تناول ممثّلُ المرجعية الدينيّة العُليا سماحة الشيخ عبد المهدي الكربلائي (دام عزّه) في الخطبة الثانية من صلاة الجمعة (11شهر رمضان 1437هـ) الموافق لـ(17حزيران 2016م) التي أُقيمت في الصحن الحسينيّ الشريف بإمامته جانباً من الأمور التي أوصى بها سماحة المرجع الدينيّ الأعلى آية الله العظمى السيد علي الحسينيّ السيستانيّ(دام ظلّه الوارف) نخبةٍ من أطباء النجف الأشرف الذين تشرّفوا بزيارة سماحته قبل عدّة أيّام، حيث قال:
أيها الأخوة والأخوات أقرأ على مسامعكم الكريمة بعض التوصيات الصادرة من سماحة المرجع الدينيّ الأعلى(دام ظلّه) , في هذا الأسبوع التقى سماحة المرجع الأعلى (دام ظلّه) بنخبةٍ من أطبّاء النجف الأشرف وأوصاهم بأمور نذكر ونشرح بعضها لأهمّيتها، منها:
الوصية بتوفير الخدمة الجيّدة لجميع المراجعين بنفس المستوى دون تفريق بين الغنيّ والفقير والقويّ والضعيف.
وهذه الوصية وإن كانت موجّهة الى فئة الأطبّاء لأنّ جمعاً منهم كانوا حضور اللّقاء ولكنّها وصيّةٌ لكلّ الذين يتعاملون مع المواطنين ويقدّمون لهم الخدمة في أيّ مجالٍ كان، ولاسيّما من فئة الموظّفين الحكوميّين، ومنها أنّ من يمارس التعليم عليه أن يعلم أنّ لسلوكه ومنطقه أبلغ الأثر في طلّابه، ولا يتصوّر أنّه مجرّد أستاذ في مادّة الطبّ، فعليه أن يراعي الجوانب الدينيّة والأخلاقية في أقواله وتصرّفاته، ومن ذلك التواضع لمن يعلّمهم من الطلّاب وعدم التعالي عليهم، وهذه الوصية لا تختصّ أيضاً بالأطبّاء الذين يمارسون التعليم في الجامعات بل هي عامّة لجميع المعلّمين والتدريسيّين.
ومنها الوصية بالمحافظة على وحدة العراق ولا يكون ذلك إلّا بالمحافظة على وحدة العراقيّين، ولتحقيق ذلك لابُدّ أن يُهتمّ بأمرين في هذه الظروف الحرجة:
الأوّل: رعاية النازحين والمهجّرين من دون تمييز بينهم من أيّ دينٍ أو مذهب أو مكوّن كانوا.
الثاني: وهو موجّهٌ بالدّرجة الأساس الى المقاتلين في ساحات القتال، أن يكون قتالهم لتخليص إخوانهم وأخواتهم من عصابات داعش التي هي فئةٌ دخيلة على العراقيّين فكراً وممارسة، فإنّ الأفكار الظلامية التي تتبنّاها والممارسات الوحشية التي ترتكبها غريبة على العراقيّين تماماً وغير مسبوقة لديهم على مرّ التاريخ، فالمقاتلون بمختلف أصنافهم ومسمّياتهم مهمّتهم هي تخليص العراق من هذا البلاء العظيم، وعليهم لأداء هذه المهمّة على الوجه الصحيح أن يتحلّوا بأعلى درجات الانضباط في تصرّفاتهم ويراعوا المعايير الإنسانية والإسلامية في تعاملهم مع الجميع في مناطق القتال، ولاسيّما المدنيّين من كبار السنّ والنساء والأطفال بل ومن يُسلّم نفسه ويترك القتال.
وبعد قراءة هذا النصّ نشرح لكم بعض الوصايا ومنها الوصيّة الأولى للأطبّاء، فنقول: أوصى سماحته الأطبّاء بالخدمة الجيّدة ويُمكن تفصيل ذلك بالأمور التالية:
أوّلاً: العناية بالمريض وذلك بالاهتمام بدقّة التشخيص الطبّي وبذل ما بوسع الطبيب من أعمال ذهنه وتفكيره المهنيّ الطبّي محاولاً الوصول الى التشخيص الأقرب الى الواقع مع تخصيص الوقت الكافي لذلك واستشارة الآخرين من أهل الخبرة والحذاقة الطبّية.
