسد شبابنا ، وفرّق جماعتنا ، فقال له أسعد : من هو منكم ؟ قال : ابن عبد اللّه بن عبد المطلب ، من أوسطنا شرفاً ، وأعظمنا بيتاً ; وكان أسعد وذكوان وجميع الأوس والخزرج يسمعون من اليهود الذين كانوا بينهم أبناء «النضير» و«قريظة» و«قينقاع» إنّ هذا أوان نبي يخرج بمكة يكون مهاجره بالمدينة لنقتلنَّكم به يا معشر العرب ، فلمّا سمع ذلك أسعد وقع في قلبه ما كان سمعه من اليهود ، قال : فأين هو ؟ قال : جالس في الحِجْر ، وإنّهم لا يخرجون من شِعْبهم إلاّ في الموسم ، فلا تسمع منه ولا تُكلّمه ، فإنّه ساحر يسحرك بكلامه ، وكان هذا في وقت محاصرة بني هاشم في الشعب ، فقال له أسعد : فكيف أصنع وأنا معتمر لابدّ لي أن أطوف بالبيت ؟ فقال : ضع في أُذنيك القطن ، فدخل أسعد المسجد وقد حشا أُذنيه من القطن ، فطاف بالبيت ورسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) جالس في الحجر مع قوم من بني هاشم ، فنظر إليه نظرة ، فجازه . فلمّا كان في الشوط الثاني قال في نفسه : ما أجد أجهل منّي ، أيكون مثل هذا الحديث بمكة فلا أعرفه ؟ ! حتى أرجع إلى قومي فأخبرهم ، ثمّ أخذ القطن من أُذنيه ورمى به ، وقال لرسول اللّه : أنعم صباحاً ، فرفع رسول اللّه رأسه إليه وقال : «قد أبدلنا اللّه به ما هو أحسن من هذا ، تحية أهل الجنة : السّلام عليكم» فقال له أسعد : إنّ عهدك بهذا لقريب إلى ماَ تدعو يا محمد ؟ قال : «إلى شهادة أن لا إله إلاّ اللّه وإنّي رسول اللّه ، وأدعوكم : ﴿أَلاّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاق نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتي حَرَّمَ اللّهُ إِلاّ بِالحَقِّ ذلِكُمْ وَصّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاّ بِالّتي هِيَ أَحْسَنُ حَتّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ . فلما سمع أسعد هذا قال : أشهد أن لا إله إلاّ اللّه وحده لا شريك له ، وانّك رسول اللّه، يا رسول اللّه بأبي أنت وأُمّي أنا من أهل يثرب من الخزرج ، وبيننا وبين إخواننا من الأوس حبال مقطوعة ، فإن وصلها اللّه بك فلا أجد أعزّ منك ، ومعي رجل من قومي فإن دخل في هذا الأمر رجوت أن يتمم اللّه لنا أمرنا فيك ، واللّه يا رسول اللّه لقد كنّا نسمع من اليهود خبرك ، وكانوا يبشّروننا بمخرجك ، ويخبروننا بصفتك ، وأرجو أن تكون دارُنا دارَ هجرتك ، وعندنا مقامك ، فقد أعلمنا اليهود ذلك ، فالحمد للّه الذي ساقني إليك ، واللّه ما جئت إلاّ لنطلب الحلف على قومنا ، وقد أتانا اللّه بأفضل ممّا أتيت له .

«صفحة 57»

في مواجهة دعوة النبي (صلى الله عليه وآله) عند حلفائها من القبائل فاتهمته بتهمة انتهاك حرمة البيت الحرام والاعتداء على القوافل التجارية الامنة

«صفحة 58»

لقريش وسفك الدم الحرام في الشهر الحرام(1) . واستطاعت بقيادة أبي سفيان ان تحشد عشرة الاف مقاتل -في الاحزاب- قصدوا المدينة لارعاب اهلها ليتخلوا عن محمد (صلى الله عليه وآله) وصمد أهل المدينة وهزمت الاحزاب شر هزيمة وجعلها الله تعالى للنبي (صلى الله عليه وآله) اية وازدادت ثقة المسلمين به .

4 . قريش تعمل على تحصين القبائل من التاثر بمحمد (صلى الله عليه وآله) بالحرب والاعلام الكاذب :

ليس للنبي ازاء هذا الاعلام القرشي الكاذب الذي شوه مشروعه عند القبائل لصيانتها من التاثر به والانفتاح عليه الا أن يقوم بعمل غير الحرب به يؤدي إلى كسر الطوق عنها وعنه وفضح قريش لديها بأنها هي المعتدية وإن محمدا (صلى الله عليه وآله) يعظم البيت ويطلب السلم وإنه نبي قد بعث لإحياء دين إبراهيم (عليه السلام)وتحرير الحج من بدع قريش .

ولا يوجد الا عمل واحد يحقق له ذلك وهو المبادرة بالعمرة في اشهر الحج هو وأصحابه والهدي معهم حيث تتوافد القبائل نحو مكة للحج ،

وللاشهر الحرم دلالة لدى كل العرب هي المسالمة وامان الطرف الاخر من اعتداء المحرم عليه .

وللاحرام دلالة أخرى في ذلك ، وللهدي الذي يسوقه المحرم دلالة

ـــــــــــــــــــــــ

(1) جاء في الكامل في التاريخ لابن الأثير: ج2/148 – 149 ، أن قريشاً ارسلت أربعة نفر وهم عمرو بن العاص ، وهبيرة بن أبي وهب ، وابن الزبعرى وأبو عزة الجمحي ، فساروا في العرب ليستنفروهم ، فجمعوا جمعاً من ثقيف وكنانة وغيرهم .

«صفحة 59»

أخرى وهي أن هذا المحرم لايحل من احرامه الا عند البيت ، والبيت تحيطه قريش وهذا يعني أن المبادرة تفصح عن نفسها إن محمدا (صلى الله عليه وآله)جاء مسالما يطلب الصلح مع قريش .

وهذه المبادرة تحمل في طياتها فضح قريش عند حلفائها واظهار حقانية محمد (صلى الله عليه وآله) اذا رفضت قريش الصلح معه وصدته عن البيت ، واذا قبلت الصلح معه وسمحت له أن يقضي مناسكه عند البيت فهي مفضوحة أيضا لظهور كذبها فيه أنه لا يعظم البيت .

5 . صلح الحديبية والفتح المؤقت بظهور كذب قريش وحقانية محمد (صلى الله عليه وآله) لدى حلفاء قريش وغيرهم :

روى الطبري عن ابن إسحاق قال: إن قريشا بعثوا إلى النبي (صلى الله عليه وآله) الحُلَيس بن علقمة(1) وكان يومئذ سيد الأحابيش وهو أحد بني الحارث بن عبد مناة بن كنانة فلما رآه رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال إن هذا من قوم يتألهون فابعثوا الهدي في وجهه حتى يراه فلما رأى الهدي يسيل عليه من عرض

ـــــــــــــــــــــــ

(1) الحليس بن علقمة : (بعد 6 ه‍ = بعد 628م) الحليس بن علقمة الحارثي ، من بني الحارث بن عبد مناة بن كنانة : سيد (الأحابيش) ورئيسهم يوم أحد ، وكان مع مشركي قريش . قال الزبيدي : الأحابيش ، بنو المصطلق من خزاعة ، وبنو الهون بن خزيمة ، اجتمعوا عند (جبل حبشي) بأسفل مكة ، وحالفوا قريشا ، فسموا أحابيش ، قريش باسم الجبل . وفي حديث الحديبية : (إن قريشا جمعوا لك الأحابيش) وسماه ابن هشام في السيرة (حليس بن زبان) ثم قال : (الحليس بن علقمة أو ابن زبان) وكان أعرابيا . وهو الذي مر بأبي سفيان بعد وقعة أحد ، فرآه يضرب شدق (حمزة بن عبد المطلب) بزج الرمح ، ويقول : ذق عقق ! أي : يا عاق ! فقال الحليس : يا بني كنانة ، هذا سيد قريش يصنع بابن عمه ما ترون ! فقال أبو سفيان : ويحك اكتمها عني فإنها كانت زلة . (الاعلام للزركلي)

«صفحة 60»

الوادي في قلائده قد أكل أو باره من طول الحبس رجع إلى قريش ولم يصل إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) إعظاما لما رأى ، فقال يا معشر قريش : إني قد رأيت مالا يحل ، صد الهدي في قلائده قد أكل أوباره من طول الحبس عن محله ، … والله ما على هذا حالفناكم ولا على هذا عاقدناكم أن تصدوا عن بيت الله من جاءه معظما له والذي نفس الحليس بيده لتخلن بين محمد وبين ما جاء له أو لأنفرن بالأحابيش نفرة رجل واحد) قال: فقالوا له: مه كف عنا يا حليس حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به). (1)

ثم وافقت قريش على الصلح واشترطت متعسفة أن يرجع محمد (صلى الله عليه وآله) تلك السنة ، ووافق (صلى الله عليه وآله) على شروطها التعسفية ، وعرفت القبائل من حلفاء قريش ومن غيرهم لما اختلطوا مع المسلمين إنها كانت تكذب على محمد (صلى الله عليه وآله) وأنه نبي حق ودعوته حق تدعو كل عاقل إلى تصديقه(2)، وازداد عدد المسلمين إلى اضعاف (الفتح المبين).

ـــــــــــــــــــــــ

(1) الطبري، تاريخ الطبري: ج2/276 .

(2) جاء في أسد الغابة ابن الأثير ج2 ص344 في ترجمة (سليط) بن عمرو بن عبد شمس بن عبد ود بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي بن غالب العامري أخو سهيل والسكران ابني عمرو قاله ابن منده وأبو نعيم ورويا عن ابن إسحاق فيمن هاجر إلى أرض الحبشة من بنى عامر بن لؤي سليط بن عمرو بن عبد شمس ومعه امرأته ولدت له ثم سليطا بن سليط وذكره موسى بن عقبة فيمن شهد بدرا ولم يذكره غيره فيهم وهو الذي أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى هوذة بن علي الحنفي والى ثمامة بن أثال الحنفي وهما رئيسا اليمامة وذلك سنة ست أو سبع من الهجرة . وفي الطبقات الكبرى ابن سعد ج5 ص550 – 551 ثمامة بن أثال بن النعمان بن مسلمة بن عبيد بن ثعلبة بن يربوع بن ثعلبة بن الدول بن حنيفة الحنفي كان مر به رسول لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأراد ثمامة قتله فمنعه عمه من ذلك فأهدر رسول الله صلى الله عليه وسلم دم ثمامة . وفي أنساب الأشراف (البلاذري) ج1 ص376 قال في ذكر سرية محمد بن مسلمة بن خالد بن مجدعة الأوسي ، من الأنصار ، في المحرم سنة ستّ (أقول أي بعد الحديبية بشهرين) إلى القرطاء ، من بنى كلاب ، بناحية ضرّية وبينها وبين المدينة سبع ليال . أتاهم ، فغنم نعما وشاء ، وأخذ ثمامة بن أثال الحنفي . وفي تاريخ المدينة ابن شبة النميري ج2 ص437 ـ 438 : إن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أخذوا ثمامة وهو طليق ، وأخذوه وهو يريد أن يغزو بني قشير ، فجاءوا به أسيرا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو موثق ، فأمر به فسجن ، فحبسه ثلاثة أيام في السجن ثم أخرجه فقال : يا ثمامة إني فاعل بك إحدى ثلاث ، إني قاتلك ، أو تفدي نفسك ، أو نعتقك ، قال إن تقتلني تقتل سيد قومه ، وإن تفادي فلك ما شئت ، وإن تعتق تعتق شاكرا . قال : فإني قد أعتقتك ، قال : فأنا على أي دين شئت ؟ قال : نعم ، قال : فأتيت المرأة التي كنت موثقا عندها فقلت : كيف الاسلام ؟ فأمرت لي بصحفة ماء فاغتسلت ، ثم علمتني ما أقول ، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت : أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله ، وفي أسد الغابة ابن الأثير ج1 ص246 ـ 248 : ثم جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد فقال يا محمد لقد كنت وما وجه أبغض إلي من وجهك ولا دين أبغض إلي من دينك ولا بلد أبغض إلي من بلدك ثم لقد أصبحت وما وجه أحب إلي من وجهك ولا دين أحب إلي من دينك ولا بلد أحب إلي من بلدك وإني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله . وفي تاريخ المدينة قال ثمامة : ثم قدمت مكة فقلت : يا أهل مكة إني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله ، ولا تأتيكم من اليمامة تمرة ولا برة أبدا أو تؤمنوا بالله ورسوله ، فكتب المشركون من مكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسألونه بالله وبالرحم أن لا يحبس الطعام عن مكة حرم الله وأمنه ، فقدمت على النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا ثمامة لا يثأر المسلم بالكافر ، ولكن ارجع إلى قومك فادعهم إلى الاسلام فمن أقر منهم بالاسلام واتبعك فانطلق إلى بني قشير ولا تقاتلهم حتى تدعوهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، فإن بايعوك حرمت عليك دماؤهم ، وإن لم يبايعوك فقاتلهم، فدعا قومه فأسلموا معه ، ثم غزا بني قشير فثأر بابنه .

«صفحة 61»

 

قريش المشركة وحلفاؤها ينقضون عهدهم مع النبي (صلى الله عليه وآله) :

نقضت قريش عهودها مع النبي (صلى الله عليه وآله) بعد سنتين حين نصرت بني

«صفحة 62»

نفاثة ورئيسهم نوفل بن معاوية احد بطون بني بكر من كنانة على خزاعة حليفة النبي (صلى الله عليه وآله) في حرب وقعت بينهما بسبب هجاء كناني للنبي (صلى الله عليه وآله) امام رحل خزاعي وثارت حمية الخزاعي فكسر يد النفاثي الكناني ، ووقع القتل في نساء خزاعة واطفالهم وضعفاء رجالهم حيث بيتوهم وهم امنون في الوتير موضع اسفل مكة وجاء عمرو بن سالم راس خزاعة إلى النبي (صلى الله عليه وآله) يستنصره قائلا :

يا رب إني ناشد محمدا

حلف أبينا وأبيه الأتلدا

قد كنتم ولداً وكنا والدا

ثمت أسلمنا فلم ننزع يدا

إن قريشاً أخلفوك الموعدا

ونقضوا ميثاقك المؤكدا

هم بيّتونا بالوتير هجدا

وقتلونا ركعا وسجدا

تاثر النبي (صلى الله عليه وآله) لذلك جدا ودمعت عيناه ، وبعث ضمرة ليخير قريشا بين ثلاث ان يدوا قتلى خزاعة او يبرأوا من بطن نفاثة الذي قام بالمجزرة او يبنذ إليهم على سواء واختارت قريش الثالثة . (1)

فتح مكة لمشروع النبي (صلى الله عليه وآله) إلى الأبد :

نهض النبي (صلى الله عليه وآله) بجيش قوامه عشرة الاف مسلم ودخل مكة فاتحا وحرر بيت إبراهيم (عليه السلام)من الأصنام ومن بدعة الحمس ليعلن فيها التوحيد والشهادة لمحمد بالرسالة ابد الدهر .

ـــــــــــــــــــــــ

(1) انظر تفصيل القصة في الصحيح من السيرة النبوية للسيد جعفر مرتضى ج21ص21 فما بعد .

«صفحة 63»

هدم بدعة قريش في الحج واعلان امامة أهل بيته (عليهم السلام) وأولهم علي (عليه السلام) في الغدير :

وفي السنة العاشرة اعلن النبي (صلى الله عليه وآله) عن حجة الوداع هدم فيها بدعة قريش بتحريم الجمع بين العمرة والحج في اشهر الحج حيث شرع حج التمتع الذي يتألف من عمرة وحج بينهما حِل ،

ثم اعلن في رجوعه عند مفترق الطرق عند غدير خم وامام مائة الف بل يزيدون ، اوصى بالتمسك بامامة أهل بيته الدينية وقرنهم بالكتاب ، هذه الإمامة التي تنعكس عنها ولايته الحكمية (التنفيذية) لكل المسلمين .

روى الحاكم النيسابوري بسنده عن أبي الطفيل عن زيد بن أرقم قال :

«خرجنا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتى انتهينا إلى غدير خم عند شجيرات خمس ودوحات عظام فكنس الناس ما تحت الشجيرات ثم استراح رسول الله (صلى الله عليه وآله) عشية فصلى ثم قام خطيبا فحمد الله واثنى عليه ثم قال :

أيها الناس إني تارك فيكم أمرين(1) لن تضلوا إن اتبعتموهما وهما كتاب الله وأهل بيتي عترتي، ثم قال: أتعلمون أني أولى الناس بالمؤمنين من أنفسهم ثلاث مرات قالوا نعم، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) من كنت مولاه فعلي مولاه … » . (2)

ـــــــــــــــــــــــ

(1) في رواية مسلم واحمد (ثقلين) .

(2) الحاكم النيسابوري، المستدرك: ج3/ 110 و 533، ابن عساكر، تاريخ دمشق ترجمة علي (عليه السلام): ج2/ 36 الحديث 534، وقد رواه البلاذري أيضا في الحديث رقم 48 من ترجمة علي(عليه السلام) ص110 تحقيق المحمودي وفيه قول النبي (صلى الله عليه وآله) (كأني قد دعيت فأجبت وأن الله مولاي وأنا مولى كل مؤمن وأنا تارك فيكم … ) ورواه ابن كثير في البداية والنهاية ج2 ص206 عن سنن النسائي ورواه أيضا محمد بن جرير الطبري عن أبي الطفيل عن زيد بن أرقم وعن عطية عن أبي سعيد الخدري ورواه أيضا ابن الصباغ المالكي في الفصول المهمة ص23 . كماورواه أيضا في كنز العمال ج13 : 104الحديث رقم (36340) تصحيح الشيخ صفوة السقا .

«صفحة 64»

وفي رواية الطبراني بعد قوله عترتي «وإن اللطيف الخبير نَبَّأَني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض وسألت ذلك لهما ، فلا تَقدَّموهُما فتهلكوا ولا تقصروا عنهما فتهلكوا ، ولا تعلموهم فإنهم اعلم منكم» . (1)

تركيبة المجتمع الإسلامي في السنة العاشرة من الهجرة :

كان المجتمع الإسلامي في السنة العاشرة من الهجرة يحتوي على ثلاث فئات من المسلمين :

الأولى : فئة العلماء الربانيين وهؤلاء شعارهم التسليم المطلق والتقيد الحرفي لأمر الله ورسوله وهم أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله) وعظيمهم علي (عليه السلام) .

الثانية : فئة محبي علي الراسخون في العلم مثل مقداد وعمار وسلمان وابي ذر ونظراؤهم وهؤلاء وطنوا انفسهم على حب أهل البيت (عليهم السلام) واخذ معارف الدين عنهم .

الثالثة : فئة قريش المسلمة ومن اخذ بمنهجهم ويحملون شعار

ـــــــــــــــــــــــ

(1) الطبراني، المعجم الكبير: ج5 /167 الحديث رقم4971، وقال في مجمع الزوائد 9 / 164 فيه حكيم بن جبير وهو ضعيف، قال ابن حجر في التقريب ضعيف رمي بالتشيع .

«صفحة 65»

حسبنا كتاب الله والاجتهاد في قبال السنة . وهم الذين قُدِّرَ لهم أن يحكموّا بعد النبي (صلى الله عليه وآله) مدة اربع وعشرين سنة ، ويفتحوا البلاد ويكونوا مجتمع مسلمة الفتوح على اجتهاداتهم واغلب هؤلاء كانوا في جيش اسامة وخالفوا النبي (صلى الله عليه وآله) في قوله (جهزوا جيش اسامة) ولعنهم حين قال: لعن الله من تخلف عن جيش اسامة) .

خلفية صلح الحسن (عليه السلام) مع معاوية

1 . انقلاب قريش المسلمة :

كان النبي (صلى الله عليه وآله) على قمة هرم المجتمع الإسلامي دينيا وسياسيا وقد ايده الله تعالى ببيناته في حركته التبليغية والتاسيسية وهذه حقيقة لا يختلف عليها اثنان .

