البحث في أحداث (مقتل عثمان بن عفان) وتحليل أخبار عبد الله بن سبأ (المختلقة) يكشف عن تصورات مؤدلجة لتشويه تاريخ التشيع في بطون كتب التاريخ، ويعكس طبيعة العداوة ضد التشيع في العصرين الأموي والعباسي، وهو ما لا يزال مهيمنًا على الرسائل الجامعية حتى اليوم.
هذه الدراسة تكشف عن منهج توظيف الروايات التاريخية المحرفة ضد التشيع في الاروقة الجامعية، وسوف ترفع الستار عن محاولة الطبري والذهبي في نشر الاكاذيب واعادة الاعتبار للكذابين وتعمد الكُتّاب الاكاديميين المعاصرين اخفاء ذلك.
فهرس المحتويات
- المقدمة
- تعليقنا على الرسالة
- نقد المصدر أهمّ عمل في الدراسة المتخصصة للتاريخ
- منهج العلاّمة العسكري ونتائجه
- منهج رسالة التخصص ونتائجه
- سرّ اعتماد الطبري على روايات سيف
- الوضع الفكري في عصر الطبري
- رأي العامّة في بغداد
- رأي العامّة في دمشق
- عقيدة السلف
- التشيع لعلي عليه السلام بدعة عند السلف
- مدرسة الامام الصادق عليه السلام في عصر الطبري
- عقيدة الطبري في الامامة
- تأريخ الطبري
- رأي الذهبي في أحاديث سيف
- الذهبي من العاذرين معاوية
- العاذِرون معاوية من المحدثين
- ويبقى سيف وضّاعاً
- خلاصة وتعقيب
العراق ـ النجف الأشرف – حي الكرامة
هاتف: 009647728220543
الهوية:
عنوان الإصدار : رسائل جامعية في مواجهة التشيع
تأليف : العلامة المحقق السيد سامي البدري
سنة الإصدار : 2025/1447 ـ رقم (73)
نوع الإصدار : إلكتروني ـ PDF
الناشر : مركز فجر عاشوراء الثقافي
المقدمة
قدّمت رسالة جامعية لنيل درجة متخصص «ماجستير» في التاريخ الإسلامي، من جامعة محمد بن سعود الإسلامية ـ قسم التاريخ بكلية العلوم الاجتماعية ـ تحت عنوان «عبد اللّه بن سبأ وأثره في إحداث الفتنة في صدر الإسلام» تأليف سليمان بن حمد العودة. وهي تبحث في إثبات وجود عبد اللّه بن سبأ، مع إشارة مجملة إلى الصلة بين مقولاته وعقيدة الشيعة، وإلى الصلة بينه وبين فرق الغلوّ في مجتمع المسلمين.
ونظراً لما فيها من خلل في منهج البحث وهنات يمكن غضّ الطرف عن بعضها، وبعضها الآخر لا يغتفر حين يصدر من
موقع البحث العلمي المتخصّص، قُدّمت هذه الدّراسة النقدية لها، ننشرها في قسمين متتاليين.
من يتحمّل مسؤولية الرسائل الجامعية؟!
الفرق بين الرسائل الجامعية والأعمال الفردية يكمن في سعة وضيق تحمُّل مسؤولية البحث، فالعمل الفردي يتحمل مسؤوليته كاتبه لوحده، كما يتحمّل مسؤولية نشره الناشر.
أمّا الرسالة الجامعية فإنَّ الذي يتحمّل مسؤوليتها العلمية ليس الكاتب وحده، بل الأستاذ المشرف ولجنة المناقشة والجامعة نفسها.
ومن هنا فإنّ أي خلل في منهج البحث سوف ينعكس مباشرة علي هؤلاء جميعاً والرسالة موضوع النقد من هذا القبيل.
خلاصة الرسالة
جاء في مقدمة الرسالة تعليقاً على موضوعها: ان الموضوع تناولته الأقلام من شتّى المشارب، فالمستشرقون لم يزهدوا في البحث فيه، واستغلّ بعضهم تلك الأحداث ـ أي أحداث الثورة علي عثمان وحرب الجمل ـ للطعن في الإسلام أو النيل من أعراض الصحابة الكرام، يريد بذلك قول المستشرق «فلهاوزن» عن معاوية: «انّ علياً ـ إنْ طوعاً أو كرهاً ـ قد عقد ميثاقاً مع الشيطان أي معاوية»(1).
ثم يقول: «وتبع اُولئك تلامذتهم من المستغربين الذين ابعدوا النُّجعة في تحليلاتهم لتلك الاحداث يريد بذلك الدكتور طه حسين لانـّه عمّق الشك في وجود ابن سبأ
وأنّ ما يروي عنه تضخيم من قبل خصوم الشيعة».
ثمّ يقول: «يضاف إلى هؤلاء واُولئك طائفة من الشيعة المحدثين لبسوا لبوس البحث العلمي حتى يقنعوا الناس بنتائج ابحاثهم». يريد بذلك العلاّمة العسكري في كتابيه «عبداللّه بن سبأ» و«خمسون ومائة صحابي مختلق» كما سيأتي.
وذكر المؤلّف خلاصة بنتائج بحثه وأجملها في النقاط التالية:
1 ـ البحث يكشف عن حقيقة وجود عبدالله بن سبأ وجوداً تؤكده الروايات القديمة، وتفيض به المقالات والفرق، والغالبية من كتب التراث، وأخبار الشيعة المتقدّمين، وسار على نهج هؤلاء المحقّقون من الباحثين المحدّثين.
2 ـ يبدو أنّ أوّل من شكك في وجود
ابن سبأ بعض المستشرقين، ثمّ دعم هذا الغالبية من الشيعة المحدثين، وأنكر بعضهم وجوده، وبرز مع هذه المجموعة من أولع بآراء المستشرقين، ومن تأثّر بكتابات الشيعة المحدثين; ولكن هؤلاء واُولئك ليس لهم من دعائم الشك إلاّ الشك ذاته.
3 ـ التوصل إلى حقيقة وجود ابن سبا يجلِّي عاملاً خطيراً من عوامل الفتنة (الثورة) المنتهية بقتل الخليفة عثمان، كما تكشف عن الدور الذي قام به ابن سبأ وأعوانه في وقعة الجمل.
4 ـ البحث وإن كان ينتهي دون أن يحدّد نهاية ابن سبأ بعد أن يثبت وجوده بعد استشهاد علي عليه السلام، نقول مع هذا الغموض في تحديد النهاية والذي يقابله غموض في المبدأ والمنشأ ـ اذ لا يعرف عنه اكثر من كونه يهودياً من أهل اليمن أسلم في عهد عثمان ـ فإن ذلك
لا ينتصب دليلاً على الانكار أو حتّى عاملاً من عوامل التشكيك.