ثانياً: التعاطف مع المريض بإشعاره بالرحمة لحاله وأنّه يهمّه شفاؤه ومعافاته، ويعامله كأنّه أحد أفراد عائلته إذا مرض مع استعمال العبارات والكلمات الطيّبة التي تبعث في نفسه الأمل بالشفاء..
ثالثاً: أن لا يكون همّه تحقيق أكبر قدرٍ ممكن من الأرباح الماليّة بالتجارة بصحّة المريض، سواءً كان من خلال رفع كلفة المعاينة الطبّية أو التحاليل أو الفحص الشعاعي أو أجور العمليات الجراحية، بل يجعل غايته العمل على شفاء أكبر قدرٍ ممكنٍ من المرضى وإنقاذ حياتهم ليُكتب له بذلك عملٌ صالح عند الله تعالى الذي هو خيرٌ ثواباً وخيرٌ أملاً..
ثمّ أوصى سماحته بعدم التفريق بين المراجعين (أي بين الغنيّ والفقير وبين القويّ والضعيف) وتوضيح ذلك:
أن تكون عناية الطبيب المهنية والأخلاقية مع المرضى من دون تفرقة بينهم بسبب فقر بعضهم أو علوّ المنزلة الاجتماعية لبعضهم الآخر، بل يشعر الجميع أنّهم متساوون في ذلك، لأنّ كلّ فردٍ منهم هو إنسان يعاني بسبب مرضه نفس المعاناة لا يختلفون في ذلك بسبب مالٍ أو جاهٍ أو منصب وحياتهم مطلوبٌ إنقاذها وآلامهم مرجوٌّ تخفيفها للجميع دون فرق.
فلا يعتني الطبيب بالغنيّ أكثر لأنّه يرجو منه النفع المالي ولا صاحب الوجاهة والقوّة والسلطة لأنّه يأمل منه أن ينفعه في أمور الدنيا أكثر من غيره..
ثمّ إنّ هذه الوصيّة من سماحته غير مقتصرة على الأطبّاء وإن كانت موجّهة لهم لأنّهم الذين حضروا اللّقاء ولكنّها عامّة لجميع المكلّفين بالخدمة العامّة خصوصاً الموظّفين الحكوميّين، فالمأمول منهم قضاء حوائج المواطنين وإنجاز معاملاتهم بأسرع ما يُمكن وعدم تأخيرهم، خصوصاً عوائل الشهداء واليتامى والأرامل والمستضعفين، ولا يفرّقوا بين مواطنٍ فقير وآخر غنيّ أو صاحب جاه وسلطة والآخر إنسان ضعيف لا يملك لنفسه ناصراً إلّا الله تعالى، وتتأكّد الوصية للموظّفين المكلّفين بالخدمات الأساسية كخدمات الماء والكهرباء والصحّة والتعليم وغيرها..
ومنها الوصية الثانية وشرحها، فالمأمول من الإخوة الأساتذة في مجال الطبّ أو غيره من العلوم أن يعلموا أنّ مهمّتهم لا تقتصر على التعليم المهنيّ في مجال اختصاصهم بل مهمّة الأساتذة هي التعليم والتربية على مبادئ الأخلاق والمواطنة الصالحة معاً، فلا ثمرة للتعليم بدون الأخلاق وتربية النفس على هذه القيم، والأستاذ الأكثر تأثيراً في طلبته هو الذي يبدأ بنفسه فيربّيها ويؤدّبها على محاسن الأخلاق ومحامد الصفات ويترجمها الى سلوكٍ فِعْليّ أمام طلبته، ومن ذلك حسن التعامل مع الطلبة بالتواضع لهم وعدم الاستكبار عليهم بإشعارهم أنّه أفضل وأرفع منهم علماً وشأنا، وسعة الصدر والتحمّل لهفواتهم وسلوكهم الخاطئ وذلك بإرشادهم بالحسنى والحكمة والموعظة الحسنة الى السلوك الصحيح وتنبيههم الى ضرورة الاهتمام بأخلاقهم وسلوكيّاتهم كاهتمامهم بالحصول على الدرجات المتقدّمة في دروسهم، وعليه أن يحترم جميع الطلبة ولا يسخّر أو يستهزئ بمن لا يمتلك الذكاء أو المهارة في العلم بل يحاول أن يعلّمه على كيفيّة تطوير قابليّاته العلمية وفهمه للدرس، وأن يوضّح للطلبة أنّ النجاح في الدراسة الجامعية والمدرسيّة مهمّ لكنّه جزءٌ من النجاح الأكبر المطلوب في الحياة ألا وهو بناء العلاقة الصحيحة مع الله تعالى ومع بقيّة أفراد المجتمع، ومن ذلك شعوره بالمسؤولية بعد تخرّجه وقدرته على النجاح فيها وبناء الأسرة الصالحة وحسن العشرة مع أفراد مجتمعه.