لقد أعلن النبي (صلى الله عليه وآله) منذ بداية المشروع (10ق . هـ) لبني هاشم وبني المطلب فيما عرف بحديث الدار: أن وزيره ووصيه وخليفته فيه هو علي (عليه السلام)، ثم اعلن للمسلمين جميعا (10هـ) الإمامة الدينية والسياسية فيما عرف بحديث الغدير في غدير خم – مفرق طرق الحاج من مكة إلى المدينة – امام مائة الف او يزيدون وهم معظم المسلمين الذين استنفرهم للحج معه، وقد امتلأت الفترة الزمنية بين حديث الدار وحديث الغدير وهي مدة عشرين سنة باحاديث في هذه المناسبة او تلك تؤكد ذلك بشكل واخر.

وقد اقترن ذلك بتربي علي (عليه السلام)في حجر النبي (صلى الله عليه وآله) منذ ولادته في بيت أبيه يوم كان النبي (صلى الله عليه وآله) يعيش هناك بكفالة عمه، ثم اصطحبه معه في

«صفحة 66»

بيته بعمر ست سنوات لما تزوج واستقل عن عمه، ثم اصطحبه في هذا العمر إلى غار حراء يرفع له في كل يوم من اخلاقه علما ، وعندما كلف الله نبيه (صلى الله عليه وآله) بالرسالة كان علي إلى جنبه وقد سمع رنة الشيطان وسأل النبي (صلى الله عليه وآله) عنها فاجابه أنه الشيطان قد يئس من عبادته واخبره أنه منه بمنزلة هارون من موسى الا أنه لا نبي بعده.

كان علي (عليه السلام) في مكة يكتب عن النبي (صلى الله عليه وآله) القرآن وبهامشه تفسيره وفي المدينة كان بيته مع امه فاطمة بنت اسد بجوار بيت النبي (صلى الله عليه وآله) مع ابنته فاطمة (عليها السلام)، وله مع النبي (صلى الله عليه وآله) لقاءان يوميا احدهما بعد صلاة الفجر والاخر بعد المغرب يواصل فيه املاءه في تفسير القرآن ويضيف إليه املاءه في الاحكام والسيرة والملاحم وقد عرف المسلمون جميعا خبر هذه اللقاءت يوم عقد النبي (صلى الله عليه وآله) بعضها مع علي (عليه السلام) في ايام حصار الطائف وعرفت يومذاك بالمناجاة قال جابر : انتجى رسول الله (صلى الله عليه وآله) علياً يوم الطائف فطالت مناجاتُه إيّاه، فقيل له : لقد طالت مناجاتك اليوم عليّاً ؟ فقال :(ما أنا ناجيتُه ولكنّ الله انتجاه)(1) أي: امرني الله تعالى أن انتجيه وليس هو عمل من تلقاء نفسي، والمعنى امرني الله تعالى أن انفرد بعلي (عليه السلام) واسر إليه بالحديث امامكم .

وقد كتب علي (عليه السلام)في هذه اللقاءات الصحيفة الجامعة طولها سبعون ذراعا فيها كل شيء مما يحتاج إليه من الاحكام وصحفا أخرى كتب

ـــــــــــــــــــــــ

(1) ابن الأثير، جامع الأصول: ج9 /474، الخطيب التبريزي، مشكاة المصابيح: ص564، وابن كثير، البداية والنهاية: ج7 /356، والنجوى في الحديث : الاسرار به لفرد او لجماعة .

«صفحة 67»

فيها الملاحم و التفسير ثم صارت ميراثا له وللائمة من ولده (عليه السلام).

وهذا اللصوق لعلي (عليه السلام)بالنبي (صلى الله عليه وآله) جعل سيرته مدمجة مع سيرة النبي (صلى الله عليه وآله) فلا يذكر النبي (صلى الله عليه وآله) الا والى جانبه علي (عليه السلام)كما هو حال سيرة موسى (عليه السلام)فلا يذكر موسى(عليه السلام)الا والى جانبه هارون(عليه السلام)وقد تواتر الحديث عن النبي (صلى الله عليه وآله) إنه قال لعلي(عليه السلام)(عليهم السلام) (انت مني بمنزلة هارون من موسى الا أنه لا نبي بعدي).

وانقلبت قريش المسلمة بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) على علي (عليه السلام) وكادوا يقتلونه ، نظير انقلاب امة موسى (عليه السلام)على هارون (عليه السلام)بعد طول غيبة موسى (عليه السلام)وكادوا يقتلونه . وادعت قريش المسلمة الإمامة الدينية واقصت عليا (عليه السلام) عن موقعه الذي عينه النبي (صلى الله عليه وآله) فيه بأمر الله ، وابتدعت في دين محمد (صلى الله عليه وآله) فحرمت متعة الحج واخرت مقام إبراهيم (عليه السلام)عن البيت إلى المكان الذي كان عليه في الجاهلية لتكرس امامتها الدينية وفسحت المجال لكعب الاحبار عالم يهود اليمن وتميم الداري راهب النصارى في الحجاز أن ينشرا اساطيرهم حول الخلق والانبياء وغاب تنزيه التوحيد وتنزيه الأنبياء الذي جاء به محمد (صلى الله عليه وآله) وفتحت البلدان على ذلك وانتهى الامر إلى قيام حكم بني أمية زمن عثمان على تكريس تلك السيرة فصاروا ائمة الدين وولاته .

حالة المسلمين الفكرية والدينية والسياسية زمن خلافة عثمان سنة 26هجرية :

اماالحالةالسياسية فتعرف من شخصية رئيس الدولة وولاته على الأمصار:

«صفحة 68»

كان رئيس الدولة عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس .

وكان سكرتيره الخاص مروان بن الحكم بن العاص بن أمية بن عبد شمس(ابن عم عثمان) .

وكان والي الشام الكبرى معاوية بن أبي سفيان بن حرب بن أمية بن عبد شمس . (ابن عم عثمان)

وكان والي الكوفة الوليد بن عقبة بن أبي معيط بن بن عمرو بن أمية بن عبد شمس ، ثم خالد بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس والد عمرو بن سعيد الاشدق . (اولاد عمه) .

وكان والى البصرة عامر بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس وهو ابن خال عثمان وحبيب بن عبد شمس هو اخو أمية بن عبد شمس . (فهو ابن عمه)

وكان والي مصر عبد الله بن أبي سرح اخو عثمان من الرضاعة وهو من بني عامر احدى بطون قريش .

وفي ضوء ذلك فإن دولة عثمان هي الدولة الاموية الأولى . وقد تذمرت منها بطون قريش حيث حرمت من امتيازات السلطة التي كانت لهم ايام أبي بكر وعمر ، واخذوا يحثون الناس على العمل للاطاحة بالخليفة عثمان .

اما الحالة الفكرية والدينية : فهي ما تبنته الدولة من اعتبار سيرة الشيخين جزءا اساسيا من قانون الدولة وتتمثل هذه السيرة بامور هي :

«صفحة 69»

المنع من نشر احاديث النبي (صلى الله عليه وآله) في حق أهل بيته وأولهم علي (عليه السلام)، كحديث الثقلين وحديث الغدير وحديث المنزلة وغيرها .

تحريم متعة حج التمتع وقد جعلها الاسلام رخصة للحاج وعقوبة المخالف .

تحريم متعة النساء (وقد جعلها الاسلام علاجا للزنا).

اسناد الوعظ وبيان قصص الأنبياء إلى كعب الاحبار ومصدره فيها التوراة المحرفة التي طرحت في المجتمع بصفتها كتاب الله الأول ، الامر الذي افقد عقيدة التوحيد وسيرة الأنبياء التنزيه الذي جاء به القرآن فيها .

ايجاد الطبقية في المجتمع ، على مستوى العطاء الذي توزعه الدولة في قبال التسوية التي سنها النبي (صلى الله عليه وآله) بتفضيل ازواج النبي (صلى الله عليه وآله) على المسلمين ثم أهل بدر على غيرهم ثم أهل الحديبية على غيرهم ، وفي الفروج في قبال كفاءة المؤمن للمؤمنة بمنع غير العربي من التزوج بالعربية.

ارجاع مقام إبراهيم (عليه السلام) إلى مكانه في الجاهلية .

ارجاع لقب (ال الله) الذي انتحلته قريش في الجاهلية اليها ومعاقبة صحابي فاضل لأنه عين مولاه عليها في غيابه . (1)

ـــــــــــــــــــــــ

(1) جاء في تهذيب الكمال المزي ج29 ص279- 280 ، وفي أسد الغابة ابن الأثير ج5 ص7- 8 ، عن الاستيعاب : 4 / 1490في ترجمة نافع بن عبد الحارث الخزاعي ، قال أبو عمر بن عبد البر استعمله عمر بن الخطاب على مكة وفيهم سادة قريش ، فخرج نافع إلى عمر ، واستخلف مولاه عبد الرحمان بن أبزى فقال له عمر : (استخلفت على آل الله مولاك ؟ فعزله ، وولى خالد بن العاص بن هشام بن المغيرة المخزومي) . وكان نافع بن عبد الحارث من كبار الصحابة وفضلائهم، والشاهد هو أن عمر بعد أن شاهد كيف هدم النبي (صلى الله عليه وآله) مكانة قريش الدينية وبدعها في الحج نجده يسمي قريشا ال الله ويرجع بعض بدعها تكريسا لامامتها الدينية .

«صفحة 70»

إن المسلمين في الحجاز واليمن والجزيرة العربية من عمر15سنة إلى عمر 30 سنة ومن غيرهم ممن دخل الاسلام من أهل العراق والبلاد الشرقية وأهل الشام وافريقيا والبلاد الغربية لا يعرفون خلفاء للنبي (صلى الله عليه وآله) وامامة دينية تقودهم إلى الله تعالى الا الخلفاء من قريش وقد انتهت إلى بني أمية ولا يعرفون من الاسلام الا سيرة الشيخين التي رفعها الحاكمون شعارا إلى جانب كتاب الله وصار دين الله الذي بعث به محمدا (صلى الله عليه وآله) هو كتاب الله وسيرةالشيخين ، بل سيرة الخليفة من قريش .

اما علي (عليه السلام) وموقعه من النبي (صلى الله عليه وآله) وولايته التي امر بها الله تعالى وولاية أهل بيته (عليهم السلام) الذين قال عنهم النبي (صلى الله عليه وآله) (إني تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي ابدا كتاب الله وعترتي أهل بيتي) ، فإنهم جاهلون بها الا اذا سمعها احدهم من أبي ذر او او سلمان او حذيفة سرا .

وهكذا فإن بني أمية قد كرسوا جهل مسلمة الفتوح بسنة النبي (صلى الله عليه وآله) وامامة أهل بيته (عليهم السلام)وفتحت اعينهم على امامة العمل بالرأي الممزوج برواسب الجاهلية وثقافة أهل الكتاب المحرفة قدمت اليهم باسم الاسلام وخلافة الرسول .

«صفحة 71»

2 . هدف نهضة علي (عليه السلام) اعادة التنزيه إلى التوحيد وسيرة الأنبياء وتحرير دين محمد (صلى الله عليه وآله) من بدع قريش المسلمة :

حذَّر النبي (صلى الله عليه وآله) امَّته من الفتن المقبلة عليهم بعد موته (اقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع اولها آخرها) واخبرهم أنه ادخر (صلى الله عليه وآله) أهل بيته وعليٌّ (عليه السلام) اولهم لانقاذهم منها وارجاعهم إلى المحجة التي تركهم عليها (ياعلي انت الهادي بك يهتدي المؤمنون بعدي)(1) (علي مع الحق والحق مع علي يدور معه حيثما دار) (2) فما هو مشروع علي (عليه السلام) لإحياء سنة النبي (صلى الله عليه وآله) وانقاذ الأمة من ضلالة بني أمية ايام عثمان ؟

ـــــــــــــــــــــــ

(1) قال ابن القيم في زاد المسير 4/228 وقد روى المفسرون من طرق ليس فيها ما يثبت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : لما نزلت هذه الآية ، وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على صدره ، فقال : (أنا المنذر) ، وأومأ بيده إلى منكب علي ، فقال : (أنت الهادي يا علي بك يهتدى من بعدي) . قال المصنف: وهذا من موضوعات الرافضة . أقول قال ابن حجر في فتح الباري 8/285 أخرج الطبري 13/ 142 بإسناد حسن من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال لما نرلت هذه الآية وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على صدره وقال (أنا المنذر) وأومأ إلى علي وقال (أنت الهادي بك يهتدي المهتدون بعدي).

(2) احقاق الحق ج5 ص633 إثبات الهداة ج2 ص112 209 ، تاريخ بغداد ج14 ص321 ، اخرجه عن ام سلمة ، وأخرجه الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد ج7 ص236 وقال : رواه البزار وفيه سعد بن شعيب ولم أعرفه وبقية رجاله رجال الصحيح . قال العلامة الأميني) رحمه الله في الغدير 3/177 الرجل الذي لم يعرفه الهيثمي هو سعيد بن شعيب الحضرمي قد خفي عليه لمكان التصحيف ، ترجمه غير واحد بما قال شمس الدين إبراهيم الجوزجاني : إنه كان شيخا صالحا صدوقا كما في خلاصة الكمال 318 ، وتهذيب التهذيب 4 ص48 . أقول: وأخرج الحاكم في مستدركه ج3/ 124 عن أُمّ سلمة عن النبي (صلى الله عليه وآله) بلفظ : «عليّ مع القرآن والقرآن مع عليّ لن يتفرقا حتى يردا عليَّ الحوض» . قال الحاكم : هذا حديث صحيح ولم يخرجاه . وأورده الذهبي في تلخيصه مصرّحاً بصحته .

«صفحة 72»

كان علي (عليه السلام) يترقب الفرصة السانحة لنهضته ولم تكن هناك فرصة افضل من فرصة انشقاق بطون من قريش على الحكم الأموي الأول عثمان وولاته من بني أمية، إذ رأت هذه البطون أنها حرمت من امتيازات السلطة وصارت حكرا على بني أمية فاخذت تبدي تذمرها من عثمان وتحرِّش عليه أهل الأمصار مستغلة اخطاء(1) ولاته من شباب بني أمية وتاريخهم السيء مع النبي (صلى الله عليه وآله) ، واستحكم انشقاق قريش على عثمان سنة 27 هـ حين كان آخر من سجلتهم المصادر التاريخية من المتمذمرين والمنشقين على عثمان هو عبد الرحمن بن عوف وكان اول من شد الملك لعثمان في الشورى السداسية .

قرر علي (عليه السلام) في موسم حج سنة 27 هـ أن يعلن عن احيائه لحج التمتع بصفته افضل مدخل لتعريف مسلمة الفتوح وصغار الصحابة الذين لم يسمعوا من النبي (صلى الله عليه وآله) بمخالفة الحكم الأموي لسنة النبي (صلى الله عليه وآله) ثم يتحرك اصحابه في موسم الحج لنشر حديث النبي (صلى الله عليه وآله) في أهل بيته (عليهم السلام) كحديث الثقلين وحديث الغدير وغيرهما .

وهكذا كان الامر وانطلق ابو ذر والمقداد واخرون من اصحاب النبي (صلى الله عليه وآله) يُؤزرون عليا (عليه السلام) في نهضته يحدِّثون باحاديث النبي (صلى الله عليه وآله) فيه وفي أهل بيته (عليهم السلام) ، واضطهدتهم السلطة نفيا وسجنا .

وفوجئ المتذمرون من قريش بنهضة علي (عليه السلام) ، ولكنهم آثروا

ـــــــــــــــــــــــ

(1) ابن عساكر، تاريخ دمشق: ج39/ 426، قال عمرو بن العاص لما قتل عثمان وكان في فلسطين: (قد علمت العرب أني إذا حككت قرحة أدميتها). أيضا الطبري، تاريخ الطبري: ج3/292 ، والبلاذري، انساب الاشراف: ج2/283 و ج5/565.

«صفحة 73»

السكوت لأنهم مشغولون بالتحريش ضد عثمان.

ثم استطاع الثائرون من قريش أن يقتلوا عثمان بعد حصاره ، ولكن الجماهير المسلمة بدلا من أن تبايع احد ابرز قادة الثورة على عثمان وهما طلحة او الزبير هرعت إلى بيت علي (عليه السلام) تطلب منه أن تبايعه ، ورفض علي (عليه السلام) في بادئ الامر ثم استجاب لهم في المسجد وبويع في اروع مشهد يصفه : قال عليه السلام :

(وبسطتم يدي فكففتُها ، ومددتموها فقبضتُها ، ثم تداككتم علي تداكَّ الإبل الهِيم على حياضها يوم وِردِها ، حتى انقطعت النعلُ ، وسقط الرداء ، ووُطِئَ الضعيف … ) .

ثم قال في كلام آخر : (وبلغ من سرور الناس ببيعتهم إيايَ أن ابتهجَ بها الصغيرُ ، وهدَج إليها الكبير ، وتحاملَ نحوها العليل ، وحسرت إليها الكعاب) (1). إنه سرور كسرور دخول النبي (صلى الله عليه وآله) إلى المدينة .

وانطلق علي (عليه السلام) يواصل مشروعه الإحيائي لسنة النبي (صلى الله عليه وآله) وقد آزره ثلة من الأنصار والمهاجرين من اصحاب النبي (صلى الله عليه وآله) والتابعين عبر الاجراءات التالية:

1 . الغى الطبقية في العطاء ، والتفضيل في المناكحات وارجعهما إلى

ـــــــــــــــــــــــ

(1) التداك الازدحام الشديد . والإبل الهِيم : العطاش . وهدج إليها الكبير : مشى مشياً ضعيفاً مرتعشا ، والمضارع يهدج بالكسر ، وتحامل نحوها العليل تكلف المشى على مشقة . وحسرت إليها الكعاب : كشفت عن وجهها حرصاً على حضور البيعة ، والكعاب : الجارية التى قد نهد ثديها ، (شرح نهج البلاغة ابن أبي الحديد ج13 ص3) .

«صفحة 74»

ما كان على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) .

2 . الغى سيرة الشيخين كقانون تحكم به الدولة وحوَّلها إلى مذهب بعد بيان بطلانه وترك الخيار للمجتمع أن يعمل بها مع وضوح بطلانها او يتركها .

3 . منع من تداول القصص الإسرائيليات التي تشوه سيرة الانبياء(عليهم السلام)وتسيء إلى تنزيههم(1) وتنزيه التوحيد .

4 . رفد المجتمع بخطب احيت تنزيه الله تعالى وانبيائه كما احيا مواعظ الله ورسوله (صلى الله عليه وآله)في قبال كعب الاحبار واحاديثه في التجسيم وتشويه سيرة الأنبياء وخرافية مواعظه .

5 . شجع المسلمين على نشر حديث النبي (صلى الله عليه وآله) .

6 . شجع الناس على السؤال عن تفسير القرآن .

7 . شجع المسلمين على تدوين العلم .

وفي ضوء ذلك :

صار المسلمون في النصف الشرقي من البلاد الاسلامية ومركزهم الكوفة سواء من مسلمة الفتوح او من غيرهم على فئتين في الفكر

ـــــــــــــــــــــــ

(1) جاء في مجمع البيان: ج4 /472 ، وتفسير الصافي: ج4/ 296 ، وتفسير نور الثقلين: 4/ 446، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: (لا أُوتي برجل يزعم أن داود تزوج امرأة أُوريا إلاّ جلدته حدّين : حدّاً للنبوة وحدّاً للاسلام) وفي تفسير التبيان: ج8/ 555 عن أمير المؤمنين (عليه السلام)أنه قال : (لا أُوتي برجل يقول إن داود ارتكب فاحشة إلاّ ضربته حدّين؛ أحدهما للقذف، والآخر لأجل النبوة) وفي تفسير الرازي: ج26/ 192 عن سعيد بن المسيب أن علي بن أبي طالب (عليه السلام)قال: (من حدثكم بحديث داود على ما يرويه القصاص، جلدته مائة وستين، وهو حدّ الفرية على الأنبياء).

«صفحة 75»

والتعبد :

فئة تتعبد بسيرة الشيخين في صلاتها وحجها وصلاة التراويح على الرغم من معرفتها أن صلاة التراويح وغيرها كانت رأيا واجتهادا للخليفة القريشي وليست سنة من النبي (صلى الله عليه وآله) .