5 ـ ان ابن سبأ ليس وحده بل هناك طائفة تقول بقوله وتعتقد ما يعتقده، وقد نسبت إليه وأطلق عليها (السبئية).
ثم يقول اخيراً: انّه يخلص من البحث بالنتائج التالية:
أوّلاً: إنّ عبداللّه بن سبأ اليهودي هو أصل التشيع. ويستدلّ بثلاثة أنواع من الادلّة:
1 ـ إنّ عقيدة الشيعة بالوصية وبأنّ الائمّة عليهم السلام يعلمون الغيب، ولهم ولاية تكوينية، وبمصحف فاطمة، وبالبداء، والرّجعة، والطعن على أصحاب الجمل وصفّين والخلفاء الثّلاثة، هي عقيدة ابن سبأ.
2 ـ إنّ براءة الشيعة من ابن سبأ لا تكفي، لانّ من بين السبئية علماء من الشيعة أمثال جابر الجُعفي (الذي كان يقول انّ علياً يرجع إلى الدنيا).
3 ـ كلمات ابن قتيبة، والاسفرايني، والذهبي، وابن تيمية، ومن كلمات هذا الأخير: إنّ أوّل من اتّهم بالرفض والقول بالنصّ في علي وعصمته كان منافقاً زنديقاً أراد إفساد دين الإسلام وهو عبد اللّه بن سبأ.
ثانياً: إنّ السبئية أصل تفرّعت عنه فرق اُخرى من فرق الضّلال التي سبقت في مجتمع المسلمين، ويذكر على سبيل المثال:
1 ـ طائفة المغيرية المنسوبة إلى المغيرة بن سعيد.
2 ـ طائفة الكيسانية أتباع المختار بن أبي عبيدة الثقفي القائلين بإمامة محمّد بن الحنفية، وإنّهم كانوا أبرز جنود المختار.
3 ـ الاسماعيلية.
4 ـ القرامطة.
تعليقنا على الرسالة
لا يخفي على قارئ الرسالة أنّ الجهد
المبذول فيها كان لاجل مواجهة بحث علمي خطير جدّاً يحمل عنوان: «عبداللّه بن سبأ وأساطير اُخري» قام به العلاّمة السيد مرتضى العسكري أحد كبار علماء الشيعة في العراق، وقد ألمح مؤلّف الرسالة إلى ذلك حين اهتمّ كثيراً بهذا البحث وكتب عنه عشرَ صفحات مشيراً إلى اهتمام الباحثين المعاصرين به.
وليس من الصعب على قارئ كتابَي العلاّمة العسكري «عبداللّه بن سبأ» في مجلّدين و«خمسون ومائة صحابي مختلق» في مجلّدين، وقد كرّسا لنقد أحاديث سيف بن عمر، ورسالة التخصّص وقد كرست للاعتماد علي أحاديث سيف، أن يخرج ليس فقط بنتيجة عدم التكافؤ بين الدراستين بل بعدم الموضوعية في عرض أدلّة الطرف الاخر.
نقد المصدر أهمّ عمل في الدراسة المتخصصة للتاريخ
من المعروف لدي الجامعات العالمية اليوم أنّ البحث المتخصص في التاريخ يعني عناية خاصّة بالمصدر نقداً وتمحيصاً، وقد انفتح الغرب على هذا النوع من التخصّص التاريخي في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي، وذلك بعد ظهور كتاب (المدخل إلى الدراسات التاريخية) تأليف «لانجلوا» و«سينوبوس» الفرنسيان وقد ظهرت الطبعة الاولى منه سنة 1898م، وقد عالج الكتاب شروط المعرفة في التاريخ وعلاماتها وحدودها وكيفية التعامل مع الوثائق من أجل الافادة منها من خلال نقدها خارجياً وداخلياً، ومعنى نقدها خارجياً ضبط نسخة الوثيقة أو نسخها، ومعنى نقدها داخلياً نقد مصدرها أو المصادر التي اعتمدها المؤلّف أو الرّواة الاوائل الذين
أخذ عنهم، ثمّ نقد أمانة المؤلّف وأهدافه من وراء الكتاب.
ومن المعروف أيضاً لدى أهل الخبرة في الدراسات الاسلامية أنّ علماء المسلمين سبقوا الغرب في نقدهم لمصدر الخبر والرواية وألّفوا في ذلك مئات الكتب والفهارس والمعاجم المعنية برجال الرواية وكلمات معاصريهم حولهم وحول مصنّفاتهم ورواياتهم، وذلك بسبب ما مني به الحديث والرواية من وضع وتحريف وخاصة في القرون الثلاثة الهجرية الاُولى، وهي قضية لا يختلف عليها اثنان من علماء المسلمين.
منهج العلاّمة العسكري ونتائجه
ولم يكن العلاّمة العسكري في كتابه «عبداللّه بن سبأ» المطبوع سنة 1375هـ، أوّل باحث سلّط الضوء على روايات سيف بن عمر، فقد سبقه إلى ذلك العلاّمة الاميني رحمه اللّه
في كتابه الغدير الجزء الثامن المطبوع سنة 1950م ـ 1369هـ وفي الجزء التاسع المطبوع بعده.
وقد سبق العلاّمة الاميني في شيء من ذلك طه حسين في كتابه «الفتنة الكبري»، على أن عمل الاميني رحمه اللّه لم يكن تكراراً لشكوك طه حسين، بل كان خطوة اُخرى بإتّجاه نقد روايات سيف.
وممّا لا شك فيه أنّ المستشرق الايطالي «كايتاني» (1869 ـ 1926م) كان أسبق من طه حسين في إثارته الشك بعبد اللّه بن سبأ، حيث نشر بحثه في «حوليات الإسلام» ج 8 سنة 1918م.
وأسبق منه المستشرق الالماني «فريد لندر» الذي نشر بحثه عن عبداللّه بن سبأ في «المجلّة الاشورية» في العددين سنة 1909 ـ 1910م، وقد ابتدأ بذكر ما أورده الطبري من رواية
سيف بن عمر عن عبداللّه بن سبأ، وما أورده الشهرستاني في «الملل والنحل» وأشار إلى الاختلاف في المعلومات ولكنّه لم ينف وجود شخصية ابن سبأ.
وقد حاولت «الرسالة» أن تجعل جهد العلاّمة العسكري والعلاّمة الاميني من قبل ـ ولم يشر إليه في البحث ـ امتداداً لشكوك المستشرقين وطه حسين، وقد فات مؤلّفها أن تشكيك بعض المستشرقين بعبداللّه بن سبأ جاء نتيجة اطّلاعهم على كلمات الرجاليين في سيف الذي هو مصدر الحديث عن عبدالله بن سبأ في كتب التاريخ.