فئة تتعبد بسنة النبي (صلى الله عليه وآله) في صلاتها وحجها يقودهم قدوتهم وقيادتهم علي (عليه السلام) وأهل بيته وهم أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله) .

وقوف قريش بقيادة معاوية امام نهضة علي (عليه السلام) :

راى معاوية في مشروع علي (عليه السلام) لو استمر انهاء لدولة بني أمية بل استئصال لمشروعيتها وتأسيس دولة بني هاشم وال محمد (صلى الله عليه وآله) وتعميق لمشروعيتها.

ومن هنا خطط للوقوف امام مشروع علي (عليه السلام) وَوأدِه وإعادة دولة بني أمية الأولى التي مهَّد لها واسس مضمونها الفكري الخليفتان ابو بكر وعمر . وليس له الا أن يدوس على جراحه فيغض الطرف عن قَتَلَة عثمان من قريش ويجمع بطونها على موقف موحد لمواجهة علي (عليه السلام) على ثلاث مراحل :

الأولى : اقناع طلحة والزبير على نكث البيعة والذهاب إلى البصرة ثم إلى الكوفة واقتطاعهما عن علي (عليه السلام) وبذلك يضمن قطع الموارد العسكرية والمالية العراقية عن علي (عليه السلام) .

الثانية : قطع الطريق على علي (عليه السلام) أن يعين واليا جديدا على الشام من خلال اعلان شعار الطلب بدم عثمان قبل بيعة علي (عليه السلام) وبذلك تقطع الموارد العسكرية والمالية الشامية عن علي (عليه السلام)

«صفحة 76»

الثالثة : الحركة من العراق والشام إلى المدينة لقتال علي (عليه السلام) فيها ولن يصمد جيش المدينة طويلا امام أهل العراق والشام ، وليس لعلي (عليه السلام) انذاك الا القتل او الاستسلام ، ولا يترقب منه أن يستسلم فيقتل ولن يقتل حتى يقتل ولده وأهل بيته وكل بني هاشم وهو المطلوب .

اقتنعت وجوه قريش المسلمة بالخطة واقدم طلحة والزبير وعائشة على تنفيذ المرحلة الأولى واستلما البصرة بعد أن غدرا بعثمان بن حنيف والي علي (عليه السلام) عليها .

موقف علي (عليه السلام) من خطة قريش :

ادرك علي (عليه السلام) خطة قريش واعلن عنها في كلامه لاخيه عقيل إذ قال له: (دع عنك قريشاً وتَرْكاضَهم في الضلال ، وتَجوالهم في الشقاق ، وجِماحَهم في التِّيْه ؛ فإنّهم قد أجمعوا على حربي كإجماعهم على حرب رسول الله (صلى الله عليه وآله) قبلي) . (1)

وكان موقفه من خطة قريش هو الخروج من المدينة ودعوة أهل الكوفة إلى نصرته واسترداد البصرة من قريش ثم اتخاذ الكوفة مركزا لمواجهة معاوية في الشام وهكذا كان الامر واستجابت الكوفة لعلي (عليه السلام) وارتبطت مصيريا بنصرة أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله) كما ارتبط أهل الشام مصيريا بنصرة بني أمية.

خرج اكثر من عشرة الاف من أهل الكوفة مع علي واسترد البصرة من عائشة وطلحة والزبير بساعات في اول معركة بين المسلمين انفسهم

ـــــــــــــــــــــــ

(1) نهج البلاغة : الكتاب36 .

«صفحة 77»

طرف تقوده قريش المسلمة وطرف يقوده علي (عليه السلام) وكان نصرا مؤزرا كما كانت بدر نصرا مؤزرا للنبي (صلى الله عليه وآله) .

ورجع علي (عليه السلام) إلى الكوفة واتخذها مقرا لمشروعه ودولته ، وانطلق منها إلى الشام ليستردها من معاوية وكادت المعركة في صفين وهي اعظم معركة في تاريخ الاسلام أن تحسم الامور لصالح علي (عليه السلام) لولا اعلان نصف جيش علي (عليه السلام)تجاوبهم مع الشعار الذي اعلنه معاوية بالاحتكام إلى القرآن وكان هذا النصف لم يستجب لمشروع علي (عليه السلام)ولم يقاتل معه على اساس العقيدة بامامته المنصوصة ولا البصيرة بمعاوية ومكره ودهائه .

بخلاف النصف الاخر الذي كان يقوده مالك الاشتر ونظراؤه ممن كانوا على بصيرة بخطة معاوية وايمان بعلي(عليه السلام)وصيا للنبي(صلى الله عليه وآله)، فقد كان مالك يخطب في اصحابه ويقول: (إن هؤلاء القوم والله لن يقارعوكم إلا عن دينكم ، ليطفئوا السنة ، ويحيوا البدعة ، ويدخلوكم في أمر قد أخرجكم الله منه بحسن البصيرة) . (1)

ـــــــــــــــــــــــ

(1) ابن مزاحم المنقري، وقعة صفين: ص251 ، وقوله رضوان الله عليه (ويدخلوكم في أمر قد أخرجكم الله منه بحسن البصيرة) هذا الامر هو اعتقادهم امامة علي (عليه السلام)بالنص، فهو يحتاج إلى حسن بصيرة من الانسان ليفارق العقيدة بامامة قريش ويعتقد بامامة علي (عليه السلام) . و من ليس له حسن بصيرة يكون مصداقا لقوله تعالى ﴿وَ كَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالأَْرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ﴾يوسف/105 ، واحاديث النبي (صلى الله عليه وآله) في علي 7 بمناسبة الغدير وغيره ايات الهية لأنه (صلى الله عليه وآله)﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ﴾.

«صفحة 78»

واسترد معاوية بشعار (الاحتكام إلى القرآن) (1) أنفاسه وحافظ على وجوده ورجع إلى الشام وقد قوي أمله بتأسيس الدولة الأموية الثانية امتدادا للدولة الأموية الأولى وأطروحتها الفكرية واستطاع أن ينطلق من أمرين:

الأول: جهل أهل الشام بموقع علي (عليه السلام) من النبي (صلى الله عليه وآله) وتاريخ معاوية وأبيه في بدر واحد والخندق ضد النبي (صلى الله عليه وآله) .

الثاني : ثقتهم العالية بمعاوية بصفته وليا عليهم وممثلا للخلافة القرشية مدة ثلاثين سنة.

ومن ثم أسس معاوية إعلاما كاذبا في حق علي (عليه السلام) اعطى خطوطه العامة للقصاصين الذين اصطحبهم معه يقصون بعد كل صلاة ، وتمثل هذا الإعلام الكاذب بإلقاء التبعة في قتل عثمان على علي (عليه السلام) أصحابه وهو الذي اعلنه قادة قريش في الجمل ، وإن عليا (عليه السلام) يقاتل من اجل الملك الذي كان يطمع به بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) ولم يوّله المسلمون اياه، وانتهاءً بوصفه ملحدا في الدين وكونه نهض لتغيير سنن الخليفة عمر في الصلاة والحج وفي ضوء ذلك فإنه تجب البراءة منه والعمل على قتله وارجاع الامور إلى ما كانت عليه زمن الخليفة عمر وبين ايديهم قيادة وثق بها عمر وخليفته عثمان ثلاثين سنة .

ـــــــــــــــــــــــ

(1) لم يكن ليؤثر هذا الشعار في جيش علي 7 واغلبهم من مسلمة الفتوح لولا التربية التي نشأوا عليها زمن الخلافة مدة ربع قرن تقريبا وقد حمل الخوارج فيما بعد هذا الشعار (لا حكم الا لله).

«صفحة 79»

3 . حروب قريش مع علي (عليه السلام) وإعلامها الكاذب:

وكما أن قريشا المشركة بقيادة أبي سفيان فرضت على النبي (صلى الله عليه وآله) حربين ظالمتين هما بدر وأحد كذلك فرضت قريش المسلمة بتخطيط بني أمية حربين ظالمتين على علي (عليه السلام) :

كانت الحرب الأولى ضد علي (عليه السلام) في البصرة بقيادة طلحة والزبير وعائشة وكان النصر المؤزر فيها لعلي (عليه السلام) وكان حجر بن عدي الكندي يقول في هذه الحرب :

يا ربنا سلم لنا علياً

سلم لنا المهذب التقيا

المؤمن المسترشد الرضيا

واجعله هادي أمة مهدياً

احفظه ربيّ حفظك النبيا

لا خطل الرأي ولا غبياً

فإنه كان لنا ولياً

ثم ارتضاه بعده وصياً(1)

وكانت الحرب الثانية ضد علي (عليه السلام) في الشام بقيادة معاوية بن أبي سفيان وقد خسر علي (عليه السلام) فيها النصر بسبب مخالفة قسم من جيشه لامره في استمرار القتال حين رفع معاوية المصاحف وطلب توقيف القتال. (2)

ـــــــــــــــــــــــ

(1) شرح نهج البلاغة ج4 ص228 ط دار مكتبة الحياة سنة 1964 .

(2) اعتدى أهل الجمل على والى علي 7 على البصرة عثمان بن حنيف وغدروا به واحتلوا البصرة ، فلم يكن امام علي 7 الا أن يدعوهم إلى التراجع والتحاكم إلى القرآن فلم يتراجعوا فقاتلوهم واسترد البصرة منهم، وهكذا في صفين فإن معاوية تمرد على علي 7 واقتطع الشام منه ولم يسلمها لمن ولاه علي 7عليها ، فما كان امامه الا مقاتلته .

«صفحة 80»

4 . معاوية يحصن أهل الشام من التاثر بعلي (عليه السلام) بالحرب والاعلام الكاذب:

أفرزت الحربان إعلاما أمويا طوَّق عليا (عليه السلام) بتهمة طلب الملك من وراء تلك الحربين وإنه اوى قتلة عثمان واستعان بهم وافسد في الدين ولا يصلي وغير ذلك من التهم التي كان قصاصوه يقصونها على الناس بعد الصلاة . واستطاع بذلك أن يحصن أهل الشام من التاثر بمشروع علي (عليه السلام) .

كما استطاع معاوية بن أبي سفيان أن يحول جيش الشام إلى سرايا تغير على أطراف علي (عليه السلام)لتنهب وتقتل شيعة علي (عليه السلام)ليتخلوا عنه كما استطاع أن يقتطع مصر عن علي (عليه السلام) وصمد أهل العراق مع علي (عليه السلام)، واقترن ذلك بحركة الخوارج من داخل الكوفة ولايبعد أن تحركهم كان بدفع منه، من خلال بعض رؤوس النفاق كالاشعث بن قيس وغيره.

كيانان فكريان وسياسيان في الأمة الاسلامية سنة 39هجرية :

انقسمت الأمة الاسلامية سنة 39 هجرية إلى كيانين فكريين وسياسيين :

الأول : يمثل مشروع النبوة إلا أن شخص محمد (صلى الله عليه وآله) غير موجود إنما بديله شخص آخر هو كنفسه إنه علي (عليه السلام) وصيه وخليفته في أمته.

ومركز هذا المشروع العراق – الكوفة – ويدين بهذا المشروع اغلب سكان النصف الشرقي من مسلمة الفتوح والانصار مع خمسة افراد

«صفحة 81»

من قريش فقط(1)، شعاره العمل بكتاب الله وسنة النبي (صلى الله عليه وآله) ودعوة النصف الغربي للعودة اليها، يقود هذا المشروع أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله) اولهم وعظيمهم علي (عليه السلام) ومعه ولداه الحسن والحسين (عليهما السلام).

الثاني : يمثل مشروع قريش المسلمة التي حكمت اربعا وعشرين

 

ـــــــــــــــــــــــ

(1) روى الكشي عن عبد الله بن سنان قال : سمعت أبا عبد الله يقول :(كان مع أمير المؤمنين 7خمسة نفر من قريش ، وكانت ثلاثة عشر قبيلة مع معاوية) فأما الخمسة فمحمد بن أبي بكر (رض) أتته النجابة من قبل أمه أسماء بنت عميس ، وكان معه هاشم بن عتبة بن أبي وقاص المرقال، وكان معه جعدة بن هبيرة المخزومي ، وكان أمير المؤمنين 7 خاله وهو الذي قال له عتبة بن أبي سفيان إنما لك هذه الشدة في الحرب من قبل خالك فقال له جعدة لو كان خالك مثل خالي لنسيت أباك ، ومحمد بن أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة ، والخامس سلف أمير المؤمنين 7 ابن أبي العاص بن ربيعة ، وهو صهر النبي (صلى الله عليه وآله) أبو الربيع) (اختيار معرفة الرجال الكشي ص60 ط النجف) . أقول: جاء في كتاب وقعة صفين لنصر بن مزاحم / 469 : عن أبي جحيفة قال عتبة لجعدة : يا جعدة ، إنه والله ما أخرجك علينا إلا حب خالك وعمك ابن أبي سلمة عامل البحرين ، وإنا والله ما نزعم أن معاوية أحق بالخلافة من على لولا أمره في عثمان ، ولكن معاوية أحق بالشام لرضا أهلها به فاعفوا لنا عنها ، فوالله ما بالشام رجل به طرق إلا وهو أجدّ من معاوية في القتال ، ولا بالعراق من له مثل جد على [ ي الحرب] . وما أقبح بعلي أن يكون في قلوب المسلمين أولى الناس بالناس ، حتى إذا أصاب سلطانا أفنى العرب.

فقال جعدة : أما حبي لخالي فوالله أن لو كان لك خال مثله لنسيت أباك.

وأما فضل علي على معاوية فهذا ما لا يختلف فيه [ اثنان ].

وأما رضاكم اليوم بالشام فقد رضيتم بها أمس [ فلم نقبل ].

وأما قولك إنه ليس بالشام من رجل إلا وهو أجدُّ من معاوية ، وليس بالعراق لرجل مثل جِدِّ عليّ ، فهكذا ينبغي أن يكون ، مضى بعلي يقينُه ، وقصر بمعاوية شكُّه ، وقصد أهل الحق خير من جهد أهل الباطل. .

وأما قتل العرب فإن الله كتب [ القتل و] القتال ، فمن قتله الحق فإلى الله (وفي فتوح ابن اعثم 3/108 فمن قتله الحق فإلى الله والجنة ، ومن قتله الباطل فإلى النار).

فغضب عتبة وفحش على جعدة ، فلم يجبه وأعرض عنه وانصرفا جميعا مغضبين.

«صفحة 82»

سنة وانتجت مضمونا فكريا وتشريعيا خليطا من الاسلام ورواسب الجاهلية والاسرائيليات في قصص الخلق والانبياء (عليهم السلام)، شكّلا مضمون مدرسة قريش المسلمة الحاكمة.

راس المشروع ووريثه هو معاوية ومركزه الشام ويدين بهذا المشروع اغلب سكان النصف الغربي من مسلمة الفتوح وقبائل قريش كلها الا خمسة نفر، شعاره العمل بسيرة الشيخين المؤسسين وقتال علي (عليه السلام) وشيعته بتهمة دم عثمان وهو بريء منه براءة الذئب من دم يوسف (عليه السلام).

شهادة علي (عليه السلام) وبيعة أهل العراق للحسن (عليه السلام)، وبيعة أهل الشام لمعاوية :

استشهد امير المؤمنين (عليه السلام) وهو يعبئ جيشه لمحاربة معاوية، فبايع العراقيون الحسن (عليه السلام)حاكما وهو قبل ذلك رأس في مشروع ابيه(عليه السلام)ووصيه عليه اماما هاديا بنص من جده النبي (صلى الله عليه وآله) .

وبايع أهل الشام معاوية حاكما وهو من الرؤوس في مشروع قريش المسلمة وقد عُني به الخليفة الثاني عناية خاصة وكان يحاسب عماله الا معاوية فإنه كان يقول فيه (هذا كسرى العرب)(1) فكان زعيما في الشام عشرين عاما منذ وفاة اخيه يزيد بن أبي سفيان في الشام فعينه عمر مكانه ثم ضم إليه الخليفة الثالث بقية بلاد الشام، ومن هنا فإن جيلين من الشاميين فَتَحوا أعينهم على إمارة معاوية التي اسسها عمر وعثمان بصفته ممثلا للاسلام الامر الذي جعلهم يثقون بتقديره للامور

ـــــــــــــــــــــــ

(1) ابن عبد البر، الاستيعاب: ج3/ص1417.

«صفحة 83»

ويقبلون منه وقوفه ضد علي (عليه السلام) ، ساعده على ذلك جهلهم بموقع علي(عليه السلام)في الاسلام .

معاوية يبادر بطلب الصلح مع الحسن (عليه السلام) واهدافه منه :

كان معاوية يطمح إلى أن يستقل بملك الشام وقد نجح وانتهى نجاحه باقدام أهل الشام على بيعته حاكما على نهج سلفه عثمان ، وبيده ورقة ضغط على الحسن (عليه السلام) هي الغارات التي كان يشنها على أطراف الكوفة ، وفي الوقت نفسه يتخوف من خطرين قائمين يحيطان به؛ الأول: حلقات الخوارج الارهابية من الداخل، الثاني: جيش الروم من الخارج الذي يتحين فرصة الهجوم على الشام لاستردادها، من هنا بادر بطلب الصلح من الامام الحسن (عليه السلام): ليحقق احد امرين :

الأول: ربح المعركة الاعلامية عند عدم موافقة الحسن (عليه السلام)على الصلح فإن الحسن (عليه السلام)(سيكون ملوما لمخالفته الاية الكريمة ﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا ﴾ عند قسم من جيشه فضلا عن المنافقين في الكوفة فضلا عن تاكيد العقيدة عند أهل الشام إن معاوية يرغب في الصلح وإن الطرف الاخر هو طالب الحرب .

الثاني: تحقيق عدة مكاسب عند استجابة الحسن (عليه السلام) للطلب ، منها :

راحة جيشه المتعب .

ملاحقة الحلقات الارهابية الوافدة عليه من العراق.

دفع خطر الروم بالمصالحة أيضا.

واخيرا رد الكرة على العراق بعد ذلك لتصفية الحساب مع مشروع

«صفحة 84»

علي (عليه السلام)وحملته .

المفاجأة الكبرى في جواب الحسن (عليه السلام) على مبادرة معاوية:

من الضروري جدا أن نتعرف على طريقة تفكير الحسن (عليه السلام) بقضية الصلح التي عرضها معاوية فما هي الاصول التي يستحضرها الحسن (عليه السلام)في فكره بل ويستحضرها أيضا أي رجل مخلص من رجالات جيشه وهم كثر .

إنّ الحسن (عليه السلام)بعبارة موجزة هو احد رجال منظومة الإمامة الهادية بعد النبي (صلى الله عليه وآله) مهمتها المحافظة على الشريعة وهداية الناس قال تعالى : ﴿فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ (89) أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْعالَمِينَ (90)﴾ الأنعام/89-90 ، لقد نهض ابوه علي (عليه السلام) بمشروع الهداية بعد النبي (صلى الله عليه وآله) واسسه في قبال قريش المسلمة التي اضلت الأمة وكفرت بالتاويل كما كفرت قريش المشركة بالتنزيل وهو – أي: الحسن (عليه السلام)– الان على راس هذا المشروع. إن مهمة الحسن (عليه السلام)الاساسية هي إيصال مشروع أبيه لى النصف الثاني من الأمة التي لم تقف عند حالة كونها جاهلة بعلي وهو الهادي بعد النبي (صلى الله عليه وآله) بل تعتقد به في ضوء اعلام معاوية إنه مفسد في الدين تجب البراءة منه ، ولم تقف عند الإعتقاد فقط بل تحولت إلى جيش يهمه قتل من هو على دين علي بل من يتصل بعلي بنسب، ألم يقتل بِسرٌ طفلين لعبيد الله بن عباس؟!

يفكر الحسن (عليه السلام) في كيفيّة فتح قلوب أهل الشام على الحقيقة ليعرفوا معاوية على حقيقته مفسدا في الدين ويعرفوا عليا (عليه السلام) هاديا

«صفحة 85»

إلى دين الله بأمر الله ورسوله (صلى الله عليه وآله)وكانت أهم عقبتين بل عقدتين أمام انطلاقة المشروع هما :

العقبة الأولى: (انشقاق الشام) : هذا الانشقاق الذي استحكم ببيعة الشاميين لمعاوية على الحكم على ما بويع عليه عثمان ، على كتاب الله وسنة النبي (صلى الله عليه وآله) وسيرة الشيخين ، وهذه العقبة خلقت عدة مشكلات بعضها فِعليه والاخرى تحت الرماد :

الأولى : مشكلة فقدان الأمان في الطرق الخارجية بين ولايات الدولة الإسلامية حيث انعدمت بفعل غارات جيش معاوية على الأطراف الآمنة التابعة لعلي (عليه السلام)، وهذه مشكلة فعلا قائمة .

الثانية : مشكلة ثقافة العداء لعلي (عليه السلام) عند أهل الشام ، فهم يعتقدون أن علياً (عليه السلام) شريك في قتل عثمان لأنه يؤوي قتلته ومفسد في الدين لمخالفته سيرة الشيخين ، يستحق أن يُلعن ويُتبرأ منه ومن شيعته بل ينبغي استئصالهم جميعا وهذه المشكلة -أيضا- قائمة فعلاً .

الثالثة : مشكلة تهديد الروم البزنطيين على الجبهة الشمالية الشرقية للشام وهذه -أيضا- قائمة فعلاً .

الرابعة : احتمالية أن يتبنى المنشقُّون الامويون إحياء القبلة المنسوخة وهي بيت المقدس لتجريد الحسن (عليه السلام) من سلاح الكعبة – القبلة العامة لكل المسلمين – لإحكام عُزلة أهل الشام عن العراقيين حتى لا ينفتحوا على الحقائق التي قد تغيِّر من ولائهم لمعاوية وهذه مشكلة تحت الرّماد، وقد حصل مثل هذا في عهد بني إسرائيل في الشام وتعددت القبلة والكتاب الإلهي عندهم وبقيت امتدادات القبلتين

«صفحة 86»

والكتابين إلى زمن معاوية وإلى اليوم ، وقد نفَّذ عبد الملك بن مروان جزءا من هذا المخطط في عهده لما كان خصمه عبد الله بن الزبير مسيطراً على مكة حين منع أهل الشام من الحج مدة حكم عبد الله بن الزبير لكي لا يتاثروا بالاحاديث النبوية ضد بني أمية وبني مروان التي تبنى دعاة عبد الله بن الزبير اشاعتها بين الشاميين في اول حجة لهم في عهده .

العقبة الثانية (الخوارج) : حمل الخوارج شعار التكفير لعلي (عليه السلام) ولمعاوية وتحولوا بعد معركة النهروان إلى خلايا اغتيال ومجموعات تغير على الابرياء وتقتلهم لانهم يسالمون السلطة ، وقد تسببت هذه النشاطات الإرهابية أن تفقد الأمة وبخاصة البلاد الشرقية الأمان داخليا، وهي وإن كانت مشكلة مشتركة بين الشام والعراق ولكنها في الكوفة اكثر خطورة لانها مركز الخوارج .

أمامَ وضع معقد كهذا لا يصبح خيار الحرب في صالح مشروع علي (عليه السلام)، لأنه بحاجة إلى انفتاح القلوب عليه باختيارها والحرب ليست اداة صالحة لهذا الهدف، فتحقيقه يتطلب اجواء آمنة أيضا .

ثم إن الصلح المحدود وإيقاف القتال بالطريقة التي اقترحها معاوية بأن يبقى العراق وما والاه للحسن (عليه السلام) والشام وما والاها لمعاوية كما هي طبيعة الاشياء، وطبيعة تفكير معاوية تكرس الانشقاق والثقافة العدائية لعلي (عليه السلام) ومن ثم بقاء الطريق مسدوداً أمام انفتاح أهل الشام على مشروع علي (عليه السلام) مضافاً إلى ما ينطوي عليه من خطر محتمل أشرنا إليه آنفاً .

«صفحة 87»

خصائص أطروحة الصلح المطلوبة :

إن أطروحة الصلح التي يحتاجها مشروع علي (عليه السلام) لينطلق في الشام لابد لها من أن تكون أطروحة تمتلك أن تحقق مايلي :

1 . تعالج الانشقاق وما ينطوي عليه من مخاطر فكرية وسياسية .

2 . تحفظ لاهل العراق وأهل الشام اختيارهم وبيعتهم .

3 . تعرِّف الشاميين أنَّهم كانوا ضحية إعلام اموي قرشي كاذب .

4 . تفرض على معاوية أن يتعامل – ولو ظاهريا ولمدة محدودة – بإيجابية مع ذكر علي (عليه السلام) بخير.

5 . تضمن اختلاط العراقيين مع الشاميين في أجواء الشفافية والمحبة والأمان ليتمكَّن العراقيون من نقل أخبار الإمامة الإلهية في علي (عليه السلام) وأخبار سيرته المشرقة وليستقبلها الشاميون دون تحسس منها مسبقا.

6 . تحقق أجواء الأمان في الأمة كلها وتطوق الفكر التكفيري وتلاحق حلقات الاغتيال التي نشات عنه .

7 . تدفع التهديد الخارجي الذي يلوح به الروم البيزنطيون .

إن الصيغة الوحيدة للصلح -من دون شك- التي تحقق كل الأمور الآنفة الذكر هي التنازل المشروط عن السلطة المدنية من قبل الحسن (عليه السلام) وتكوين الدولة الموحدة وتنصيب معاوية لها حاكما ثم الحسن (عليه السلام) بعده .

وهي أطروحة ليست صعبة على الحسن (عليه السلام) فهو -أساساً- إمامٌ هادٍ تهمُّه قضية الهداية والرسالة ومصلحة الأمة العامة قبل كل شيء ،

«صفحة 88»

والحكم القائم على بيعة الناس بالنسبة إليه لا يزيد من إمامته الإلهية شيئاً ولا ينقص منها شيئا على الرغم من كونه حقا له ويجب على الأمة أن تبايعه.

وكان النبي (صلى الله عليه وآله) قد أعد الحسن (عليه السلام) لهذه المهمة الإلهية بقوله (صلى الله عليه وآله) : (الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا) (1) ، وقوله (صلى الله عليه وآله) : (الحسن والحسين سبطان من الأسباط) (2) ، وقوله (صلى الله عليه وآله) (إن ابني هذا سيد ، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين) . (3)

ـــــــــــــــــــــــ

(1) المفيد، الارشاد: ص199، الطبرسي، اعلام الورى: ص216.

(2) الطبراني، المعجم الكبير: ج3/32 .

(3) الحديث مروي بطرق مختلفة واسانيد متعددة في كتب الحديث، قال ابن كثير في البداية والنهاية ج6 / 214-215 ما خلاصته : (وقد روى هذا الحديث البخاري وأحمد وأبو داود والنسائي والترمذي والصنعاني في المصنف والبيهقي في دلائل النبوة وغيرهم كلهم عن الحسن بن أبي بكرة الثقفي ، وقال المزي في أطرافه : وقد رواه بعضهم عن الحسن عن أم سلمة ، وروي أيضا من طريق جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه) أقول : رواه الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد: ج3/ 433، وج8/26بسنده عن جابر، وفي الاستيعاب لابن عبد البر ج1/230، قال: (وتواترت الآثار الصحاح عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال لحسن بن علي إن ابني هذا سيد وعسى الله أن يبقيه حتى يصلح به بين فئتين عظمتين من المسلمين رواه جماعه من الصحابة). ويقول الاستاذ حسن فرحان المالكي في كتابه (نحو انقاذ التاريخ الإسلامي: ص243): (ومثلما حارب الرافضة حديث (صلح الحسن) فقد حارب النواصب (حديث عمار)، إما بتضعيفه (رغم أنه متواتر … ). أقول: إن عمل الحسن(عليه السلام) كان صحيحا لأنه معصوم، وفعلا كان عمله اصلاحا في الأمة سواء أبالتحليل الذي تبنته هذه الدراسة ام بالتحليل السائد، إذ أن الأمة قد توحد شقاها وساد الأمان فيها عشر سنوات واختلط العراقيون بالشاميين وتعرفوا على سيرة علي (عليه السلام)وأحاديث النبي (صلى الله عليه وآله) فيه وفي أهل بيته (عليهم السلام)، ولم يروَّع شيعي واحد خلال هذه الفترة وإنما نكث معاوية عهده مع الحسن (عليه السلام) وغدر به سنة خمسين حيث دس له السم ونقض كل شرط اشترطه، والحديث النبوي فيه نبوءة تحققت وهداية للنصف الغربي من البلاد الاسلامية جرت على يد الحسن (عليه السلام)، نعم هناك بعض الكتاب المحدّثين من الشيعة حاول تضعيف الحديث ولعل مرد ذلك إلى تركيز بعض الكتاب السنة على صلح الحسن (عليه السلام)ومحاولتهم تخطئة قتال علي (عليه السلام) لأهل الشام من خلاله، مضافا إلى الغفلة عن كلمة الامام الحسن (عليه السلام)وكلمة الامام الباقر (عليه السلام)في الصلح، غير أن كلا الموقفين لا يمثلان الموقف العام لدى المدرستين.

«صفحة 89»

وكذلك هي ليس صعبة على العراقيين شيعة علي (عليه السلام) المؤمنين بمشروعه ، فهم على نهجه يحملون همَّ هداية الأمة ومؤازرة القائد الإلهي المذخور لها، وليسوا طلاّب سلطة ودنيا وقد شهد لهم علي (عليه السلام) بذلك، إذ يقول (عليه السلام): (وليس أهل الشام بأحرص على الدنيا من أهل العراق على الاخرة) . (1)

وقال (عليه السلام) مخاطبا إياهم : (أنتم الأنصار على الحق ، والإخوان في الدين والجنن يوم البأس والبطانة دون الناس). (2)

وقال (عليه السلام) :(الكوفة كنز الإيمان وحجة الإسلام وسيف الله ورمحه يضعه حيث شاء ، والذي نفسي بيده لينتصرنَّ الله بأهلها في شرق الأرض وغربها كما انتصر بالحجاز). (3)

ولا زالت الكلمة الرائعة التي تمثل بها الحسن (عليه السلام) حين رحل عن

ـــــــــــــــــــــــ

(1) ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة: ج15/81، الدينوري، الاخبار الطوال: 278، نصر بن مزاحم، وقعة صفين: 471.

(2) انفسه: ج7/193، قال ابن أبي الحديد: (الجَنَن : جمع جُنة ، وهي ما يستر به . وبطانة الرجل : خواصه وخالصته الذين لا يطوى عنهم سره).

(3) الحموي، معجم البلدان: ج7/160، وعن سعيد بن الوليد الهجري عن أبيه قال: قال علي (عليه السلام) وهو بالكوفة: (ما أشد بلايا الكوفة لا تسبوا أهل الكوفة فوالله إن فيهم لمصابيح الهدى وأوتاد ذكر الله ومتاع إلى حين والله ليدقن الله بهم جناح كفر لا ينجبر أبدا، إن مكة حرم إبراهيم والمدينة حرم رسول الله (صلى الله عليه وآله) والكوفة حرمي ما من مؤمن إلا وهو من أهل الكوفة أو هواه لينزع إليها) ابن عساكر، تاريخ دمشق: ج1/219.

«صفحة 90»

الكوفة بعد الصلح في حُسن ثقته بالعراقيين يحفظها التاريخ، قال:

ولا عن قِلىً فارقتُ دارَ معاشري

همُ المانعونَ حوزتي وذماري(1)

وقد عَرَفَ ذلك للعراقيين أيضا خصمهم عبد لله بن الزبير حين قال له معاوية متشكياً : أنَّ الحسن (عليه السلام) لم يزره في المدينة إلا مرة واحدة ، وكان يتوقع أن يزوره أكثر من مرة ، فقال له :(والله لو شاء الحسن أن يضربك بمائة ألف سيف لفعل ، ولأهلُ العراق أبرُّ به من أمِّ الحُوار بحُوارها). (2)

وعَرَفَ هذه الصفة لهم أيضا معاوية نفسه خلال سنوات الصلح حين انطلق أخيارهم ورموزهم من الرجال والنساء بفقه في الدين وجرأة في الحوار مع الحاكم ووفاء لعلي (عليه السلام) منقطع النَّظير يروون لأهل الشام ولغيرهم سيرة علي (عليه السلام) المشرقة وسوابقه مع النبي (صلى الله عليه وآله) .

وقد شهد لهم معاوية بوفائهم لعلي ومنهجه حين قال : (هيهات يا أهل العراق لقد فقهكم علي فلن تطاقوا ! )

وحين قال : (لقد لمظكم علي الجرأة على السلطان) .

ـــــــــــــــــــــــ

(1) ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة: ج16/215، البلاذري، انساب الأشراف: ج3/364، وذمار الرجل هو ما يلزمه حفظه وحياطته وحمايته وعدم تضييعه بأن يقاتل عنه ويقتل من اجله وإلا لزمه اللوم، وقد وضع الاعلام العباسي في قبال حسن ظن الحسن (عليه السلام)بأهل الكوفة الرواية التي تقول: إن الحسن (عليه السلام)قال لأهل الكوفة: (والله لو لم تذهل نفسي عنكم إلا لثلاث لذهلت انتهابكم ثقلي وقتلكم أبي وطعنكم في فخذي) (ابن عساكر، تاريخ مدينة دمشق: ج4 /96) (الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد: ج1/149) .

(2) انظر: الأصفهاني، الاغاني: ج9/119، والحُوار : ولد الناقة من وقت ولادته إلى ان يفطم ويفصل .

«صفحة 91»

وحين قال : (واللهِ لوفاؤكم له بعد موته أعجب إلي من حبِّكم له في حياته ! ) . (1)

إن مشروع الهداية وحل المشكلات لايحتاج فقط إلى قائد رسالي إلهي تسمح له نفسه بالتنازل عن حقه في الملك بمستوى ملك العراق والبلاد التابعة له لأجل الرسالة والهداية والمصلحة العامة للأمة ، بل هو بحاجةٍ أيضاً إلى قناعة العراقيين بذلك واهليتهم لحمل ثقافة الولاء لعلي (عليه السلام) إلى غيرهم ، وقد أثبت العراقيون أنهم كذلك حيث استجابوا(2) للحسن (عليه السلام) وقاموا بمهمة الهداية معه كما سيأتي .

العمق الستراتيجي للحسن (عليه السلام) والتفكير المحدود لمعاوية:

وفي ضوء ذلك يتضح الفرق الكبير بين طريقتين في التفكير :

الأولى: تربط نفسها مصيريا بالسلطة ولا يهمها مصلحة الرسالة والأمة في شيء .

الثانية تربط نفسها مصيريا بمصلحة الرسالة والأمة في كل شيء.

وفي قضية معالجة الإنشقاق فإن مَثَل الحسن (عليه السلام) ومعاوية إزاء ملك الأمة مثل تينك المرأتين اللتين تنازعتا في وليد واصرتا فدعا علي (عليه السلام) بمنشار وقال لهما أقسمه نصفين بينكما فسكتت إحداهما وقالت الأخرى: الله الله يا أبا الحسن إن كان لا بد من ذلك فقد سمحت به لها . فقال: الله أكبر هذا ابنك دونها ، ولو كان ابنها لرقت عليه وأشفقت . فاعترفت المرأة الأخرى بأن الحق مع صاحبتها والولد لها

ـــــــــــــــــــــــ

(1) انظر هذه الكلمات في رسالة الوافدات على معاوية تحقيق سكينة الشهابي .

(2) هناك روايات تذكر أن حجر بن عدي الكندي رضوان الله عليه خاطب الحسن (عليه السلام) بكلمات غير لا ئقة بعد الصلح، ولكننا نرى أنها جزء من ذلك الكمّ الموضوع من روايات الإعلام العباسي الذي أشرنا إليه، انظر: أنساب الأشراف: ج3/365 .

«صفحة 92»

دونها. (1)

لقد أراد معاوية بطلبه للصلح أن يكرس انشقاق الأمة لرغبته في الملك وهو غير مشروع له .

واراد الحسن(عليه السلام) بالصيغة التي اختارها أن يعالج الإنشقاق بالتنازل عن الملك وهو مشروع له ، ومنه يتضح للناس أن الحريص على مصلحة الأمة هو الحسن(عليه السلام) وليس معاوية .

ومنه يتضح أيضا :

إِنَّ مبرر الصلح بشكل تنازل مشروط عن السلطة الذي أقدم عليه الإمام الحسن (عليه السلام) ليس مرده إلى ضعف وانهيار في شخصية الحسن (عليه السلام) كما تبنى المستشرقون ذلك اعتماداً على روايات موضوعة، ولا إلى الخيانات والضَّعف والشك الذي عاشه جيش الحسن (عليه السلام) أو شَعبه كما تصوره لنا روايات أخرى كلها من وضع الإعلام العباسي، بل مرده إلى تفكير موضوعي من الإمام الحسن(عليه السلام) في الظرف الذي تمر به الرسالة والامة ليحفظ مصالحهما.

 

ـــــــــــــــــــــــ

(1) قال الشيخ المفيد : (إن امرأتين تنازعتا على عهد عمر في طفل ادعته كل واحدة منهما ولدا لها بغير بينة ، فالتبس الحكم في ذلك على عمر وفزع فيه إلى علي(عليه السلام)، فاستدعى المرأتين ووعظهما وخوفهما فأقامتا على النزاع والاختلاف، فقال (عليه السلام) عند ذلك: ائتوني بمنشار، فقالت له الإمرأتان: ما تصنع به؟ فقال : أقده نصفين لكل واحدة منكما نصفه، فسكتت إحداهما وقالت الأخرى : الله الله يا ابا الحسن إن كان لا بد من ذلك فقد سمحت به لها، فقال : الله أكبر هذا ابنك دونها ، ولو كان ابنها لرقت عليه وأشفقت، فاعترفت المرأة الأخرى بأن الحق مع صاحبتها والولد لها دونها ). المفيد، الإرشاد: ص110.

«صفحة 93»

أما مصلحة الرسالة فقد نهض بها علي (عليه السلام) ليكون الكتاب والسنة دون إضافة رأي أحد هي الدستور الحاكم في البلاد وليكون رأي الحاكم في المسائل الدينية العملية الشخصية مذهبا من المذاهب يترك فيه الخيار للأمة إن شاءت أخذت به وإن شاءت تركته وأخذت برأي آخر.

أما مصلحة الأمة في زمن الحسن (عليه السلام) فهي معالجة الانشقاق الذي استحكم فيها ، وملاحقة الارهابيين الذين نغصوا العيش الآمن للناس ، ومواجهة تهديد الروم على الجبهة الشمالية الشرقية لحفظ الكيان الإسلامي .

مضافا إلى ذلك فإن التنازل من الحسن (عليه السلام) كان بحدود (السلطة المدنية) التي كانت له في العراق وقد جاءته ببيعة مشروعة ، اما (الإمامة الدينية الهادية المعصومة) التي جعلها الله تعالى له فهي غير قابلة للتنازل لأنها لم تأته على أساس بيعة الناس بل جاءته بالوصية من النبي (صلى الله عليه وآله) قبل أن يبايعه الناس على الحكم ، لأنها تترتب عليها مسؤولية حفظ الرسالة وقيادة الناس إلى الله تعالى بشكل مضمون النتيجة والقبول كما في قوله تعالى ﴿أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ (89) أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ (90)﴾ الأنعام/89-90، ويترتب على الناس أن ينصروه ليقوم بمهمة حفظ الرسالة واحيائها المهمة التي نهض بها أمير المؤمنين (عليه السلام)نظير بيعة أهل المدينة للنبي (صلى الله عليه وآله) نصروه ليبلغ رسالة الله التي منعته من تبليغها قريش، والصلح الذي قام به الحسن (عليه السلام) إنما هو معالجة الإنشقاق

«صفحة 94»

وفضح قريش ومعاوية الذي صدَّ علياً (عليه السلام) عن مشروع إحياء السنة في الشام ، نظير الصلح الذي قام به النبي (صلى الله عليه وآله) لفضح قريش المشركة التي شوهت الحركة الرسالية للنبي (صلى الله عليه وآله) عند القبائل باعلام كاذب لكي لا تتأثر به. (1)

مضافا إلى ذلك فإن هذه الصيغة من الصلح هي الصيغة الوحيدة التي توفر للحسن (عليه السلام) أن يشترط ما يريد من الشروط وليس للطرف الآخر إلا أن يقبل الصفقة كلها أو يرفضها كلها .