وجاء نقد المرحوم الاميني لأحاديث سيف في الجزء الثامن والتاسع من «الغدير» (1950 ـ 1951م) في سياق ترجمته للخليفة عثمان وما جرى بينه وبين عمّار وأبي ذر وغيرهم، وتحقيق الاحداث التي نقمت عليه، وقد ميز
بين رواية سيف للاحداث التي جاءت عاذرة لعثمان وولاته، ورواية غيره التي كانت تضع اللوم عليه وعلى ولاته، وانتهى العلاّمة الاميني إلى القول باختلاق سيف ما أورده في روايته تلك، ومنها قصّة عبداللّه بن سبأ، وعدّ وجود هذه الشخصية وهماً وخرافة.
أمّا العسكري فقد جاء نقده لأحاديث سيف في سياق مشروع كتابته للتأريخ الإسلامي منذ البعثة إلى القرن الخامس الهجري، وقد قسمه إلى عهود هي: الإسلام في مكة، الإسلام في المدينة، الإسلام في العراق (أي خلافة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام) الإسلام في الشام (اي العهد الاموي) الإسلام في العراق (أي العهد العباسي).
ولمّا شرع في جمع المعلومات لفت نظره عدد من الروايات التي لا تصدق على الرسول وأصحابه فأفردها في حقل خاص وصنّفها
على أساس رواتها، وازداد عددها بعد ذلك.
ورأى أخيراً أنـّه لا يستطيع كتابة تاريخ الإسلام ما لم يدرس تلك الروايات أوّلاً. ثمّ لفت نظره اسم سيف يتردّد في عدد من تلك الروايات التي تفرض على قارئها الشك فيها، واتّجه إلى كتب الرجال ليقرأ عنه، وإذا به يفاجأ بكلماتهم السلبية فيه، فعكف على دراسة رواياته قبل غيره سنداً ومتناً وبشكل مقارن فوجد نفسه أمام مقطع من الاساطير والموضوعات.
ثمّ ألحق بما درسه من أحاديث سيف اسم أربعين صحابياً عدّهم من مختلقات سيف كالقعقاع وأخيه وغيرهما.
ثمّ نشر العسكري بعد ذلك دراسة تفصيلية عن ثلاثة وتسعين صحابياً في كتابه الذي يحمل عنوان «خمسون ومائة صحابي مختلق» صدرت الطبعة الاولى من الجزء الاوّل سنة
1387هـ ـ 1967م، وضمّنه الاشارة إلى واحد وسبعين راوياً عدّهم أيضاً من مختلقات سيف.
واستخلص في دراسته لأحاديث سيف ونتائجها اُموراً ثلاثة:
الاوّل: دراسته أسانيد روايات سيف واكتشافه أنّ عدداً من المجهولين في هذه الاسانيد لا يذكرهم ولا يروي عنهم غيره، ومن هنا اعتبرهم العسكري من مختلقاته.
الثاني: مقارنته روايات سيف مع روايات غيره واكتشافه إنفراد سيف بما يذكره من أسماء عدد من الصحابة، وتفاصيل حياتهم، كالقعقاع وأخيه وغيرهما، وكذلك ينفرد بتفاصيل عدد من الوقائع المعروفة عند غيره بشكل آخر، واعتبر العسكري أنّ ذلك من مختلقاته أيضاً.
الثالث: أنّ شخصية عبدالله بن سبأ
المذكورة في كتب التاريخ القديمة والحديثة
وكونه رأس الفتنة التي انتهت بقتل عثمان وحرب الجمل، والتي ينتهي سندها إلى سيف لا غير، هي من مختلقات سيف أيضاً.
أمّا بخصوص شخصية عبدالله بن سبأ، فإنّ العسكري زاد على جهد سلفه المرحوم الاميني فيه أنّ درسه في كتب أهل الملل والنحل، وفي كتب الحديث، مضافاً إلى دراسته في كتب التاريخ وتوصّل إلي:
أنّ عبدالله بن سبأ المذكور في كتب التاريخ، والذي يحاول خصوم الشيعة ربط التشيع والقول بالوصية لعلي عليه السلام به، من مختلقات سيف وهو كما ذكره المرحوم الاميني في كتابه «الغدير».
وأنّ عبداللّه بن سبأ المذكور في كتب أهل الملل والنحل مأخوذ من أفواه النّاس، ولذلك جاءت المعلومات عنه متضاربة.
وأنّ عبداللّه بن سبأ المذكور في كتب الحديث تصحيف عبداللّه بن وهب الراسبي.
وقد تناول ذلك مفصّلاً في بحوث الجزء الثاني من كتابه «عبداللّه بن سبأ» وترك دراسة حوادث الفتنة وحرب الجمل برواية سيف ومقارنتها برواية غيره إلى الجزء الثالث ولمّا يبدأ به.
أقول ينبغي لمن يريد الانتصار لوجود عبداللّه بن سبأ في التاريخ وبالتالي إثبات نشأة التشيع على يده، ينبغي لمن يريد ذلك أن ينتصر أوّلاً لوجود ثلاثة وتسعين صحابياً حذفهم بحث العلاّمة العسكري من كتب تراجم الصحابة وسائر مصادر الدراسات الاسلامية، لانّ أساس الانتصار واحد وهو إعادة الاعتبار لروايات سيف بن عمر، مضافاً إلى ذلك كون الصحابة أهمّ بكثير من عبداللّه بن سبأ، منهم رواة للحديث، ومنهم
أبطال للفتوح وقادة لها، أمثال القعقاع بن عمر وأخيه عاصم وغيرهما.
منهج رسالة التخصص ونتائجه
لم يكن خافياً على أساتذة جامعة الازهر ولا جامعة الامام محمد بن سعود الاسلامية في الرياض طبيعة المنهج الذي كتبت في ضوئه بحوث العلاّمة العسكري في كتابيه، وأن مواجهته العلمية تقوم على أساس ردّ الاعتبار لروايات سيف في التاريخ، وجاء جهد جامعة الامام محمد بن سعود عبر استاذين مشرفين وعضوين آخرين وباحث ناشئ في رسالة التخصّص التي عرضنا لها في أوّل الحديث، لينهض بالمهمّة، فلننظر كيف اُعيد الاعتبار لروايات سيف.