إن أطروحة الحسن (عليه السلام) للصلح تدفع معاوية دفعاً لأن يستقبلها ولا يرفضها ولو رفضها لكان الملوم عند شعبه، وفي الوقت نفسه فإن معاوية يعلم أن قبوله للشروط معناه ظهور أمر الإمامة الإلهية لعلي (عليه السلام) في الشام وأنه إمتداد لرسول الله (صلى الله عليه وآله) في سيرته، وأنّهَ كان على حق في مخالفته لسيرة الشيخين في حج التمتع وغيرها(2) وأَن كلُّ من خالف علياً (عليه السلام)في صغيرة أو كبيرة كان على الباطل، ولكنه إفتضاحٌ كان

ـــــــــــــــــــــــ

(1) من المفيد التنبيه على مقامين للنبي (صلى الله عليه وآله) والائمة (عليهم السلام) الأول: مقام الإمامة الالهية وهو مقام تشريعي ويستلزم العصمة والنص من الله تعالى مباشرة للنبي (صلى الله عليه وآله) وبواسطته لاوصيائه (عليهم السلام) وهذا المقام لا ينفك عن صاحبه بالاضطهاد اوالموت او القتل، لذلك وجب على الفرد أن يبايع النبي (صلى الله عليه وآله) او الامام (عليه السلام)حيا او ميتا ليتحقق ايمانه وهي بيعة الايمان، فهي اساسا موجهة للفرد والجماعة. الثاني: مقام الحكم وهومقام تنفيذي ولا يستلزم في نفسه أن يكون صاحبه معصوما وهذا المقام لا يكون فعليا للنبي (صلى الله عليه وآله) والامام (عليه السلام) إلا ببيعة من ينهض بهم الحكم وهم أهل الحل والعقد فهي موجهة أساسا إلى الجماعة وليس إلى الفرد وهذا المقام هو الذي يقبل التنازل والتجميد وهو الذي تنازل عنه الحسن (عليه السلام) واشترط فيه شروطا .

(2) انظر قصة حج التمتع مفصلة في كتابنا شبهات وردود: ص211 .

«صفحة 95»

معاوية -وهو داهية قريش بالغدر(1)- قد استبطن الخطة لعلاجه كما اشرنا انفا.

إنَّ الحسن (عليه السلام) بتنازله المشروط عن السلطة سوف يحقق فتحاً عظيماً لقلوب أهل الشام إزاء أبيه علي (عليه السلام)، ويهيؤها لاستقبال نصوص ولايته الالهية التأسيسية من الكتاب والسنة، كما حقق صلح الحديبية من قبل فتحاً مبيناً لقلوب سكان أهل الحجاز ونَجْد إزاء النبي (صلى الله عليه وآله) وهيأها لاستقبال الإسلام والاعتراف بنبوته (صلى الله عليه وآله).

ويتبيَّن بذلك سرُّ قول الإمام الحسن (عليه السلام) لأبي سعيد عقيصا: إن علة مصالحته لمعاوية هي علة مصالحة النبي لقريش. (2)

وسرُّ قول الإمام الباقر (عليه السلام): (والله لَلذي صنعه الحسن بن علي (عليهم السلام)كان خيراً لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس) . (3)

وبذلك يتضح أيضا عمق الضربة الستراتيجية التي وجهها الحسن (عليه السلام) إلى معاوية ولم يدعه يقوم بعدها ابدا حتى حين يغدر بعهده ، اذ استجاب معاوية لصيغة الصلح التي تحقق للحسن (عليه السلام)معالجة الانشقاق وتقوي الأمة ازاء الخطرين اللذين يهددانها؛ الخوارج من

ـــــــــــــــــــــــ

(1) قال علي (عليه السلام): (والله ما معاوية بأدهى مني ولكنه يغدر ويفجر ولولا كراهية الغدر كنت من أدهى الناس، ولكن كل غدرة فجرة وكل فجرة كفرة، ولكل غادر لواء يعرف به يوم القيامة والله ما أستغفل بالمكيدة ولا أستغمز بالشديدة) . (نهج البلاغة) بحار الانوار 33-197، والحسن (عليه السلام)ابن أبيه (عليه السلام)وعلى خطه ونهجه وقد تبين عمقه الاستراتيجي من خلال صلحه مع معاوية.

(2) المجلسي، بحار الانوار: ج44/273، نقلا عن علل الشرائع للشيخ الصدوق .

(3) الكليني، الكافي: ج8/258 .

«صفحة 96»

الداخل، والروم من الخارج ، كما تحقق له فضح معاوية عند أهل الشام وافتضاح تجربة قريش المسلمة التي ورثها معاوية وتحقق له ظهور حق أبيه علي (عليه السلام)في الشام وكونه وارث النبي (صلى الله عليه وآله) ووصيه كل ذلك في آن واحد .

واخيرا فإنه مما لا شك فيه إن الحسن (عليه السلام)كان قد أخذ بنضر الاعتبار أن معاوية سوف يستجيب مؤقتا ، والغدر بعدها في الوقت المناسب ليس تخمينا بل علما قاطعا من خلال معرفته باصول معاوية التي تربى عليها.

وفي الوقت نفسه يعتقد الحسن (عليه السلام)أن معاوية سوف لن يكون غبيا في تعامله مع هذه الصفقة المفاجئة التي اسالت لعابه بل سيظهر كل دهائه ليضرب ضربته بعد أن يستقر له الملك، ولن يستقر في اقل من خمس إلى عشر سنوات. إن معاوية مهما اختلف في دينه(1)

ـــــــــــــــــــــــ

(1) لقد قامت عقيدة الغالبية من أهل السنة على ان معاوية من ائمة الهدى استنادا إلى ما رواه الترمذي في الجامع الصحيح 5/351 ، واحمد بن حنبل في المسند 6/266 ، وابن عساكر في تاريخه 59/83 من أن النبي (صلى الله عليه وآله) قد دعا لمعاوية قال: (اللهم اجعله هاديا مهديا واهد به) ، وفي قبال ذلك : ما رواه الهيثمي في مجمع الزوائد 8/121 عن الطبراني في الكبير 11/32 من طريق ابن عباس قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فسمع رجلين يتغنيان وأحدهما يجيب الآخر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم انظروا من هما، قال: فقالوا : معاوية وعمرو بن العاصي ، فرفع رسول الله يديه فقال :(اللهم اركسهما ركسا ، ودعهما إلى النار دعا). ولكن احمد حين أخرجه في المسند 4 : 421 ، رفع اسميهما وقال (فلان وفلان)، وقد قامت عقيدة الشيعة إن معاوية في النار بما سفك من دماء الابرار كعمار وهاشم بن عتبة المرقال ونظرائهما في صفين وبما غدر من عهد الحسن (عليه السلام) ودس السم له وقتل الابرار كحجر بن عدي وعمرو بن الحمق ونظرائهما وبما سلط ابنه يزيد على رقاب المسلمين وما قام به من قتل الحسين (عليه السلام)وصحبه وسبي بنات الرسالة واباحة المدينة لجيشه في واقعة الحرة ورمي الكعبة بالمنجنيق وغير ذلك مما يحفل به تاريخ معاوية من جرائم مات عليها .

«صفحة 97»

فان دهاءه وشيطنته في التخطيط وتقدير اولويات الصراع لاجل الدنيا امر لاخلاف فيه(1)، واولويات الصراع ههنا تقتضي بعد تسليم الحسن (عليه السلام). الملك له مداراة أهل العراق وكسب جانبهم ، والانصراف إلى ملاحقة الخوارج في الكوفة أولاً ومداراة أهل الروم في أن واحد، وبالتالي فسوف يكون غدر معاوية بعد أَن حقق الحسن (عليه السلام)اهدافه كاملة من الصلح ، اما أَن يتسلم الملك بعد معاوية فلم يكن الحسن يتوقعه ولم يكن ليرغب فيه بما هو ملك وامرة (2) .

اما معالجة تبعة الغدر وفتح الطريق من جديد للامامة الالهية ومشروع علي (عليه السلام) فقد تركها الحسن (عليه السلام) إلى اخيه الحسين (عليه السلام) الذي اعده الله ورسوله (صلى الله عليه وآله) لها .

ليس من شك أن الملك قد أعمى بصيرة معاوية وسال لعابه له وقرر

ـــــــــــــــــــــــ

(1) كان معاوية يعلم حق العلم أن الذي قتل عثمان هو طلحة ولكنه داس على جراحاته واتفق معه لمواجهة علي (عليه السلام) في البصرة ، وانتقم مروان من طلحة حين حانت له فرصة وقتل طلحة في خضم المعركة بسهم سدده إلى نحر طلحة سرا . وكذلك امره مع الحسن فإنه استجاب له ووفى بشروطه عشر سنوات حاول خلالها أن يكسب ثقة العراقيين ولما اكتشف أنه غير قادر على كسبهم سدد سهمه سرا إلى الحسن (عليه السلام) ثم انتقم منهم علنا .

(2) إذ كان ابوه علي (عليه السلام)يقول فيها: (أَما والذي فَلَقَ الحَبَّةَ وبَرَأَ النَّسَمَةَ ، لَوْ لا حُضورُ الحاضِرِ وقِيامُ الحُجَّةِ بِوُجُودِ النَّاصِرِ ، ومَا أَخَذَ الله على العُلَماءِ ، ألا يُقارُّوا على كِظَّةِ ظالِمٍ ولا سَغَبِ مَظلوم ، لألقَيتُ حَبلَها على غارِبِها ولَسَقَيتُ آخِرَهَا بِكَأسِ أَوَّلِها ولألفَيتُم دُنياكُم هَذِه أَزهَدَ عِندِي مِن عَفطَةِ عَنزٍ) نهج البلاغة تحقيق صبحي الصالح: 50 (الخطبة الشقشقية) . .

«صفحة 98»

أن يستجيب للحسن (عليه السلام)ثم يغدر به بعد حين وما درى ان في هذا الغدر حتفه إلى الأبد .

ان الحسن(عليه السلام)بطريقة التفكير هذه كان واثقا كل الثقة أنَّ أهل الشام فضلا عن شيعة أبيه سوف يستقبلون اطروحته وشرائطها لما يرون فيها من حفظ مصالح واختيارات الجميع ونكران للذات من الحسن (عليه السلام).يشهده الجميع .

وهكذا كانت المفاجأة الكبرى من الحسن (عليه السلام)للجميع هي تنازله المشروط عن الملك ، فإن كل الذي كان يتوقعه معاوية ورجاله هو أن يرفض الحسن (عليه السلام)او يستجيب لطلبه بايقاف الحرب وأن يكون كلٌ على بلده الذي بايعه ، اما أَن يكون الجواب هو التنازل عن العراق وما والاه بشروط فهو مما لم يكن يتوقعه معاوية ولا احد من رجاله على الاطلاق الا أَن يكون الحسن (عليه السلام)ليس على سر أبيه (عليه السلام)ومنهجه(1) وهذا ما لا يتوقع من الحسن (عليه السلام)الزكي المطهر .

وحاول معاوية أن يعدل بعض الشروط ولكن الحسن (عليه السلام)كان حاسما في موقفه، روى ابن عبد البر في الاستيعاب قال: (فكتب [أي: الحسن] إلى معاوية يخبره أنه يصيّر الأمر إليه على أن يشترط عليه ألا يطلب أحدا من أهل المدينة والحجاز ولا أهل العراق بشيء كان في أيام أبيه ، فأجابه معاوية ، وكاد يطير فرحا ، إلا أنه قال : أمّا عشرة أنفس

ـــــــــــــــــــــــ

(1) هذا هو الذي دعا العباسيين فيما بعد إلى وضع روايات تجعل من الحسن (عليه السلام)على خلاف مع أبيه (عليه السلام)في قضية التصدي للامر توقيا من سفك الدماء .

«صفحة 99»

فلا أؤمّنهم)(1)، فرفض الحسن (عليه السلام)ذلك، (فبعث إليه معاوية حينئذ برقّ أبيض وقال : اكتب ما شئت فيه وأنا ألتزمه، فاصطلحا على ذلك).(2)

وكانت شروط الحسن (عليه السلام) على معاوية:

1 . أن يعمل بالكتاب والسنة فقط، أي: ليس له أن يفرض على احد من المسلمين سيرة الشيخين لأَنها ليست من الكتاب والسنة في شيء بل هي راي ارتآه الخليفتان وللمسلمين الخيار في العمل بها او عدمه.

2 . أن يترك لعن علي (عليه السلام) وسبه، (وهو مما نهت عنه السنة وأن يذكره بخير وهو مما امرت به السنة النبوية أيضا) .

3 . امان شيعة علي (عليه السلام)حيثما كانوا ، وحريتهم بالاقتداء بعلي (عليه السلام) والتعبير عن رايهم فيه والحديث عن سيرته كما هو لغيرهم من أهل الشام وحريتهم بالاقتداء بالخلفاء والتعبير عن رايهم فيهم والحديث عن سيرتهم، وأن لا يكيد للحسن أهل بيته(عليه السلام).

4 . أن يوزع في شهداء الجمل وصفين عطاء خاصا بهم ، كما يوزع لشهداء صفين في الشام .

ـــــــــــــــــــــــ

(1) جاء بعدها قوله : (فراجعه الحسن فيهم فكتب إليه يقول : إني قد آليت أني متى ظفرت بقيس بن سعد أن أقطع لسانه ويده ، فراجعه الحسن إني لا أبايعك أبدا وأنت تطلب قيسا أو غيره بتبعة قلت أو كثرت) أقول: هذا القول الاخير من وضع الرواة إذ ليس موضوع الصلح أن يبايع الحسن(عليه السلام)لمعاوية ولم يطلبه معاوية وما كان يجرؤ أن يطلبه لوضوح سخفه ، بل طلب أن يبقى كل طرف على بلده الذي بايعه فاجابه الحسن (عليه السلام)بصيعته للصلح التي فيها تسليم الامر لمعاوية بتقديم اختيار أهل الشام على اختيار أهل العراق بشروط منها امان شيعة علي(عليه السلام)كلهم، فلا معنى أن يقول لا ابايعك ابدا وانت تطلب قيسا او غيره .

(2) ابن عبد البر، الاستيعاب: ج1/ 385.

«صفحة 100»

5 . أن يفضل بني هاشم في العطاء على بني عبد شمس، وهو سنة نبوية تمثلت بالخمس، وهذا التفضيل كان جزاء لهم على دعمهم واسنادهم كمجموعة لدعوة النبي (صلى الله عليه وآله) في قبال مقاطعة بقية بطون قريش ومواجتهم السلبية لها .

6 . وان يستثني ما في بيت مال الكوفة للحسن(عليه السلام)(1) ، وأن يوصل له الفي دينار سنويا من خراج دار آبجرد، ونحن نشك في اشتراط استثناء ما في بيت مال الكوفة لأن المعروف من سيرة علي (عليه السلام)أنه كان لا يأخذ من بيت المال الا بمقدار ما هو حقه مما يساوي عطاء الاخرين ، وقد اغنى الله تعالى الحسن (عليه السلام)عن اخذ ما في بيت مال الكوفة بصدقات أبيه علي (عليه السلام) (2) مضافا إلى ما اشترطه من الفي دينار سنويا وهي ليست

ـــــــــــــــــــــــ

(1) روى البخاريفي صحيحه 8/99 ، وابن عساكر في ترجمة الحسن (عليه السلام)تحقيق المحمودي 207 عن سفيان بن عيينة عن أبي اسرائيل بن موسى عن الحسن البصري: (إن معاوية كلف رجلين من قريش أن ياتيا الحسن ويعرضا له المال ليتنازل عن السلطة ، واستطاعا اقناعه بما يوجد من بيت مال الكوفة)، وهذا هو ما اختلقه الخليفة ابو جعفر الدوانيقي في رسالته الجوابية إلى محمد بن عبد الله بن الحسن ، وروجه الاعلام العباسي، انظر تفصيل ذلك في كتابنا الإمام الحسن (عليه السلام)في مواجهة الانشقاق الأموي ، الباب الثالث وثائق الاعلام العباسي.

(2) ابن شبة، تاريخ المدينة: ج1/228، قال ابن شبة قال أبو غسان : (وهذه نسخة كتاب صدقة علي بن أبي طالب رضي الله عنه حرفا بحرف نسختها على نقصان هجائها وصورة كتابها ، أخذتها من أبي ، أخذها من حسن بن زيد بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أمر به وقضى به في ماله عبد الله علي أمير المؤمنين ، ابتغاء وجه الله ليولجني الله به الجنة ، ويصرفني عن النار ويصرف النار عني يوم تبيض وجوه وتسود وجوه . أن ما كان لي بـ (ينبع) من ماء يعرف لي فيها وما حوله صدقة ورقيقها غير أن رباحا وأبا نيزر وجبير أعتقناهم ، ليس لأحد عليهم سبيل ، وهم موالي يعملون في الماء خمس حجج ، وفيه نفقتهم ورزقهم ورزق أهليهم، ومع ذلك ما كان بوادي القرى ، … وما كان لي (بواد) ترعة … وما كان لي بإذنية وأهلها صدقة … وأنه يقوم على ذلك حسن بن علي ، يأكل منه بالمعروف وينفق حيث يريه الله في حل محلل لا حرج عليه فيه ، وإن أراد أن يندمل (أي يصلح من الصدقة) من الصدقة مكان ما فاته يفعل إن شاء الله لا حرج عليه فيه ، وإن أراد أن يبيع من الماء فيقضي به الدين فليفعل إن شاء لا حرج عليه فيه ، … وإن حدث بحسن حدث وحسين حي ، فإنه إلى حسين بن علي ، وأن حسين بن علي يفعل فيه مثل الذي أمرت به حسنا ، له منها مثل الذي كتبت لحسن منها ، وعليه فيها مثل الذي على حسن ، … وإن لبني فاطمة من صدقة علي مثل الذي لبني علي ، وإني إنما جعلت الذي جعلت إلى ابني فاطمة ابتغاء وجه الله وتكريم حرمة محمد (صلى الله عليه وآله)وتعظيما وتشريفا ورجاء بهما ، فإن حدث لحسن أو حسين حدث ، فإن الآخر منهما ينظر في بني علي ، فإن وجد فيهم من يرضى بهديه وإسلامه وأمانته فإنه يجعله إن شاء الله، … فهذا ما قضى عبد الله علي أمير المؤمنين في أمواله هذه … شهد أبو شمر بن أبرهة ، وصعصعة بن صوحان ، ويزيد بن قيس ، وهياج بن أبي هياج . وكتب عبد الله علي أمير المؤمنين بيده لعشرة خلون من جمادى الأولى سنة تسع وثلاثين) .

«صفحة 101»

لاحتياجاته شخصيا بل يقضي بها حاجات المؤمنين، وسياتي تصرفه (عليه السلام) في المال .

7 . أن لايسميه بامير المؤمنين لأنها خاصة بمن جعله الله تعالى اميرا لهم يوم الغدير، وهو علي (عليه السلام) .

8 . أن لا يقيم عنده شهادة، لأنه ليس مواطنا عنده ، وهناك فهم اعمق وهو أن فكرة الصلح عند الحسن (عليه السلام) تقوم على اساس فصل السلطات الثلاث بعضها عن بعض ، سلطة التشريع وسلطة القضاء وسلطة التنفيذ ، والذي منحه لمعاوية بصفته حاكما هو السلطة التنفيذية المقيدة بالكتاب والسنة لا غير .

وهنا لابد من الاشارة إلى أن فصل السلطات الثلاث كان امرا يقتضيه الواقع الذي عاشه الامام الحسن (عليه السلام) واي واقع آخر تكون فيه

«صفحة 102»

السلطة لشخص غير مستوف للشروط الشرعية كما هو الحال في اغلب الدول الاسلامية اليوم ، والا فإن الحاكم حين يكون زمن النبي (صلى الله عليه وآله) او الوصي (عليه السلام) او الفقيه الجامع للشرائط فإنهم أهل للقضاء بل القضاء من شؤونهم ولهم أن يوكلوه إلى نظرائهم او من يطمئنون به أنه يحكم باحكامهم ، وللنبي (صلى الله عليه وآله) فوق ذلك صلاحية التشريع بما لا يتعارض مع تشريع القرآن ، وللوصي (عليه السلام)بما لا يتعارض مع تشريع النبي (صلى الله عليه وآله) .

ولابد من الاشارة أيضا إلى أن الحسن (عليه السلام) حين سلم لمعاوية السلطة التنفيذية وقيدها بشروط احتفظ لنفسه بالامامة الدينية الهادية التي جعلها الله تعالى له هذه الإمامة التي تكون طاعتها طاعة الله ومعصيتها معصية الله ولا تقبل الاعمال الا بها ، وهي شاهدة ورقيبة على الأمة والحاكم معا يبحث عنها المسلم من خلال كتاب الله وسنة نبيه(صلى الله عليه وآله).

اما الإمامة السياسية بصفتها مؤسسة مدنية تدير البلاد وتحافظ على امن المسلمين وحقوقهم ، فهي مؤسسة تتقيد بالقانون، والقانون هنا هو كتاب الله وسنة نبيه (صلى الله عليه وآله)التي امنت بها الأمة منهاجا وقانونا في الحكم، ومن هنا كانت الأمة رقيبة على الحاكم دون الإمامة الالهية الهادية . (1)

إن هذا الفصل بين السلطات يكون ضروريا حين تفرض الظروف

ـــــــــــــــــــــــ

(1) ومع ذلك فإن امير المؤمنين (عليه السلام)حين تصدى للحكم دعا الأمة إلى مراقبته ليؤسس صفة مراقبة الأمة للحاكم، قال: (عليه السلام)(انظروا فإن أنكرتم فأنكروا وإن عرفتم فآزروا) ابن أبي الحديد، شرح النهج: ج1/92، في شرح الخطبة 16قال: (وهذه الخطبة من جلائل خطبه (عليه السلام) ومن مشهوراتها، قد رواها الناس كلهم وفيها زيادات حذفها الرضى اما اختصارا أو خوفا من ايحاش السامعين، وقد ذكرها شيخنا أبو عثمان الجاحظ في كتاب البيان والتبيين على وجهها ورواها عن أبي عبيدة معمر بن المثنى قال: أول خطبة خطبها أمير المؤمنين على(عليه السلام) بالمدينة في خلافته…)

«صفحة 103»

السيئة حاكما مثل معاوية، وما اكثرهم في تاريخ الامة-في قبال الحكم الجائر الذي يعرض الحاكم فيه نفسه قائدا إلى الله تعالى وخليفة عنه طاعته طاعة الله ومعصيته معصية الله ، وإن التدين هو طاعة الخليفة ، وهذا ما قامت عليه دولة عثمان وسلفيه وحاول معاوية ان يستعيدها في الشام وطلب المصالحة لتكريسه الصلح عليه يكون فيه الحاكم بما هو حاكم مشرعا في الدين وطاعته طاعه الله ومعصيته معصية الله .

5 . الفتح المبين بظهور باطل معاوية وكذبه وظهور حق علي (عليه السلام) وصدقه لدى أهل الشام:

اعلن معاوية عن قبوله لشروط الحسن (عليه السلام) ومن ثم كان (الفتح المبين) في الشام بظهور بطلان اطروحة معاوية وكذب اعلامه وظهور ظلامة علي (عليه السلام)وحقانيته واختلاط العراقيين بالشاميين في الشام وموسم الحج ليشهدوا حقائق غيبها الاعلام القرشي عنهم .

فها هو معاوية بنفسه يترحم على علي (عليه السلام) حين يسمع وصفه من شيعة علي(عليه السلام)ويقرهم عليه.

وها هم يسمعون من اصحاب النبي (صلى الله عليه وآله) احاديثه في أهل بيته (عليهم السلام) التي تؤسس امامتهم الدينية .

وها هو تاريخ معاوية وابيه في حرب الاسلام عشرين سنة يصدون عنه .

وها هي سيرة الشيخين في متعة الحج ومتعة النساء وفي غيرها

«صفحة 104»

تخالف ما امر به الله ورسوله (صلى الله عليه وآله).

وها هو علي (عليه السلام) يحيي سنة النبي (صلى الله عليه وآله) ولا يسمع لقول الخليفة عثمان ينهى عنها وفق سيرة الشيخين وما بدا له فيها من راي جديد ،

وها هي حربا الجمل وصفين قد اضرمتها قريش المسلمة ضد مشروعه الإحيائي للسنة طلبا للملك وتكريسا لامامة قريش.

وها هو علي (عليه السلام) يرفض الملك حين يشترط عليه العمل بخلاف سنة النبي (صلى الله عليه وآله).

وها هو الحسن (عليه السلام) يسلم الملك بشرط عدم العمل بسيرة الشيخين وفرض ذكر أبيه (عليه السلام)بخير .

وها هو الحسن (عليه السلام) يحيي سيرة أبيه (عليه السلام)علما وعبادة وزهدا وسلوكا ، تبين للناس خلال السنوات العشر التي عاشروه فيها كما وصفه حفيده الامام الصادق (عليه السلام) .

ووصلهم وصف ضرار لعلي (عليه السلام)بل سمعوه منه في بلاط معاوية حين طلب منه أن يصف عليا (عليه السلام) واصر عليه فنهض قائلاً :

(كان علي واللهِ بعيدَ المدى، شديدَ القِوى، يقول فصلاً، ويحكم عدلا، يتفجَّرُ العلمُ من جوانِبِه، وتنطِقُ الحِكمَةُ من نواحيه، يستوحشُ من الدنيا وزَهرتها، ويأنسُ بالليلِ ووحشتِه، غزيرَ العَبرة، طويلَ الفكرة، يُعجِبُه من اللِّباس ما قَصُر، ومن الطعام ما خَشُن.
كان فينا كأحِدِنا، يجيبُنا إذا سألناه، وينبئُنا إذا استفتيناه، ونحن واللهِ مع تقريبِه إيانا وقُربِه منّا لا نكاد نكلِّمه هيبةً له، يعظِّم أهلَ الدين ويُقرِّب المساكين، لا يطمع القَويُّ في باطله، ولا ييئَسُ الضعيفُ من عدله،

«صفحة 105»

وأشهدُ لقد رأيتُه في بعض مواقفه، وقد أرخى الليلُ سدولَه، وغارت نجومَه، قابضاً على لحيته، يتململُ تململَ السَّليم، ويبكي بكاء الحزين، ويقول: يا دنيا غُرِّي غيري، أبي تَعرضَّتِ أمْ إليَّ تَشوَّفتِ، هيهات هيهات قد باينتُك ثلاثاً لا رجعة لي فيها ، فعُمرك قصير وخطرك حقير، آه من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق).

وشهدوا من معاوية بعد هذا الوصف نزف دموعه على لحيته وقوله: (رحم الله أبا حسن كان والله كذلك).

وسمعوا جواب ضرار حين سأله معاوية : عن مدى حزنه على علي (عليه السلام)، قال : (حزن من ذبح ولدها في حجرها). (1)

وشهد الناس للحسن (عليه السلام) في سيرته الشخصية إماماً أيضا على سمت أبيه (عليه السلام):

وشهد الناس خلال هذه السنوات العشر من ولده الحسن (عليه السلام) أيضا إماماً هادياً على سمت أبيه وعرفوا عنه أنه حج خمسة عشرة وفي رواية خمسة وعشرين حجة ماشياً والنجائب تقاد بين يديه . (2)

وهذا حفيده من ابنته الإمام الصادق (عليه السلام) يصف عبادة جده

ـــــــــــــــــــــــ

(1) قال ابن أبي الحديد، شرح النهج: ج81/22 بعد أن اورد وصف ضرارا : إن الرياشي روى خبره ، ونقلته أنا من كتاب عبد الله بن إسماعيل بن أحمد الحلبي في التذييل على نهج البلاغه ص225.

(2) قال عبد الله بن العباس رضوان الله عليه: (ما ندمت علي شيء فاتني في شبابي إلا أني لم أحج ماشيا، ولقد حج الحسن بن علي خمسة وعشرين حجة ماشيا وإن النجائب لتقاد معه). المجموع للنووي ج7/91 ، وفي رواية علي بن زيد بن جدعان قال: (حج الحسن خمسة عشرة حجة ماشيا). (تاريخ دمشق 13/243) .

«صفحة 106»

الحسن (عليه السلام)، قال: (حدثني أبي عن أبيه أن الحسن بن علي أبن أبي طالب(عليهم السلام): كان أعبد الناس في زمانه ، وأزهدهم وأفضلهم.

وكان إذا حج حج ماشيا ، وربما مشى حافيا .

وكان إذا ذكر الموت بكى ، وإذا ذكر القبر بكى ، وإذا ذكر البعث والنشور بكى ، وإذا ذكر الممر على الصراط بكى ، وإذا ذكر العرض على الله تعالى ذكره شهق شهقة يغشى عليه منها.

وكان إذا قام في صلاته ترتعد فرائصه بين يدي ربه عز وجل.

وكان إذا ذكر الجنة والنار اضطرب اضطراب السليم ، وسأل الله تعالى الجنة ، وتعوذ به من النار .

وكان لا يقرأ من كتاب الله عز وجل : (يا أيها الذين آمنوا) إلا قال : لبيك اللهم لبيك ، ولم ير في شيء من أحواله إلا ذاكرا لله سبحانه .

وكان أصدق الناس لهجة ، وأفصحهم منطقا). (1)

انتشار سنة النبي (صلى الله عليه وآله) لدى أهل البلاد المفتوحة شرقاً وغرباً بفضل مشروع علي (صلى الله عليه وآله) وصلح الحسن (عليه السلام) :

وهكذا انتشرت ثقافة الولاء لأهل البيت (عليهم السلام) التي أسسها الكتاب والسنة في مسلمة الفتوح في أهل الشام ، ومن ثم تجانست ثقافتهم مع مسلمة الفتوح في الشرق وعادوا أمة واحدة في الواقع السياسي تحكمهم دولة واحدة هي دولة الكتاب والسنة فقط من دون اجتهادات الخليفتين وعلى مستوى واحد من المعرفة بحديث الغدير وحديث

ـــــــــــــــــــــــ

(1) الصدوق، الأمالي: ص244 .

«صفحة 107»

الثقلين وحديث المنزلة وغيرها من النصوص التي تؤسس الأمامة الإلهية لأهل البيت (عليهم السلام) وأولهم علي (عليه السلام) أخذ بها من شاء وتركها من شاء ، شأنهم شأن المعاصرين للنبي (صلى الله عليه وآله) عملاً بقاعدة ﴿ لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾ البقرة: 256 التي أسسها القرآن في المعتقد.

وكانت الفترة التي استغرقتها نهضة علي (عليه السلام) من أيام الحج سنة 27 هجرية إلى وفاة ولده الحسن (عليه السلام) مسموماً نهاية سنة 50 هـ لإحياء سنة النبي (صلى الله عليه وآله) ونشرها كثقافة في الأمة الإسلامية ثلاث وعشرين سنة، وهي نظير الفترة التي استغرقتها مهمة نشر احكام الاسلام وعقيدته منذ بعثة النبي (صلى الله عليه وآله) إلى يوم الثامن عشر من ذي الحجة يوم بلغ النبي (صلى الله عليه وآله) أمته في غدير خم بولاية علي (عليه السلام) الإلهية.

وكانت السنوات من سنة 41 هجرية إلى سنة 50 هجرية من اروع سنوات الأمة الاسلامية على الاطلاق بعد سنوات النبي (صلى الله عليه وآله) في المدينة وسنوات علي (عليه السلام) حين بويع، حيث الامان والحرية في التعبد والتعبير عن المعتقد .

اما أهل العراق فقد تاكد لديهم من تجربة الصلح لعشر سنوات عمق حكمة الحسن (عليه السلام) حين راوا اثارها وحين راوا منه ما لم يشهدوا نظيره من اتباع ولد لابويه باحسان فقد وظف الحسن (عليه السلام) الملكَ الذي بيده لخدمة مشروع أبيه وجده وهما بعضهما من بعض فصار بذلك هو منهما وعلى نهجهما ، إن صلح الحسن (عليه السلام) بتسليمه الملك المستقر لمعاوية وقد اقره عليه هو اكبر شهادة على رسالية الحسن (عليه السلام)وأنه من ابويه وهو منهما رساليا (ذرية بعضها من بعض) .

«صفحة 108»

«صفحة 109»

الفصل الرابع ـ مسار ثقافة الأمة المسلمة لخمسين سنة من تأسيسها

«صفحة 110»

ثقافة التاسيس النبوي تقوم على ولاية الله (جل جلاله) وولاية رسوله (صلى الله عليه وآله)ووولاية أهل بيته (عليهم السلام)، وأولهم علي والهدم القرآني لامامة قريش الدينية المشركة وامامة أهل الكتاب .

ثقافة الانقلاب القرشي الأول 11 إلى 27 هجرية تقوم على أن الإمامة الدينية والسياسية بعد النبي (صلى الله عليه وآله) في بطون قريش والانفتاح المطلق على ثقافة أهل الكتاب المحرفة على أن العرب لن تعرف هذا الامر في غير قريش)، وقد تحقق ذلك من بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) في صفر سنة 11ه‍ إلى مقتل عثمان في 18ذي الحجة سنة 35ه‍ ، أي: مدة ربع قرن كاملة وقد فُتحت البلاد شرقا وغربا على هذه الثقافة ولم تسمح السلطة لغيرها بـ الظهور على الساحة والتداول العلني .

ثقافة نهضة علي (عليه السلام): تقوم على العودة إلى الكتاب والسنة والتعددية المذهبية «ما كنت لادع سنة رسول الله (صلى الله عليه وآله) لقول احد من الناس»، وقد تحقق ذلك بوضوح في النصف الشرقي من البلاد الاسلامية في عهد حكم علي (عليه السلام) مدة خمس سنوات إلا ثلاثة شهور من 18ذي الحجة إلى 7 صفر او ربيع الأول سنة 50 هجرية سنة وفاة الامام الحسن (عليه السلام)ثم انفتح النصف الغربي من سنة 41 ه‍ بعد الصلح كما سياتي.

ثقافة انشقاق معاوية تقوم على أساس الكذب على الله ورسوله(صلى الله عليه وآله)

«صفحة 111»

بان عليا (عليه السلام)ملحد في الدين يجب لعنه وقتاله، وقد تحقق ذلك مدة خمس سنوات في عهد علي (عليه السلام)مدة الانشقاق على علي (عليه السلام) والحرب ضده .

ثقافة صلح الحسن (عليه السلام) وسعت من رقعة ثقافة نهضة علي (عليه السلام) وهي العودة إلى الكتاب والسنة فقط ونشر سيرة علي (عليه السلام) في العراق، وقد تحقق ذلك مدة عشر سنوات من سنة 41 هجرية سنة الصلح إلى سنة 50 هجرية سنة وفاة الامام الحسن (عليه السلام) .

ثقافة الانقلاب القرشي الثاني بقيادة معاوية وهي ثقافة الكذب على الله وعلى رسوله (صلى الله عليه وآله)؛ كتاب الله وطاعة خليفة الله من بني أمية ولعن علي (عليه السلام) بصفته ملحدا في الدين ووضع روايات كذب في ذلك وارهاب شيعة علي (عليه السلام)بكل وسيلة في شرق الأرض وغربها وعدم السماح للرأي الآخر بالظهور العلني بل معاقبة من يعرف عنه ذلك او يتهم به.

ثقافة النهضة الحسينية والشهادة الحسينية هي العودة إلى ثقافة مشروع علي (عليه السلام)والحسن (عليه السلام)وأعادت للعراقيين حريتهم في اظهار ولائهم لعلي (عليه السلام)وعنهم انتشر المشروع من جديد في العالم وبقيت الشام في قبال ذلك على ثقافة معاوية الا في فترات وفي اماكن محدودة منها جبل عامل في لبنان .

وفي الآتي شرح مختصر لهذه النقاط الثمانية.

«صفحة 112»

1 . ثقافة المجتمع الإسلامي
من البعثة (13 ق . هـ) إلى سنة 10 هـ:

أسس النبي (صلى الله عليه وآله) المجتمع الإسلامي على نفي عبادة الأصنام وهدم امامة قريش الدينية ونسخ قراءة التوراة للثواب وهدم امامة أهل الكتاب الدينية وقبول قصصهم عن الأنبياء (عليهم السلام)بعد عرضها على القرآن الكريم والسنة ، واثبات عبادة الله تعالى والتعبد بتلاوة القرآن الكريم وإطاعة النبي (صلى الله عليه وآله)فيما يبينه من سنته وإطاعة أهل بيته (عليهم السلام) أولهم على (عليه السلام) فيما يبينونه من سنة النبي(صلى الله عليه وآله).

ارجع مقام إبراهيم (عليه السلام)إلى مكانه الأول ملاصقا لجدار الكعبة.

هدم البدع التي أدخلتها قريش في الجاهلية ، وادخل العمرة في الحج إلى الأبد .

ساوى بين الناس في العطاء وساواهم في الفروج فالمؤمن كفء المؤمنة .

نهاهم عن الجماعة في صلاة التطوع في شهر رمضان .

جاءهم بالأذان وفيه فصل حي على خير العمل .

أمرهم بتدوين الحديث لما سالوه وقال لهم يخرج من فيه (فمه) الا الحق .

أمرهم بنشر سنته بقوله (رحم الله من بلغ عني، فرب حامل فقه إلى من هو افقه) .

«صفحة 113»

نهاهم عن قراءة التوراة واسفارها للتثقف بها وقال لهم : (امتهوكون انتم، والله لو كان موسى حيا لما وسعه إلا أن يتبعني).

اوصاهم بالقرآن الكريم وباهل بيته (عليهم السلام)، وامرهم بان يتولو عليا (عليه السلام)والائمة من ولده (عليهم السلام)كتوليهم له .

2 . ثقافة الانقلاب القرشي الأول
من سنة 11 هـ إلى سنة 35 هـ:

انقلبت قريش المسلمة على علي (عليه السلام) تحت شعار (إن العرب لاتعرف هذا الامر في غير قريش، وأقصت عليا (عليه السلام) عن موقعه الذي نصبه الله تعالى فيه علما للناس ، وادعت لنفسها خلافة النبي (صلى الله عليه وآله) في الإمامة الدينية .

فنهت عن رواية سنة النبي (صلى الله عليه وآله) واحرقت ما كتبه الصحابة منها زمن النبي (صلى الله عليه وآله) وبعده وما استنسخه البعض عنها.

ونهت عن عمرة التمتع (متعة الحج) التي شرعها الله في كتابه وبين النبي (صلى الله عليه وآله) أحكامها.

ونهت عن سنن أخرى…

وأرجعت مقام إبراهيم (عليه السلام) إلى مكانه في الجاهلية .

وابتدعت بدعا في الدين فأمرت بصلاة النافلة جماعة (صلاة التراويح) وقد نهى النبي (صلى الله عليه وآله) عنها.

وأمروا بالتكتف في الصلاة.

واسقطوا «حي على خير العمل» من الأذان ووضع محلها الصلاة

«صفحة 114»

خير من النوم.

وفاضلوا في العطاء، وفاضلوا في الفروج ففضلوا قريشا على غيرهم والعرب على العجم .

وفسحوا المجال لعلماء مسلمة أهل الكتاب – كعب الأحبار وتميم الداري وعبد الله بن سلام – أن ينشروا قصص التوراة المحرفة في الخلق كخلق ادم (عليه السلام)على صورة الله جل وعلا ، وسير الأنبياء (عليهم السلام)كقصة ملك الموت مع موسى (عليه السلام)، وقصة داود (عليه السلام)مع اوريا، وغيرها مما ادخل عقيدة التجسيم في الله وشوهت تنزيه الأنبياء (عليهم السلام).