كان الاصل الاوّل الذي اعتمد عليه العلاّمة العسكري والعلاّمة الاميني في بحثهما هو عرض كلمات خبراء الرجال
الموثوقين في حقّ سيف وهم:
يحيي بن مَعين (ت 233هـ) الذي يقول فيه: ضعيف الحديث، فليس خير منه.
وأبو داود (ت 275هـ) الذي يقول فيه: ليس بشيء، كذّاب.
والنسائي صاحب السنن (ت 303هـ) الذي يقول فيه: ليس بشيء كذّاب.
وابن أبي حاتم (ت 327هـ) الذي يقول فيه: متروك الحديث.
وابن عدي (ت 365هـ) الذي يقول فيه: بعض أحاديثه مشهورة، وعامّتها منكرة لم يتابع عليها.
وابن حِبان (ت 351هـ) الذي يقول فيه: يروي الموضوعات عن الاثبات، اُتّهم بالزندقة، وقد قالوا: يضع الحديث.
والحاكم (ت 405هـ) الذي يقول فيه: متروك، اتّهم بالزندقة.
والذهبي (ت 748هـ) في «ميزان الاعتدال» الذي يقول فيه بعد أن ينقل الكلمات الانفة الذكر: إنـّه يروي عن خلق كثير من المجهولين ثمّ يستدرك فيقول: وكان أخبارياً عارفاً. ولم أجد هذا الاستدراك في كتابه «المغني في الضعفاء» علي الرغم من تعليقه عليه بعد تأليفه «ميزان الاعتدال».(1)
وابن حجر (ت 852هـ) في «تهذيب التهذيب» الذي كرّر فيه الكلمات السابقة، ولكنّه لم يذكر رأي الذهبي الانف الذكر، نعم أورده في كتابه «تقريب التهذيب» حيث قال هناك: ضعيف في الحديث، عمدة في التاريخ.
في قبال هذا كلّه تمسّك مصنّف الرسالة الجامعية بكلمة الذهبي وخلفه ابن حجر، ثمّ استشهد باعتماد الطبري على روايات سيف أكثر من غيره في إحداث الثورة على عثمان
وحرب الجمل، ثم بترجيح ابن كثير (ت 774هـ) لرواية سيف في كيفية قتل عثمان على رواية خليفة بن خياط الصحيحة سنداً.
ثمّ يستشهد بكلمات كتّاب محدثين أمثال محبّ الدين الخطيب الذي يقول عن سيف وشيوخه: هم أعرف الاخباريين بحوادث العراق.(1)
والدكتور العش الذي يقول: وجملة القول: إنّ سيف بن عمر يأتينا بقصة الفتنة ـ الثورة على عثمان وحرب الجمل ـ من مصدر حيادي مطلع، فتأتي قصّة منسجمة مع الروايات الموثوقة.(2)
وتلميذه أحمد راتب عرموش الذي يقول: ويبدو من مراجعة كتب التراجم أنّ سيفاً لم يكن من رواة الحديث المعتمدين، لكن يجمع
واضعوها على أنـّه عمدة في تاريخ حوادث صدر الإسلام.(1)
والدكتور الطالبي الذي يقول: إنّ سيفاً لم يناقض في روايته راوياً آخر.(2)
كان ذلك كلّ ما حشدته «الرسالة» من عُدّة لاعادة الاعتبار لسيف ورواياته، وخلاصة هذه العُدّة اُمور ثلاثة:
الاوّل: إكثار الطبري من روايات سيف، بل اعتماده عليه في موارد مهمّة، من قبيل ما جري بين معاوية وأبي ذر، فيذكر روايته فقط.
الثاني: قول الذهبي: إنـّه كان أخبارياً عارفاً. وقول خلفه ابن حجر: إنّه كان عمدة في التاريخ.
الثالث: كلمات المتأخرين عن الذهبي.
سرّ اعتماد الطبري على روايات سيف
لم يكن أمر سيف خافياً على الطبري، وكيف يخفي عليه أمره وشيوخ الطبري أنفسهم أعرضوا عنه؟ أمثال: عمر بن شبة، وعلي بن محمد المدائني، مضافاً إلى إعراض مُصنّفين آخرين كابن سعد والبلاذري، هذا مضافاً إلى كلمات الرجاليين القدامى أمثال: يحيي بن معين (ت 233هـ)، وأبي داود (ت 275هـ)، والنسائي(ت303هـ).
إذاً لماذا يورِد الطبري روايات سيف ويعتمد عليها؟
والجواب نجده صريحاً من المصنف نفسه، حيث قال في ذكره حوادث سنة (30هـ): «وفي هذه السنة ـ أعني سنة (30هـ) ـ كان ما ذكر من أمر أبي ذر ومعاوية وإشخاص معاوية إياه منها إليها (أي المدينة) اُمور كثيرة كرهت ذكرها، أمّا العاذرون معاوية في ذلك
فإنّهم ذكروا في ذلك قصّة كتب بها إلى السري يذكر: أنّ شعيباً حدّثه سيف، عن عطية، عن يزيد الفقعسي، قال: لمّا ورد ابن السوداء الشام لقي أبا ذر».(1)
ويقول في حوادث سنة (35هـ): وذكرت اُموراً كثيرة في سبب مسير المصريين إلى عثمان ونزولهم ذا خشب، منها ما تقدّم ذكره، ومنها ما أعرضت عن ذكره كراهة منّي لبشاعته (2)، ثمّ يذكر رواية سيف في ذلك تفصيلاً.
ويقول في حوادث السنّة نفسها أيضاً: «… إنّ محمّد بن أبي بكر كتب إلى معاوية بن أبي سفيان لمّا ولّي، فذكر ـ أي هشام عن أبي مخنف ـ مكاتبات جرت بينهما، كرهت ذكرها لما فيها ممّا لا يحتمل سماعَها العامّة».(3)
الوضع الفكري في عصر الطبري
ومن أجل أن نفهم كلمات الطبري هذه لا بدّ لنا أن نشير ولو باختصار إلى طبيعة الاجواء الفكرية السائدة في عصره، وقد كانت أجواء صراع بين خطّين:
الاوّل: يحمل التركة العقائدية والحديثية المتبنّاة في العهد الاُموي، والّتي تقوم على أساس الولاء لمعاوية والبراءة من علي عليه السلام.
الثاني: يحمل تراثاً عقائدياً وحديثياً يقوم على أساس الولاء لعلي عليه السلام والبراءة من معاوية، ويضمّ هذا الخطّ مدرستين أساسيتين:
الاولى: مدرسة الامام جعفر الصادق عليه السلام وتقوم على أساس الاعتقاد بإثني عشر وصياً عينهم اللّه تعالى لحفظ سنة النبي صلى الله عليه وآله في الاُمّة من بعده، أوّلهم علي عليه السلام ثمّ الحسن فالحسين، ثمّ تسعة من ذرية الحسين عليهم السلام، وأصحاب هذه المدرسة مضطهدون من قبل السلطة في عصر الطبري.