3 . ثقافة مشروع نهضة علي (عليه السلام) في ذي القعدة سنة 27هـ إلى شهر رمضان سنة 40 هـ العودة إلى الكتاب والسنة والتعددية المذهبية تحت شعار (ما كنت لادع سنة رسول الله (صلى الله عليه وآله)لقول احد من الناس):

نهض علي (عليه السلام) في ذي القعدة سنة 27هجرية لإعادة ثقافة الكتاب والسنة تحت شعار «ما كنت لأدع سنة رسول الله (صلى الله عليه وآله)لقول احد من الناس» بادئا بمتعة الحج التي منعت منها الخلافة القرشية ونشر احاديث النبي (صلى الله عليه وآله) فيه وفي أهل بيته (عليهم السلام)، ونصره في مشروعه ابو ذر وعمار ومقداد والأنصار ومالك الاشتر، واستضعفت دولة عثمان الناهضين مع علي (عليه السلام)نفيا وسجنا، ولما قتلت قريش المنشقة عثمان بايعت الجماهير عليا (عليه السلام) ليواصل مشروعه الإحيائي للسنة.

ومنع علي (عليه السلام)من تداول روايات كعب الأحبار في قصة داود

«صفحة 115»

(عليه السلام) وغيرها.

وشجع الناس على تداول احاديث النبي (صلى الله عليه وآله) وكتابتها عنه وعن غيره من حملتها

واحيا التسوية في العطاء والتكافؤ في الفروج .

وحاول منع الناس في الكوفة في أيامه الأولى من إقامة صلاة التراويح فلم يستجيبوا له فكان الامر يدور بين أن يستعمل سلطة الحكم كما استخدمها الخلفاء من قريش في فرض آرائهم او يترك الناس واختيارهم وهذا هو الذي اختاره ، فأحيا ظاهرة التعددية في العبادة التي أسسها رسول الله (صلى الله عليه وآله) فإنه حين قصد مكة ليفتحها في شهر رمضان افطر في المسير وبقي بعض أصحابه صائمين وقد اجهدهم العطش ولم يستخدم القوة كحاكم ليجبرهم على الإفطار بل اكتفى بقوله : (أولئك هم العصاة).

وترك مقام إبراهيم (عليه السلام)على حاله لأنه يعلم أن أهل مكة قاطبة سوف لن يطيعوه ، فتركه لولده المهدي (عليه السلام) عند ظهوره في آخر الزمان .

4 . ثقافة أهل الشام أيام علي (عليه السلام)
من سنة 35 هـ إلى سنة40 هـ :

حجز معاوية أهل الشام عن التأثر بمشروع علي (عليه السلام) الإحيائي للسنة او التعرف على اخبار سيرته الصحيحة من خلال الحرب والإعلام الكاذب ، فازدادوا جهلا بعلي (عليه السلام) ، فهم ليسوا فقط لا

«صفحة 116»

يعرفون موقع علي (عليه السلام) في الإسلام ولا احاديث النبي (صلى الله عليه وآله) فيه بل هم في هذه السنوات ومن خلال قصص القصاصين كانوا يتلقون قصصا كاذبة في حق علي (عليه السلام) ، فهو لا يصلي ، وأنه سرق والنبي (صلى الله عليه وآله) قطع يده ، وأن النبي (صلى الله عليه وآله) قال فيه وفي أبيه (إن ال بي طالب ليسوا لي بأولياء) ، وان دم عثمان عنده وإنه افسد في دين محمد (صلى الله عليه وآله) ، من ثم فهم يلعنونه ويستحلون قتله، ويبغضون أهل العراق لانهم أنضار علي (عليه السلام) على افساده في الدين ، والى جانب ذلك فهو يدينون بامامة قريش المسلمة وان دين محمد (صلى الله عليه وآله) يؤخذ منها ، وان طاعة الخليفة تقرب إلى الله تعالى وان معصيته تبعد عنه، وان ثقافة الاسلام عن الأنبياء السابقين هو ما بثه كعب الاحبار وتميم الداري .

5 . ثقافة أهل الشام
من سنة 41 هـ إلى سنة50 هـ :

تغيرت رؤية أهل الشام عن الحسن وابيه علي (عليهما السلام)والعراقيين فإنهم ما كانوا يتوقعون هذه الشفافية التي يتمتع بها الحسن (عليه السلام) وأهل العراق حين قدموا اختيار أهل الشام على أهل العراق لمعالجة اكبر أزمة عاشتها الأمة المسلمة ، وحين عرفوا الشروط التي اشترطها الحسن (عليه السلام) قد ضمنت مصالح أهل العراق ولم تمس مصالح أهل الشام بشيء.

ثم حصلت المفاجأة الكبرى لهم حين عرفوا أن معاوية وافق على الحكم بكتاب الله وسنة النبي (صلى الله عليه وآله) من دون سيرة الشيخين لأنها

«صفحة 117»

اجتهادات شخصية.

وأن عليا (عليه السلام) كان قد عرض عليه الملك في الشورى السداسية قبل عثمان فرفضها لأنها ليست من الدين وقبلها عثمان.

وحين عرفوا أن الذي ثار على عثمان هم قريش المسلمة طلحة والزبير وعائشة وعبد الرحمن بن عوف وعمرو بن العاص وأن عليا (عليه السلام) بريء من دم عثمان ، فأدركوا أن عليا (عليه السلام)قد ظلمه معاوية وأنهم ظلموا أهل العراق بقتالهم إياهم .

وكانت المفاجأة اكبر حين عرفوا أن النبي (صلى الله عليه وآله) قد اوصى إلى علي (عليه السلام) ، وأنه الامام الهادي بعد النبي (صلى الله عليه وآله) ، ولم يكن ذلك قائما على مجرد اخبار من العراقيين بل هم يشهدون ذلك في حوارات يومية او ينقلها لهم رؤساؤهم عند معاوية .

لقد اتضح لاهل الشام بما لا يكون معه شك سواء من خلال وفود العراقيين إلى الشام الذين كان معاوية يستضيفهم ويكرمهم ، او من خلال اختلاطهم معهم في موسم الحج والعمرة ، إن الحج له صيغتان والصلاة لها صيغتان والوضوء له صيغتان ، صيغة جاء بها النبي (صلى الله عليه وآله) وصيغة اجتهادية من الخلفاء ، ولكن الالفة والعادة جعلتهم يبقون على ما تربوا عليه سابقا وقاعدة (الانسان على ما عُوِّدَ) (والناس على دين ملوكهم) (1) . فإن معاوية كشخص بقي يتعبد على طريقة سلفه عثمان ،

ـــــــــــــــــــــــ

(1) روى احمد بن حنبل في المسند: ج2/95، عن ابن شهاب عن سالم قال: (كان عبد الله بن عمر يفتى بالذي أنزل الله عز وجل من الرخصة بالتمتع وسن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه فيقول ناس لابن عمر كيف تخالف أباك وقد نهى عن ذلك فيقول لهم عبد الله ويلكم ألا تتقون الله إن كان عمر نهى عن ذلك فيبتغي فيه الخير يلتمس به تمام العمرة فلم تحرمون ذلك وقد أحله الله وعمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن تتبعوا سنته أم سنة عمر).

«صفحة 118»

وقد استمرت هذه اللقاءات والمعايشة مدة عشر سنوات ثم انتهت كحلم ليعودوا إلى ثقافتهم السابقة في لعن علي (عليه السلام) وتولي معاوية وبني أمية واسلافهم بعد وفاة الحسن (عليه السلام)وغدر صاحبهم .

6 . ثقافة الأمة على عهد الدولة الأموية
من سنة 51 هـ إلى سنة 132 هـ (81 سنة):

لم يَرُق لمعاوية أن يتعرف أهل الشام على علي (عليه السلام) وعظيم موقعه في دين إبراهيم (عليه السلام)في الجاهلية والإسلام ، وعلى تاريخه وتاريخ أهل بيته في الجاهلية والإسلام قبل الفتح ، وأنهم طلقاء رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وكيف لطليق أن يساوي عليا (عليه السلام) وله من النبي (صلى الله عليه وآله) (موقع ومنزلة هارون من موسى (عليه السلام)) التي يقرؤونها في القرآن الكريم ويسمعون ما يصدقها من الصحابة الذين يروون تاريخ علي (عليه السلام) ، فقرر معاوية دفن ذلك وتأسيس تاريخ جديد له ولأهل بيته ولعلي (عليه السلام) وأهل بيته (عليهم السلام) قوامه الكذب وانتحال ما لعلي (عليه السلام) من سابقة وجعلها له ولأهل بيته وللخلفاء من قريش مما يسوغ ولايتهم والترحم عليهم والافتراء على علي (عليه السلام) وأهل بيته (عليهم السلام)ما يسوغ لعنهم ومعاداتهم ليس فقط في الشام بل في الأمة كلها، وشعاره في ذلك (لا والله الا دفنا دفنا)(1)، وهكذا

ـــــــــــــــــــــــ

(1) قال المسعودي في مروج الذهب: ج3/455: (وفي سنة اثنتي عشرة ومائتين نادى منادي المأمون : برئت الذمة من احد من الناس ذكر معاوية بخير او قدمه على احد من اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتكلم في أشياء من التلاوة انها مخلوقة وغير ذلك ، وتنازع الناس في السبب الذي من أجله أَمر بالنداء في أمر معاوية ، فقيل في ذلك أقاويل : منها أن بعض سُمّاره حدث بحديث عن مطرف بن المغيرة بن شعبة الثقفي ، وقد ذكر هذا الخبر الزبير بن بكار في كتابه الاخبار المعروف بالموفقيات التي صنفها للموفق ، وهو ابن الزبير ، قال : سمعت المدائني يقول : قال مطرف بن المغيرة بن شعبة : وَفَدْتُ مع أبي المغيرة إلى معاوية ، فكان أبي يأتيه يتحدث عنده ثم ينصرف إليَّ فيذكر معاوية ويذكر عقله ويعجب مما يرى منه ، إذ جاء ذات ليلة فأمسك عن العشاء ، فرأيته مغتما ، فانتظرته ساعة ، وظننت أنه لشيء حدث فينا أو في عملنا ، فقلت له : ما لي أراك مغتما منذ الليلة ؟ قال : يا بني ، إني جئت من عند أخبث الناس ، قلت له : وما ذاك ؟ قال : قلت له وقد خلوت به : إنك قد بلغت منا يا أمير المؤمنين ، فلو أظهرت عدْلًا وبسطت خيراً فإنك قد كبرت ، ولو نظرت إلى إخوتك من بني هاشم فوصلت أرحامهم فو الله ما عندهم اليوم شيء تخافه ، فقال لي : هيهات هيهات! مَلكَ أخو تيمٍ فعدل وفعل ما فعل ، فو الله ما عدا ان هلك فهلك ذكره ، إلا أن يقول قائل : أبو بكر ، ثم ملك أخو عَدِيٍ ، فاجتهد وشمر عشر سنين ، فو الله ما عدا أن هلك فهلك ذكره، إلا أن يقول قائل : عمر ، ثم ملك أخونا عثمان فملك رجلٌ لم يكن أحد في مثل نسبه ، فعمل ما عمل وعمل به فو الله ما عدا أن هلك فهلك ذكره ، وذكر ما فعلَ به ، وإن أخا هاشم يُصْرَخُ به في كل يوم خمس مرات : أشهد أن محمداً رسول الله ، فأي عمل يبقى مع هذا ؟ لا أمَّ لك ، والله إلا دفنا دفنا ، وإن المأمون لما سمع هذا الخبر بعثه ذلك على أن أمر بالنداء على حسب ما وصفنا ، وانشئت الكتب إلى الآفاق بلعنه على المنابر ، فأعظَم الناسُ ذلك وأكبروه ، واضطربت العامة منه فأشير عليه بترك ذلك ، فأعرض عما كان هَمَّ به).

قال العلامة المجلسي في البحار: ج33/170 في شرح قوله (والله إلا دفنا دفنا) : (أي أقتلهم وأدفنهم دفنا ، أو أدفن وأخفي ذكرهم وفضائلهم وهو أظهر). أقول: بل أراد الامرين معا كما في قول امير المؤمنين (عليه السلام): (والله لود معاوية أنه ما بقي من بني هاشم نافخ ضرعه إلا طعن في بطنه إطفاء لنور الله ، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون) مروج الذهب تحقيق محمد محيي الدين: ج3 / 19 ، ط. يوسف اسعد .

«صفحة 119»

كان أمره حين كتب إلى عماله في الأمصار .

قال المدائني : (كتب معاوية إلى قضاته وولاته في الأمصار أن لا

«صفحة 120»

يجيزوا لاحد من شيعة علي الذين يروون فضله ويتحدثون بمناقبه شهادة . ثم كتب أيضا : (انظروا من قامت عليه البينة أنه يحب علياً وأهل بيته فامحوه من الديوان). ثم كتب كتابا آخر من اتهمتموه ولم تقم عليه بينة فاقتلوه ! . ثم كتب : (أن برئت الذمَّة ممَّن روى شيئاً من فضل أبي تراب وأهل بيته) ثم كتب إلى عُمَّاله : (إنَّ الحديث في عثمان قد كَثُر وفَشا في كل مِصر وفي كل وجه وناحية فإذا جاءكم كتابي هذا فادعوا الناس إلى الرواية في فضائل الصحابة والخلفاء الأوّلين ولا تتركوا خبراً يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب إلاَّ وتأتوني بمناقض له في الصحابة فإنَّ هذا أحبُّ إلىَّ وأقرُّ لعيني وأدحض لِحُجَّة أبي تراب وشيعته وأشدُّ عليهم من مناقب عثمان وفضله) . فقُرئت كتبه على الناس فرُويت أخبار كثيرة في مناقب الصحابة مفتعلة لا حقيقة لها ، حتى انتقلت تلك الأخبار والأحاديث إلى أيدي الديانين الذين لا يستحلون الكذب والبهتان فقبلوها ورووها وهم يظنون إنها حق ، ولو علموا إنها باطلة لما رووها ولا تدينوا بها(1) ، وتربى على ذلك الجيل الجديد من المسلمين شرق الأرض وغربها الا من رحم ربك .

7 . شهادة الحسين (عليه السلام) وظلامته تفتح الطريق لثقافة مشروع علي (عليه السلام) سنة 61 هـ:

أقام الحسين (عليه السلام) سنة 58هـ قبل موت معاوية بسنتين مؤتمرا فكريا سريا لشيعة علي (عليه السلام) من الصحابة والتابعين وحثهم على العمل خفية

ـــــــــــــــــــــــ

(1) ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة: ج11/4546

«صفحة 121»

لنشر ثقافة مشروع علي (عليه السلام)في الكوفة والبصرة ، ثم نهض بعد موت معاوية ليعلن عنها ويحث الأمة على القيام ضد بني أمية واستشهد في سبيل ذلك ، ثم استطاع سليمان بن صرد والمختار ان يؤسسا دولة في الكوفة على نهج علي (عليه السلام)ومن ثم عادت ثقافة مشروع علي (عليه السلام) في الكوفة وحاول الزبيريون بعد قتل المختار ومن بعدهم الحجاج والي عبد الملك ان يستأصلوا هذه الثقافة وحَملتها من الكوفة فلم يستطيعوا، وفي عهد عمر بن العزيز وبعده أتيح المجال للأمام الباقر (عليه السلام) ثم الامام الصادق (عليه السلام) أن ينهضا بتربية الجيل الجديد من الشيعة على ثقافة مشروع علي (عليه السلام) من خلال ما لديهم من المواريث النبوية التي كتبها علي (عليه السلام) بخط يده سرا ثم انطلق المشروع علنا بعد سقوط الأمويين ومجيء بني العباس وعمل العباسيون على محاصرة الكوفة بصفتها مركزا لنشر ثقافة مشروع علي (عليه السلام) الإحيائي للسنة وبعد انتهاء ملكهم انطلقت بالمشروع وواقعها اليوم يعبر عن استمرار هذه الانطلاقة وتراكمها وسوف تبقى بحول الله إلى تحقيق الله وعده بظهور وليه واستقراره فيها .

8 . بقيت الشام بعد شهادة الحسين (عليه السلام) مركزا لثقافة المشروع الأموي (تولي معاوية والبراءة من علي (عليه السلام)):

بقيت الشام بعد شهادة الحسين (عليه السلام) مركزا لمشروع الثقافة الأموية شعارها الأساس تولي معاوية والبراءة علي (عليه السلام)حتى بعد سقوط الدولة الأموية وقيام الدولة العباسية يتضح ذلك من خلال محاولة

«صفحة 122»

الامام النسائي (303هـ) هدايتهم (لما سئل عن سبب تصنيف كتابه الخصائص) في فضائل الامام علي (عليه السلام) قال : (دخلت دمشق والمنحرف بها عن علي كثير ، وصنفت كتاب الخصائص رجاء أن يهديهم الله) (1) . ويبدو ان طابعها العام هذا سوف يعلن عن نفسه زمن السفياني في آخر الزمان حين يبعث بغاراته لغزو الكوفة إحياء لأمر السفياني الأول، ولكنه في هذه المرة تبوء كل محاولاته بالفشل ويأبى الله الا أن يتم نوره ويظهر مشروع علي (عليه السلام)في إحياء الكتاب والسنة على المشاريع كلها ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله، نعم لابد من ذكر جبل عامل وهو جزء من الشام في الجغرافية القديمة بقي على التشيع منذ أن زرعه فيه ابو ذر لما نفاه عثمان إلى الشام وواقعه اليوم يعبر عن تراكم الانطلاقة والروايات تبشر ببقائها إلى ظهور الامام المهدي (عليه السلام) .

ـــــــــــــــــــــــ

(1) كان قد خرج من مصر إلى دمشق فسئل عن فضائل معاوية فقال أي شيء أخرّج؟ ما أعرف له من فضيلة إلاّ حديث : (اللّهمّ لا تشبع بطنه) فضربوه في الجامع وداسوا في خصييه (حضنيه) حتى اخرج من الجامع ، ثمّ حمل إلى مكة فمات بها سنة 303 ه‍ ، رواها الذهبي في تذكرة الحفاظ 699 ط بيروت ، وابن خلكان، وفيات الأعيان: ج1/77، المقريزي، المقفى الكبير: ج1/402 ، ابن حجر، تهذيب التهذيب: ج1/33 ترجمة النسائي، وغيرهم .

«صفحة 123»

الفصل الخامس ـ مقارنة بين مراحل سير شروع النبوة ومشروع الإمامة في هداية الأمة

«صفحة 124»

إن مشروع علي والحسن والحسين (عليهم السلام)امتداد لمشروع النبي (صلى الله عليه وآله) وكلا المشروعين بعضهما من بعض ، كان مشروع النبي (صلى الله عليه وآله) بتكليف الهي لإحياء دين إبراهيم (عليه السلام) الذي تصرفت فيه قريش المشركة بتعديل وتبديل بعد وفاة عبد المطلب، وكان مشروع علي (عليه السلام)وولديه الحسنين (عليهم السلام)بتكليف من الله (1)بواسطة رسوله لإحياء سنة النبي (صلى الله عليه وآله)التي

ـــــــــــــــــــــــ

(1) الفيض الكاشاني، الوافي عن الكافي: 1/279 ، محمد والحسين بن محمد عن جعفر بن محمد عن علي بن الحسين بن علي عن إسماعيل بن مهران عن أبي جميلة عن معاذ بن كثير عن أبي عبد اللَّه (عليه السلام) قال : (إن الوصية نزلت من السماء على محمد (صلى الله عليه وآله) كتابا، لم ينزل على محمد (صلى الله عليه وآله) كتاب مختوم إلا الوصية، فقال جبرئيل (عليه السلام) يا محمد هذه وصيتك في أمتك عند أهل بيتك … وكان عليها خواتيم، قال ففتح علي (عليه السلام)الخاتم الأول ومضى لما فيها ثم فتح الحسن (عليه السلام) الخاتم الثاني ومضى لما أمر به فيها، فلما توفي الحسن (عليه السلام)ومضى فتح الحسين (عليه السلام) الخاتم الثالث فوجد فيها أن قاتل فأقتل وتقتل واخرج بأقوام للشهادة لا شهادة لهم إلا معك، قال: ففعل (عليه السلام) فلما مضى دفعها إلى علي بن الحسين قبل ذلك ففتح الخاتم الرابع فوجد فيها أن اصمت وأطرق لما حجب العلم، فلما توفي ومضى دفعها إلى محمد بن علي (عليه السلام) ففتح الخاتم الخامس فوجد فيها أن فسر كتاب اللَّه وصدق أباك وورث ابنك واصطنع الأمة وقم بحق اللَّه تعالى وقل الحق في الخوف والأمن ولا تخش إلا اللَّه ففعل، ثم دفعها إلى الذي يليه … . 742 – 3 الكافي: 1 /281 / 3 / 1 محمد عن أحمد عن السراد عن ابن رئاب عن ضريس الكناسي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : قال له حمران جعلت فداك أرأيت ما كان من أمر علي والحسن والحسين (عليهم السلام) وخروجهم وقيامهم بدين اللَّه عز وجل وما أصيبوا من قتل الطواغيت إياهم . والظفر بهم حتى قتلوا وغلبوا، فقال أبو جعفر (عليه السلام):(يا حمران إن اللَّه تبارك وتعالى قد كان قدر ذلك عليهم وقضاه وأمضاه وحتمه ثم أجراه ، فبتقدم علم ذلك إليهم من رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله) قام علي والحسن والحسين (عليهم السلام) وبعلم صمت من صمت منا » .