الثانية: مدرسة معتزلة البغداديين التي تقوم على أساس الاعتقاد بأفضلية علي عليه السلام على أبي بكر وعمر مع صحّة بيعتهما، وهو القول الذي كان يجهر به المأمون وأغلب خلفاء بني العباس.
رأي العامّة في بغداد
وقد كانت «العامّة» في بغداد وغيرها من بلدان الخلافة العباسية إلى سنة (323هـ) تمثّل الخطّ الاوّل في جانب الولاء لمعاوية ومعارضة الطعن عليه، وقد ظهر ذلك واضحاً في حوادث سنة (212ه). قال نفطويه: بعث المأمون منادياً فنادي في الناس ببراءة الذمّة ممّن ترحّم على معاوية أو ذكره بخير… فأنكر النّاس ذلك واضطربوا ولم ينل مقصوده ففتر إلى وقت.(1)
وفي رواية المسعودي: وأمر بلعنه على المنابر، واُنشئت الكتب إلى الافاق بذلك، فأعظم النّاس ذلك وأكبروه، واضطربت «العامّة» منه، فاُشير عليه بترك ذلك. (1)
واستمرّت عامّة بغداد تحمل عقيدة الولاء لمعاوية والغضب على الطاعنين فيه إلى سنة (323ه)، كما نفهم ذلك من خبر ابن الاثير، قال في حوادث سنة (321ه): أمر علي بن بليق في عهد القاهر بلعن معاوية بن أبي سفيان وابنه يزيد على المنابر ببغداد فاضطربت «العامّة»، فأراد علي بن بليق أن يقبض على البربهاري رئيس الحنابلة ـ وكان يثير الفتن هو وأصحابه ـ فعلم بذلك فهرب.(2)
وقال في حوادث سنة (323ه): وعظم أمر الحنابلة وقويت شوكتهم.. فخرج توقيع
الراضي بما يقرأ في الحنابلة ينكر عليهم فعلهم ويوبّخهم باعتقاد التشبيه وغيره، فمنه: (تارة، أنـّكم تزعمون أنّ صورة وجوهكم القبيحة السمجة على مثال ربّ العالمين،
وهيئتكم الرذلة على هيئته، وتذكرون الكفّ والاصابع والرجلين والنعلين المذهّبين، والشعر القطط، والصعود للسماء، والنزول إلى الدنيا، تبارك اللّه عمّا يقول الظالمون والجاحدون علّواً كبيراً، ثمّ طعنكم على خيار الائمّة، ونسبتكم شيعة آل محمّد صلى الله عليه وآله إلى الكفر والضّلال، ثمّ استدعاؤكم المسلمين إلى الدين بالبدع الظاهرة والمذاهب الفاجرة التي لا يشهد بها القرآن، وإنكاركم زيارة قبور الائمّة، وتشنيعكم على زوّارها بالابتداع، وأنتم مع ذلك تجتمعون على زيارة قبر رجل من العوام ليس بذي شرف، ولا نسب ولا سبب برسول اللّه صلى الله عليه وآله، وتأمرون بزيارته،
وتدّعون له معجزات الانبياء، وكرامات الاولياء، فلعن اللّه شيطاناً زين لكم هذه المنكرات، وما أغواه).(1)
رأي العامّة في دمشق
كان ذلك أمر العامّة في بغداد، أمّا أمرهم في غير بغداد فقد كان أشدّ وخاصّة في دمشق، حيث استمرّ أهلها بالطعن على علي عليه السلام والولاء لمعاوية، كما هو واضح من كلمات النسائي صاحب السنن، حين سئل عن سبب تأليفه كتاب «الخصائص» قال: «دخلت دمشق والمنحرف بها عن علي كثير، وصنّفت كتاب «الخصائص» رجاء أن يهديهم اللّه».
وأوضح منه سبب شهادته على أيديهم كما روي ذلك من ترجم له، ذكروا: أنـّه خرج من مصر في آخر عمره إلى دمشق فسئل بها عن معاوية وما جاء في فضائله، فقال: ألا يرضي
رأساً برأس حتى يفضّل؟! فما زالوا يدفعون في حضنيه «وفي شذرات الذهب: في خصييه» حتّى اُخرج من المسجد ثمّ حمل إلى الرملة فدفن بها سنة (303هـ).(1)
عقيدة السلف
ويشارك العامّة في معارضة الطعن علي معاوية أغلب أهل الحديث، ويعرفون من قبل المتأخرين بـ (السلف) وهم أحمد بن حنبل صاحب «المسند»، وابن أبي شيبة صاحب «المصنف» والبخاري ومسلم وغيرهم، الذين رووا فضائل معاوية، واعتذروا له عن مخالفته علياً عليه السلام في صفين وترحّموا عليه، كما رووا فضائل علي عليه السلام وترحّموا عليه، ويسمّي موقف الترحّم على علي عليه السلام ومعاوية والاعتذار لمعاوية بـ «عقيدة السلف».
التشيع لعلي عليه السلام بدعة عند السلف
وسمّي السلف موقف التشيع لعلي عليه السلام والبراءة من معاوية بـ «البدعة»، وقسموها إلى صغري وكبري.
وأرادوا بـ «البدعة الصغري» التشيع مع الغلوّ أو التشيع بلا غلوّ.
قال الذهبي: فالشيعي الغالي في زمان السلف وعرّفه: هو من تكلّم في عثمان والزبير وطلحة ومعاوية وطائفة ممّن حارب علياً(رضي الله عنه) وتعرّض لسبّهم.
والغالي في زماننا وعُرفنا هو الذي يكفّر هؤلاء السادّة ويتبرّأ من الشيخين أيضاً، فهذا ضالّ متعثّر.
وأرادوا بـ «البدعة الكبري» الرفض الكامل(1)، أي القول بالوصية وعدم تصحيح بيعة أبي بكر وعمر.
وقال أيضاً: وقد احتوى كتابي هذا على ذكر الكذّابين الوضّاعين «قاتلهم اللّه»… ثمّ على الثقات الاثبات الذين فيهم بدعة… ثم البدعة: كبرى وصغرى.
روي عاصم الاحول عن ابن سيرين قال: لم يكونوا يسألون عن الاسناد حتى وقعت الفتنة، فلمّا وقعت نظروا من كان من «أهل السنّة» أخذوا حديثه، ومن كان من أهل البدعة تركوا حديثه.(1)
والذي يظهر من كلام ابن سيرين هو أنّ تسمية «التشيع» لعلي عليه السلام وتخطئة معاوية وعمرو بن العاص وغيرهم بـ «البدعة» من تركة الامويين التي حملتها العامّة وأهل الحديث، واستمرّت إلى عهد الذهبي وابن حجر، ومنها إلى اليوم عند البعض.