«صفحة 125»

تصرفت فيها قريش المسلمة بتعديل وتبديل بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) .

وقد مر مشروع تبليغ الرسالة على يد النبي (صلى الله عليه وآله) بمراحل :

الأولى: مرحلة الصدع والإعلان عن مشروع الرسالة .

الثانية: مرحلة استضعاف قريش المشركة لمن آمن بالرسالة .

الثالثة: مرحلة بيعة الأنصار للنبي (صلى الله عليه وآله) على النصرة.

الرابعة: مرحلة مبادرة قريش بالحرب في بدر واحد ، امتدادها حرب الخندق ودخول طرف آخر هم اليهود في أطراف المدينة .

الخامسة: مرحلة الصلح مع قريش لإنهاء الوضع المتشنج في المنطقة والفتح المبين لمشروع النبوة في مكة .

السادسة: مرحلة غدر قريش ونقضها للعهود .

السابعة: مرحلة فتح مكة لمشروع النبي (صلى الله عليه وآله) إلى الأبد .

وكذلك مشروع علي (عليه السلام) وولديه الحسن والحسين (عليهما السلام):

الأولى: مرحلة الصدع والإعلان عن إحياء حج التمتع .

الثانية: مرحلة استضعاف دولة عثمان لمن آزر عليا (عليه السلام) على مشروعه الإحيائي للسنة .

الثالثة: مرحلة بيعة الأنصار على النصرة بعد أن قتلت قريش المنشقة الخليفة عثمان .

الرابعة: مرحلة مبادرة قريش المسلمة بالحرب ضد علي (عليه السلام)

«صفحة 126»

في الجمل وصفين ثم امتدادها الغارات ودخول طرف ثالث وهم الخوارج في أطراف الكوفة واستشهاد امير المؤمنين (عليه السلام)وقيام ولده الحسن مكانه (عليه السلام).

الخامسة: مرحلة صلح الحسن (عليه السلام)مع معاوية لإنهاء الانشقاق والفتح المبين لمشروع علي (عليه السلام)في الشام .

السادسة: مرحلة نقض العهود من معاوية .

السابعة: مرحلة فتح الطريق لمشروع علي في الأمة ابد الدهر . وهذا الفتح على مرحلتين:

الأولى: الفتح الفكري وظهور سنة النبي (صلى الله عليه وآله) التي كتبها علي (عليه السلام)عن النبي (صلى الله عليه وآله) في قبال التطويق في المجتمع بالكذب واللعن وقد انتهى إلى غير رجعة بسقوط دولة بني أمية وظهور كذبها في علي (عليه السلام)وانطلق الأئمة الثمانية من ذرية الحسين (عليه السلام)ينشرون علم علي (عليه السلام)ويثقفون شيعته به. الثانية: الفتح المادي لإقامة دولة علي (عليه السلام)في الدنيا كلها وهي موكولة إلى ولده المهدي عجل الله فرجه التاسع من ذرية الحسين (عليه السلام) في آخر الزمان .

وفي الآتي جدول مقارن بهذه الخلاصة :

«صفحة 127»

 

مشروع النبي (صلى الله عليه وآله) الرسالي

مشروع علي وولديه الحسن والحسين(عليهم السلام)

1 . الخلفية

بعد وفاة عبد المطلب انتحلت قريش موقع الخلافة السياسية والإمامة الدينية لقصي ولقب ال الله الذي اختص به عبد المطلب تكوينيا بعد حفر زمزم وحادثة الفيل ، وأقرت العرب لها بذلك ، وابتدعت في دين إبراهيم عبادة الأصنام وسدانتها وبدعة الحمس في الحج وأحكامه وحرمة الإتيان بالعمرة في اشهر الحج والطواف بثياب قرشي التي تؤكد الإمامة الدينية لقريش ودانت لها العرب بذلك .

بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) انتحلت قريش المسلمة لقب (خلافة النبي (صلى الله عليه وآله) السياسية والإمامة الدينية) التي خصها القرآن الكريم والنبي (صلى الله عليه وآله) بأهل بيت النبي وأولهم علي ، وأقرت الأنصار لهم بذلك ، وابتدعت في دين محمد (صلى الله عليه وآله) بدعا منها تحريم متعة الحج التي امر بها النبي (صلى الله عليه وآله) والتمييز بالعطاء وجعل التطليقات الثلاث تحصل بمرة واحدة وتغيير مقام إبراهيم ومنعت من تداول تفسير القرآن والاحاديث النبوية التي تؤسس الخلافة السياسية والامامة الدينية لأهل بيته (عليهم السلام)وفسح المجال لنشر قصص ومواعظ التوراة المحرفة التي نهى عنها النبي (صلى الله عليه وآله)وفتحت البلدان وتربى مسلمة الفتوح على ذلك .

2 . الهدف

بعث الله نبيه محمدا (صلى الله عليه وآله) سنة 13ق . ه‍ لإحياء توحيد إبراهيم (عليه السلام) وتحرير بيته من الأصنام ودينه من بدعة الحمس التي ابتدعتها قريش المشركة في الحج وأحكامه وحرمة الإتيان بالعمرة في اشهر الحج وغير ذلك بعد وفاة عبد المطلب وتبليغ القرآن الذي أسس الإمامة الدينية لأهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله)ونشر احاديث النبي (صلى الله عليه وآله)التي أسست الخلافة السياسية لعلي (عليه السلام)فضلا عن إمامته الدينية.

نهض علي (عليه السلام)بوصية من النبي (صلى الله عليه وآله)في ذي القعدة سنة 27ه‍ زمن الخليفة عثمان لإحياء حج التمتع ونشر احاديث النبي (صلى الله عليه وآله)التي تؤسس لإمامة أهل بيته (عليهم السلام)، كحديث الثقلين وحديث الغدير وحديث السفينة وحديث المنزلة وحديث الكساء وغيرها مما كانت الخلافة القرشية قد منعت من نشرها وتداولها علنا بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) .

3 . مراحل السير

   

المرحلة الأولى

المرحلة السرية لإعداد الكادر الذي يحمي النبي (صلى الله عليه وآله)عند اعلان المشروع في مكة وهم بنو هاشم .

المرحلة السرية لإعداد الكادر وهم الصحابة المخلصون الذي اعدهم النبي (صلى الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام)وقد عرفوا زمن النبي بشيعة علي (عليه السلام)كابي ذر وعمار و نظرائهم .

المرحلة الثانية

اعلان المشروع في المجتمع واستضعاف بني هاشم والمسلمين.

اعلان المشروع في المجتمع ونفي أبي ذر إلى الشام ثم إلى الربذة ، ونفي غيره وضرب عمار وغيره .

المرحلة الثالثة

البيعة والنصرة والهجرة إلى المدينة .

البيعة والنصرة والهجرة إلى العراق .

المرحلة الرابعة

المواجهة العسكرية والإعلام الكاذب

فرضت قريش المشركة على النبي (صلى الله عليه وآله) بعد بيعة أهل المدينة له حربين ظالمتين؛ الأولى في بدر وكان النصر فيها للنبي (صلى الله عليه وآله) الثانية في احد وقد خسر فيها بسبب معصية نفر من أصحابه لأمره حين تركوا مواقعهم طمعا في الغنيمة .

أفرزت الحربان إعلاما كاذبا من قريش طوقت النبي (صلى الله عليه وآله) بتهمة انتهاك حرمة البيت الحرام والاعتداء على القوافل التجارية الآمنة لقريش وسفك الدم الحرام في الشهر الحرام .

فرضت قريش المسلمة على علي (عليه السلام) بعد بيعة أهل المدينة له حربين ظالمتين؛ الأولى في البصرة وكان النصر المؤزر فيها له ، الثانية في صفين وقد خسر فيها بسبب معصية قسم من جيشه لأمره في استمرار القتال حين رفع معاوية المصاحف وطلب توقيف القتال .

أفرزت الحربان إعلاما أمويا كاذبا طوَّق عليا (عليه السلام)بتهمة طلب الملك بتلك الحربين وإنه آوى قتلة عثمان واستعان بهم وإنه افسد في الدين .

 

استطاعت قريش المشركة بقيادة أبي سفيان ان تحشد عشرة آلاف مقاتل الأحزاب قصدوا المدينة لإرعاب أهلها ليتخلوا عن محمد (صلى الله عليه وآله) وصمد أهل المدينة وهزمت الأحزاب شر هزيمة وجعلها الله تعالى للنبي (صلى الله عليه وآله) آية وازدادت ثقة المسلمين به.

استطاعت قريش المسلمة بقيادة معاوية بن أبي سفيان ان يحول جيش الشام إلى سرايا تغير على أطراف علي (عليه السلام) لتنهب وتقتل لإرعاب شيعة علي (عليه السلام) ليتخلوا عنه كما استطاعت ان تقتطع مصر عن علي (عليه السلام)وصمد أهل العراق مع علي (عليه السلام).

وخرج الخوارج على علي (عليه السلام)وانتصر عليهم في النهروان وجعلها الله تعالى آية له وازدادت بصيرة أصحابه به.

المرحلة الخامسة

الصلح

كانت القبائل العربية في الجزيرة قد تعاقدت مع هاشم على تامين قوافل قريش بصفتهم سكان البيت الحرام ثم شهدت قصة الفيل وصدقت إعلام قريش بعد عبد المطلب أنها ال الله ، ثم تابع اغلبها قريشا على بدعة الحمس وما أحدثته في أحكام الحج واهمها الطواف بثياب قرشي مما يدل على طهارته وقربه من الله وبظهور النبي (صلى الله عليه وآله)وحرب بدر واحد نجحت في عزل هذه القبائل عن التأثر بمحمد (صلى الله عليه وآله) بكونه قد انتهك حرمة البيت واعتدى على قريش ومن ثم وجب معاونتها في قتاله وكانت حرب الأحزاب، كل ذلك أدي إلى تحجيم مشروعه التبليغي في المدينة وما حولها .

كان أهل الشام بصفتهم مسلمة الفتوح يعتقدون أن معاوية وسلفه الخلفاء ورثة النبوة وأنهم حملوا راية الإسلام للشعوب ودانت هذه الشعوب بسيرة الشيخين ثم تولت عثمان الذي التزم سيرة الشيخين ، ثم جاء الإعلام الأموي ضد علي (عليه السلام) وعبأهم ضده وعزلهم عن الاختلاط بأهل العراق بالحروب ، وبعد شهادة علي (عليه السلام)بايع أهل الشام معاوية على نهج عثمان وبذلك صار معاوية وارثا لخط الخلافة القرشية التي ورثت النبوة في قبال مشروع علي (عليه السلام) الذي عرضه الإعلام الأموي أنه مفسد في الدين قد أوى قتلة عثمان ليستعين بهم في تحقيق الملك الذي يطلبه ومن ثم وجب قتاله ، ما أدى إلى تحجيم مشروعه التبليغي في العراق والبلاد التابعة له مثل مكة واليمن وإيران.

استشهد علي (عليه السلام)وهو يجهز أصحابه لقتال أهل الشام لوضع حد لغاراتهم فبايع أهل العراق الحسن(عليه السلام)على الكتاب والسنة على نهج أبيه(عليه السلام) وبايع أهل الشام معاوية على العمل بسيرة الشيخين على نهج عثمان وبادر معاوية يطلب الصلح من الحسن(عليه السلام) ان يبقى كل على بلده الذي بايعه وحقن الدماء ليؤكد المكاسب التي حققها في الشام ويأخذ نفسه ليعيد الكرة فيما بعد للإجهاز على تجربة علي (عليه السلام).

 

ان النبي (صلى الله عليه وآله) ازاء هذا المعتقد والتعبئة والتطويق للقبائل لصيانتها من التأثر بمشروعه الالهي كان لابد له من عمل يقوم به يؤدي إلى كسر الطوق عن القبائل وفضح قريش لديها بأنها هي المعتدية وان محمدا (صلى الله عليه وآله) يعظم البيت ويطلب السلم وأنه نبي قد بُعث لإحياء دين إبراهيم (عليه السلام)وتحرير الحج من بدع قريش .

إن الحسن (عليه السلام) ازاء مبادرة معاوية في الصلح التي تكرس الانشقاق وتحافظ على جهل أهل الشام بحقيقة الخلافة القرشية وبحقيقة نهضة علي (عليه السلام)، لابد له من مبادرة في قبالها تؤدي إلى معالجة الانشقاق وتفضح معاوية لدى أهل الشام وتكشف عن حقانية علي (عليه السلام)وظلامته وإمامته الإلهية بعد الرسول (صلى الله عليه وآله) وأن سيرته هي عين سيرة النبي (صلى الله عليه وآله) وأن الخلفاء الذين استند اليهم معاوية كانوا قد منعوا نشر سنة النبي (صلى الله عليه وآله)والعمل بها وأن عليا (عليه السلام)قد أحياها بنهضته .

 

ولا يوجد الا عمل واحد يحقق له ذلك وهو المبادرة بالعمرة في اشهر الحج حيث تتوافد القبائل نحو مكة للحج ، وتلبس محمد (صلى الله عليه وآله) وأصحابه بالإحرام يعني أن محمدا (صلى الله عليه وآله)ومن معه جاؤوا مسالمين ، كما أن سوق الهدي معهم يفرض أن يكون النحر في مكة وهو يستلزم الصلح مع أهل مكة لأنها دارهم.

ولا توجد الا صياغة واحدة تحقق للحسن (عليه السلام)ذلك وهي أن يبادر الحسن (عليه السلام)بالتنازل المشروط عن ملك العراق لمعاوية لتكون الأمة واحدة ويختلط أهل العراق بأهل الشام من موقع المحبة والاحترام ، لأن هذه الصيغة سوف تكشف رغبة متناهية عند الحسن (عليه السلام)في تحقيق الصلح ومعالجة الانشقاق حين قدم اختيار أهل الشام على اختبار أهل العراق وحين ربط الحكم والشروط بالكتاب والسنة فقط وحين وافق أهل العراق على صياغة إمامهم .

 

و هذه المبادرة تفضح قريشا المشركة وعلى راسها ابو سفيان عند حلفائها وتظهر حقانية محمد (صلى الله عليه وآله) سواء وافقت على الصلح وسمحت لمحمد (صلى الله عليه وآله)أن يؤدي نسكه أم رفضت الصلح ورفضت ان يدخل النبي (صلى الله عليه وآله) مكة ليؤدي مناسكه

وهذه المبادرة الحسنية تفضح قريشا الأموية وعلى راسها معاوية بن أبي سفيان عند أهل الشام ، وتظهر حقانية علي (عليه السلام)، فهو إن رفضها صار ملوما عند أصحابه وعرفوا انه لم يكن جديا في عرضه الصلح على الحسن(عليه السلام) وانه مصر على الحرب ، وان وافق عليها فانه سوف يفتضح حين يختلط أهل الشام بأهل العراق ويسمعون الحقيقة من إصحاب النبي (صلى الله عليه وآله)فيه وفي علي (عليه السلام)وفي الخلفاء .

 

وافقت قريش على الصلح واشترطت متعسفة أن يرجع محمد (صلى الله عليه وآله) تلك السنة ، ووافق محمد (صلى الله عليه وآله) على شروطها التعسفية وكشف لحلفاء قريش انه مصر على تحقيق الصلح والأمان ، وتحقق لحلفائها أنها كانت تكذب عليهم في محمد (صلى الله عليه وآله) وأنه نبي حق ودعوته حق تدعو كل عاقل إلى تصديقه، وازداد عدد المسلمين إلى أضعاف (الفتح المبين) .

وافق معاوية على أطروحة الحسن(عليه السلام) وعرف أهل الشام الحقيقة في معاوية وفي علي(عليه السلام). إن معاوية يطلب الملك بدليل موافقته عليه بشرط الامن لمن ادعى فيهم انهم قتلة عثمان ، وأن عليا (عليه السلام) لم يكن طالب ملك بدليل انه رفضه لما عرض عليه بشروط تخالف سنة النبي(صلى الله عليه وآله)وعرفوا لما انتشرت فيه احاديث النبي (صلى الله عليه وآله)في حق علي انه الامام الهادي بعده وأن معاوية قد لعنه النبي (صلى الله عليه وآله)ولعن أباه ، وعرفوا أن عليا (عليه السلام) أحيا السنة ولم يفسد في دين محمد (صلى الله عليه وآله) وان الخلفاء قد اخطأوا في سيرتهم وان عليا كان محقا في حروبه الثلاثة وانتشرت احاديث النبي (صلى الله عليه وآله)فيه وفي معاوية في الشام كلها وهو الفتح المبين لعلي (عليه السلام) في الشام .

المرحلة السادسة : الغدر

المبين

نقضت قريش عهودها مع النبي (صلى الله عليه وآله) بعد سنتين ونصرت قبيلة بكر من حلفائها على خزاعة من حلفاء النبي (صلى الله عليه وآله) وسفكت الدم الحرام .

نقض معاوية عهوده مع الحسن (عليه السلام) بعد عشر سنوات وغدر به حين دس له السم وحين اعاد الاعلام الكاذب في علي (عليه السلام)ومنع من ذكر احاديث النبي (صلى الله عليه وآله) فيه ووضع احاديث في ذمه لتسوِّغ لعنه والبراءة منه ووضع احاديث في مدح بني أمية لتسوغ ولايتهم ، وعاقب أهل العراق على ولائهم لعلي (عليه السلام)ومحبته لهم عقوبة لم يجر مثيلها في تاريخ الإسلام ثم عين ولده يزيد خليفة من بعده وأخذ البيعة له بالقهر والقوة .

المرحلة السابعة : الفتح ابد الدهر

فتح النبي (صلى الله عليه وآله) مكة إلى الأبد لمشروعه حين دخل مكة فاتحا وحرر بيت إبراهيم (عليه السلام)من الأصنام ومن بدعة الحمس ليعلن فيها التوحيد والشهادة لمحمد (صلى الله عليه وآله) بالرسالة ابد الدهر وخلف من بعده في امته الكتاب والعترة لا يفترقان ابد الدهر ومن تمسك بهما عصم من الضلالة .

فتح الحسين (عليه السلام) الطريق إلى امامة علي (عليه السلام) في الأمة إلى الأبد بنهضته وشهادته وأهل بيته وأصحابه حين فتح الطريق للثورة على الأمويين وسقوطهم بعد سبعين سنة وسقطت بسقوطهم سياسة لعن علي (عليه السلام) واستقرت احاديث النبي (صلى الله عليه وآله) بحقهم في المجتمع وانطلق مشروعه الإحيائي لسنة النبي (صلى الله عليه وآله) وخلف فيهم التسعة من ذريته (عليهم السلام)ومن أخذ عنهم هدي وعصم من الضلالة .

عدد الزوار: 2٬750

معلومات الاصدار

الناشر: مركز فجر عاشوراء الثقافي

One Response

  1. جزى الله الباخث والمفكر الاسلامي خير جزاء المحسنين وجعلنا الله من المستفيدين من علمة