مدرسة الامام الصادق عليه السلام في عصر الطبري
وفي عصر الطبري كان الموقف واحداً إزاء مدرسة الامام الصادق عليه السلام، فقد كان الائمّة عليهم السلام مضطهدين من السلطة العباسية، أمّا أتباعهم وحملة حديثهم فقد كانوا مضطهدين مرفوضين من السلطة والعامة معاً، يشاركهم في ذلك في قليل أو كثير أهل الحديث والمعتزلة، وكانوا يسمّون «بالرافضة» ولا زال بعضهم يصرّ على تسمية شيعة الامام الصادق عليه السلام بذلك إلى اليوم.
عقيدة الطبري في الامامة
قال ياقوت: وكان أبو جعفر (الطبري) يذهب في الامامة إلى إمامة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وما عليه أصحاب الحديث في التفضيل، وكان يكفّر من خالفه في كلّ مذهب، إذ كانت أدلّة العقول تدفع ذلك
كالقول في القدر، وقول من كفّر أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وآله من الروافض والخوارج، ولا يقبل أخبارهم ولا شهاداتهم. وذكر ذلك في كتابه «الشهادات» وفي «الرسالة» وفي أوّل «ذيل المذيل» وكان لا يورث الكفرة منهم، وكان إذا عرف من إنسان بدعة أبعده وطرحه، وقد هجر طبرستان لمّا انتشر الرفض بها، وقد قال بعض الشيوخ ببغداد بتكذيب حديث غدير خم وقال: إنّ علي بن أبي طالب كان باليمن في الوقت الذي كان رسول الله صلى الله عليه وآله بغدير خم، فبلغ أبا جعفر ذلك فابتدأ بالكلام في فضائل علي بن أبي طالب وذكر طرق حديث غدير خم. (1)
قال الذهبي: «جمع الطبري طرق حديث غدير خم في أربعة أجزاء رأيت شطره فبهرني لسعة رواياته، وجزمت بوقوع ذلك».
وقال أيضاً: «وشُنِّع عليه بيسير تشيع، وما رأينا إلاّ الخير».(1)
وقال أبو بكر بن كامل: حضرت أبا جعفر حين حضرته الوفاة، فسألته أن يجعل كلّ من عاداه في حلّ، فقال: كلّ من عاداني وتكلّم في في حلّ إلاّ رجلاً رماني ببدعة. (2)
قال ياقوت: ودفن ليلاً خوفاً من العامّة لانـّهم كانوا يتّهمونه بالتشيع.(3)
تأريخ الطبري
وفي ضوء ما عرفنا من طبيعة الوضع الفكري في عصر الطبري، ومن التهمة التي وجّهت إليه من «العامّة» يتّضح لنا سرّ «مراعاته للعامّة» في حوادث الفتنة وحرب الجمل وغيرها، بإيراده روايات سيف، مع اطّلاعه الكامل على كلمات أهل الجرح والتعديل فيه،
وكثرة المجهولين في طرق رواياته.
ويبدو أنّ الطبري كان يهدف لكتابه في التاريخ أن يكون مرآة عاكسة لروايات الاتجاهين المتصارعين ومدارسهما المختلفة، بدرجة تسمح بها حالة عصره، ولا يبتعد بها كثيراً عن عقيدته، فجاء بعدد لا بأس به من روايات الواقدي في الفتنة في قبال روايات سيف فيها، كما جاء بعدد وافر من روايات عمر بن شبة في حرب الجمل، وعدد قليل جدّاً من روايات نصر بن مزاحم فيها، في قبال روايات سيف في ذلك، جاء بذلك من أجل أن لا يكون في صف العاذرين معاوية.
واعتمد كثيراً على روايات أبي مخنف في حرب صفّين والجمل، ومقتل حجر، وقتل الحسين عليه السلام، إلاّ في قتل علي عليه السلام وبيعة الحسن عليه السلام، فإنّه جاء بروايات الزهري والشعبي وعوانة وغيرهم، لكي لا يحسب
من الشيعة الذين يقولون بالوصية للحسن والحسين بعد علي عليه السلام بأمر رسول اللّه صلى الله عليه وآله، ومراعاة لموقف السلطة السلبي من الحسنيين.
والطبري يراعي العباسيين مراعاة تامّة في ذكره أخبار ولاية العهد للامام الرضا عليه السلام، وسبب وفاته وأنـّه أكل عنباً فأكثر منه فمات فجأة، في قبال رواية السم التي كانت معروفة ومتداولة.
وبهذه الرؤية في انتقاء الاخبار تحقق للطبري في كتابه ما أراد له وخاصّة بعد وفاته، وصار الكتاب الاوّل من بين كتب التاريخ لا ينافسه كتاب آخر، وتداوله الحكام والعامّة وغيرهم، وحاز الطبري بسببه على لقب «إمام المؤرّخين».
وثمّة أمر آخر ساعد الطبري كثيراً على تحقيق هدفه في كتابه، وهو ما أشار إليه في مقدّمة كتابه قال: فما يكن في كتابي هذا من خبر
ذكرناه عن بعض الماضين مما يستنكره قارئه أو يستشنعه سامعه، من أجل أنـّه لم يعرف له وجهاً في الصحّة ولا معنى في الحقيقة، فليعلم أنـّه لم يؤت في ذلك من قبلنا، وإنّما اُتي من قبل بعض ناقليه إلينا، وإنّما أدّينا ذلك على نحو ما اُدّي إلينا.(1)
فإنّ هذا الكلام يصلح للردّ على العامّة لو اعترضوا على إيراده حديث الدّار والوصية لعلي عليه السلام(2) ، أو حديث إسلام أبي بكر بعد إسلام خمسين شخصاً(3). أو حديث أنّ النبي صلى الله عليه وآلهبعث علياً في صلحه، وأنّ قريشاً بعثت سهيل بن عمرو في صلحها(4) . أو إيراده روايات أبي مخنف في قتل الحسين عليه السلام، وهو يصلح أيضاً للردّ على من ينكر عليه
إيراده روايات سيف وعوانة بن الحكم والشعبي وغيرهم ممن عرف بالوضع لصالح الاُمويين.
ومما لا شك فيه أنّ قيمة روايات الطبري وروايات غيره أيضاً بقيمة طرقها وأسنادها، وقد التزم الطبري بإيراد أسانيد أخبار كتابه كاملة، وبهذا يكون قد قدّم خدمة لعلم التاريخ في عصرنا الراهن يشكر عليها، إذ لولا ذلك لما أمكننا تقويم مصادر أخباره أو ترجيح رواية على اُخرى علمياً.
وخلاصة ردّنا على الدليل الاوّل: هو أنّ الطبري لم يورد روايات سيف اعتقاداً منه بوثاقة سيف، بل مراعاة للعامّة التي كانت تتحسّس جدّاً من الطّعن على معاوية والحكام من بني اُمية، وخوفاً من نقمتها، ومع ذلك لم يسلم منها حين دفن ليلاً بسببها، وفي ضوئه يبقى الباحث وجهاً لوجه أمام سيف وأسانيده.
رأي الذهبي في أحاديث سيف
كان الذهبي أوّل قائل في حقّ سيف أنـّه: كان أخبارياً عارفاً، وجاء من بعده ابن كثير فرجّح رواية سيف في كيفية قتل عثمان الضعيفة سنداً على رواية خليفة بن خياط الصحيحة سنداً، وجاء من بعده ابن حجر ليقول: كان سيف ضعيفاً في الحديث، عمدة في التاريخ.
ولم تكن للذهبي ولا ابن كثير ولا ابن حجر حجّة في قبال كلمات الرجاليين سوى العقيدة المسبقة بالصحابة، والرغبة الجامحة لرؤية التاريخ وفق المعتقد.
ولست أدري كيف يتحوّل «متروك الحديث باتفاق» كما عبّر الذهبي نفسه في كتابه «المغني في الضعفاء»: «الراوي عن خلق كثير من المجهولين» كما يقول عنه في «ميزان الاعتدال»: «راوي الموضوعات عن
الاثبات» «المجمع على كذبه» كما روى ابن حجر في «تهذيب التهذيب».. أقول: كيف يتحوّل مثل هذا الراوي بعد أربعة قرون من استقرار كلمات أهل الجرح والتعديل فيه إلى «أخباري عارف» و«عمدة في التاريخ»؟ وما هو الجديد الّذي جدّ في سيرته ورواياته وطرقه؟
إنـّه قول بلا دليل في قبال قول الرجاليين القدامي وفي قبال بحث العلاّمة العسكري الذي يتناول شيوخ سيف ورواته ليكشف عن طبيعة المجهولين، الذين عرفت بهم أسانيده وأنـّهم مما تفرّد به سيف كما تفرّد بعدد من أسماء الصحابة اعتبرهم العسكري من مختلقاته.
الذهبي من العاذرين معاوية
ولا نعدو الحقيقة إذا قلنا إنّ رأي الذهبي في سيف كان قول عاذر لمعاوية، جاء دعماً
وسنداً وانتصاراً لراوية العذر ومختلقه عارياً من الدليل والحجّة.
والذهبي لا يخفي اعتذاره لمعاوية، كما جاء في ترجمته له قال:
وقتل عمار مع علي وتبينَ للناس قول رسول الله صلى الله عليه وآله: تقتله الفئة الباغية(1) ثمّ قال: وخلْفَ معاوية خلقٌ كثيرٌ يحبّونه، إمّا قد ملكهم بالكرم والحلم والعطاء، وإمّا قد ولدوا في الشام على حبّه وتربّى أولادهم كذلك، وفيهم جماعة يسيرة من الصحابة، وعدد كثير من التابعين والفضلاء، وحاربوا
(1) قال شيعب الارنؤوط (مخرج احاديث سير اعلام النبلاء) : «وهو حديث صحيح مشهور بل متواتر، ولما لم يقدر معاوية على انكاره قال: انما قتله الذين جاؤوا به كما في (المسند:161) بسند صحيح، فأجابه علي رضي الله عنه: بان رسول الله (ص) اذاً قتل حمزة حين اخرجه … وهذا منه رضي الله عنه إلزام مفحم لا جواب عنه وحجة لا اعتراض عليها، وما ذهب اليه المؤلف من كون طائفة معاوية هي الباغية هو مذهب فقهاء الحجاز والعراق من فرقي الحديث والرأي منهم مالك والشافعي وأبو حنيفة والاوزاعي وغيرهم، كما قال الامام عبد القاهر الجرجاني في كتاب الامامة، نقله عنه المناوي في فيض القدين 6 : 663».
معه أهل العراق ونشأوا على النصب، نعوذ باللّه من الهوى. كما نشأ جيش علي(رضي الله عنه) ورعيته ـ إلاّ الخوارج ـ على حبّه، والقيام معه، وبغض من بغى عليه والتبرّي منهم. وغلا خلق منهم في التشيع. فباللّه كيف يكون حال من نشأ في إقليم لا يكاد يشاهد فيه إلاّ غالياً في الحبّ مفرطاً في البغض؟ ومن أين يقع له الانصاف والاعتدال؟ فنحمد اللّه على العافية، الذي أوجدنا في زمان قد انمحص فيه الحقّ واتضح من الطرفين، وعرفنا مآخذ كلّ واحدة من الطائفتين، وتبصّرنا فعذرنا واستغفرنا وأجبنا باقتصاد، وترحّمنا على البغاة بتأويل سائغ في الجملة، أو بخطأ إن شاء اللّه مغفور… وتبرّأنا من الخوارج المارقين الذين حاربوا علياً وكفّروا الفريقين.(1)
العاذِرون معاوية من المحدثين
جاءت كلمات المحدثين المنتصرين لسيف بن عمر تكراراً لكلمات الذهبي وابن حجر، ولا يعنينا من أمرها شيئاً ما دامت كذلك.
ونجد من المفيد أن نقف قليلاً عند كلام أحمد راتب عرموش الذي استخرج روايات «الفتنة ووقعة الجمل» لسيف من الطبري والذهبي وابن عساكر ونشرها في كتاب مستقل. قال في مقدّمته: إنّ عمله في الكتاب جمع رواية سيف بن عمر عن مقتل عثمان ووقعة الجمل من كتب التاريخ المختلفة، وأنـّه بعد مطالعة هذين الموضوعين في معظم كتب التاريخ القديمة والحديثة تبين له أن تاريخ الطبري هو أوفاها موضوعاً وأكملها رواية. ثم نقل كلام ابن خلدون عنه معلّلاً اعتماده الكلّي عليه في حوادث الجمل: هذا أمر الجمل ملخّصاً من كتاب أبي جعفر
الطبري، اعتمدناه للوثوق به، ولسلامته من الاهواء الموجودة في كتب ابن قتيبة وغيره من المؤرّخين.
واستشهد أيضاً بكلام سعيد الافغاني في كتابه «عائشة والسياسة» حيث يقول في مقدّمة كتابه: ولا بدّ من الاشارة إلى أنـّي جعلت أكثر اعتمادي ـ بعد البحث في المصادر التاريخية ـ على الطبري خاصّة، فهو أقرب المصادر من الواقع، وصاحبه أكثر المؤرّخين تحرّياً وأمانة، وعليه اعتمد كلّ من أتى من بعده من الثقات. وليس الكامل لابن الاثير إلاّ تاريخ الطبري منسّقاً مختصراً منه الاسانيد واختلاف الروايات.(1)
أقول: ويتبين لنا من هذا الكلام أن دليل
سليمان حمد العودة في رسالته لردّ اعتبار روايات سيف لم يكن سوى كلام ابن خلدون فيه، وقد مرّ الكلام مفصّلاً عنه.
ثمّ استشهد بكلمات الدكتور يوسف العش لبيان ضرورة تمحيص روايات الفتنة، وما ذكره أهل الجرح والتعديل في حقّ الواقدي وأنـّه «متروك الحديث» و«ليس بثقة»، «وأنـّه ممن يضع» وقوله: إنّ التاريخ يجب أن لا يؤخذ عن كذّاب.
ثم يضيف عرموش قائلاً: ومن يكذب عن رسول اللّه صلى الله عليه وآله فمن باب أولي أن يكذب عن غيره، طالما أنّ عقاب جريمة الكذب على رسول اللّه صلى الله عليه وآله النّار كما ورد فيه الحديث الشريف: «من كذب علي فليتبوّأ مقعده من النّار».
ثمّ يترجم لسيف بن عمر فلا يذكر عنه إلاّ قول الذهبي: «وكان أخبارياً عارفاً» وقول
ابن حجر: «كان ضعيفاً في الحديث، عمدة في التاريخ» أمّا أقوال أهل الجرح والتعديل فيه فكأنـّها لم يذكرها الذهبي ولا ابن حجر ولا غيرهما.
ثمّ يعلّق عرموش بعد ذلك قائلاً: ويبدو من مراجعة كتب التراجم أنّ سيفاً لم يكن من رواة الحديث المعتمدين، لكن يجمع واضعوها على أنـّه عمدة في التاريخ وأنـّه كان أخبارياً عارفاً.
لقد أخطأ الأستاذ عرموش بحقّ قرّائه أكثر من مرّة في ترجمته لسيف بهذه الطريقة الموهمة.
يقول لقرّائه: إنّ من يكذب على الرسول صلى الله عليه وآله يستسهل الكذب على غيره، ثمّ يقدّم سيفاً لقرّائه على أنـّه: ضعيف في الحديث، عمدة في التاريخ. ولا يذكر لهم كلمات أهل الجرح والتعديل الصريحة في حقّ سيف أنـّه «كذّاب» «يضع الحديث» «يروي الموضوعات عن
الاثبات» وقد أجمعوا على ردّ روايته في الحديث بسبب ذلك.
ويقول لقرّائه: إنّ التاريخ لا يؤخذ من كذّاب ثمّ يقدّم لهم رواية سيف الكذّاب الوضّاع في تاريخ الفتنة وحرب الجمل بصفتها الأوثق والأقوى.
ولا نريد أن نسترسل معه في الحساب أكثر من ذلك.
ويبقى سيف وضّاعاً
ويتبين لنا مما مضى أنّ سيفاً باق ـ كما ذكر عنه الرجاليون الأوائل ـ كذّاباً وضّاعاً يروي عن خلق من المجهولين، وتأتي دراسة السيد العسكري لأسانيد رواياته ومتونها منسجمة مع كلمات الأقدمين فيه.
خلاصة وتعقيب
1 ـ إنّ الدليل الاوّل الذي اعتمد عليه كاتب «الرسالة» لاعتبار رواية سيف هو تكرار
لكلام ابن الاثير وابن خلدون، وقد أجاب عنه الطبري نفسه بأنـّه يورد رواية العاذرين معاوية للحوادث خشية العامّة.
2 ـ وإنّ العامّة في عصر الطبري كانت لا تتحمّل الطعن على معاوية وعمرو بن العاص وغيرهما، وكانت السلطة تخشى غضبها في ذلك، وفشلت في تعميم لعن معاوية أكثر من مرّة.
3 ـ وإنّ العامّة في عصر الطبري قتلت النسائي صاحب السنن، لانـّه كتب «خصائص
علي» واستنكر أن يكون لمعاوية فضيلة سوى قول النبي صلى الله عليه وآله: «اللّهمّ لا تُشبع بطنه».(1)
4 ـ إنّ العامّة في عصر الطبري كانت تسمّي التشيع لعلي والبراءة من معاوية بدعة.
5 ـ إنّ الطبري راعى في انتقاء روايات تاريخه العامّة والسلطة العباسية إلى درجة كبيرة، ولو على حساب الصحابي أبي ذر الغفاري والامام علي بن موسي الرضا عليه السلام.
6 ـ إنّ قيمة روايات الطبري بقيمة رواتها، وقد ذكرهم بشكل كامل ونبّه إلى إلقاء التبعة عليهم لمن كان من أهل التحقيق والخبرة.
7 ـ إنّ الدليل الثاني ـ وهو كلام الذهبي في حق سيف ـ لم يكن أكثر من قول عاذر لمعاوية جاء دعماً وسنداً وانتصاراً لراوية العذر ومختلقه.
8 ـ إنّ كلمات المتأخّرين عن الذهبي في حق سيف كانت تكراراً لكلمات الذهبي، ومن موقع الاعتقاد بعذر معاوية في حربه علياً عليه السلام.
9 ـ إنّ سيف بن عمر يبقى كما ذكر عنه أهل الجرح والتعديل: (كذّاباً) (وضّاعاً) (يروي عن خلق كثير من المجهولين)، وإنّ بحث
العسكري في روايات سيف وأسانيده فيها يصدّق مقولة الرجاليين فيه. ولا يفوتنا أن نذكر هنا مشاركة بعض الباحثين المحدثين النتيجة نفسها في حق سيف وردّ رواياته التي ينفرد بها، منهم الدكتور عبد العزيز الهلالي الأستاذ في جامعة الملك عبد العزيز، الذي نشر بحثه عن عبد الله بن سبأ في حوليات كلّية الآداب الكويتية السنة الثامنة، ومنه الاستاذ محمد حسن شراب في رسالة الماجستير (المدينة في العهد الأموي)، على الرغم من أنّ هذا الأخير من العاذرين معاوية وابنه يزيد، كما هو واضح في رسالته الآنفة الذكر.
تم بحمد الله