فقد ورد عن أمير المؤمنين(عليه السلام): (علّموا الناس الخير بغير ألسنتكم وكونوا دعاةً لهم بفعلكم، والزموا الصدق والورع). وعنه(عليه السلام): (كلّما زاد علم الرجل زادت عنايته بنفسه وبذل في رياضتها وصلاحها جهده).
ومنها الوصيّة بالمحافظة على وحدة العراق ورعاية النازحين والمهجّرين من دون تمييز بينهم وذلك من خلال عناية الجهات المختصّة والمواطنين والجمعيات الإنسانية ومؤسّسات المجتمع المدني، ببذل كلّ ما يمكن من جهود لتوفير المأوى المناسب للنازحين وتقديم ما يحتاجونه من طعامٍ وشرابٍ ودواء مع معاملتهم بالحسنى والتعاطف معهم والرحمة بهم، وأن تكون هذه العناية بصورة متساوية لجميع العراقيّين النازحين والمهجّرين بغضّ النظر عن انتمائهم الدينيّ أو المذهبيّ أو القوميّ، وذلك لأنّهم بأجمعهم مواطنون عراقيّون لا يستلزم اختلافهم في الانتماء المذكور اختلاف مرتبتهم في حقوق المواطنة والانتماء للعراق، وهذا النحو من الرعاية والمعاملة سيُشعر الآخرين من جميع المكوّنات العراقية بوحدة الانتماء لبلدهم ممّا سيترك أثراً إيجابيّاً في نفوسهم فيشعرون بقوّة الآصرة والعلاقة مع بقيّة مواطني بلدهم، وهذا سيفوّت الفرصة على عصابات داعش التي تعمل على زرع التفرقة والبغضاء بين مكوّنات الشعب العراقي من خلال إثارة النزعة الطائفية.
والتوصية الأخيرة وهي موجّهة بالدرجة الأساس الى المقاتلين في ساحات القتال، فنقول في شرحها: من الضروريّ لمقاتلينا الأبطال الذين يسطّرون ملاحم البطولة والتضحية في صفحات تاريخ العراق الحديث أن يلتفتوا الى أنّ الغاية من قتالهم هو إنقاذ المواطنين من المناطق التي سيطرت عليها عصابات داعش، وأن ينظروا لهم كإخوة وأخوات، وأنّهم جاءوا لتخليصهم من هذه الفئة الدخيلة على العراقيّين في فكرها الضلاليّ الذي تتبنّاه بتكفير الآخرين وتحليل قتلهم، الذي ترجمته الى ممارساتٍ وحشيّة بعيدة عن الإسلام والإنسانية حيث لم يشهد تاريخ العراق مثل هذه الوحشية، فلينتبهوا وليحذروا من أن يكون هدفهم الانتقام أو الاعتداء أو غير ذلك، ولأجل تحقيق هذه المهمّة وفق الضوابط الشرعيّة والأخلاقية والإنسانية لابُدّ من أمرين:
1- التحلّي بأعلى درجات الانضباط النفسيّ في تصرّفاتهم وأعمالهم القتالية، فلا يحملنّهم حزنٌ وأسَفٌ على فقد عزيزٍ استُشهد في القتال، أو تألّم على جريح أو حالة غضب أو انفعال على ارتكاب ما يُخالف هذه الضوابط من تمثيلٍ بقتيل أو إجهازٍ على جريح أو تفجير دار مشتبه في أمره أو سطو على مال لذوي المقاتلين أو استيلاء على أموال لمواطنين أبرياء.
2- مراعاة المعايير الإنسانية والإسلامية في تعاملهم مع الجميع، فلابُدّ من الفرز بين المعتدي المقاتل والمواطن الذي لا دخل له في ذلك، فإنّما هدف القتال الحفاظ على الهوية الوطنية والإنسانية والحضارية للشعب العراقي الذي أرادت هذه العصابات مسخها وطمسها، وتتأكّد الوصيّة مع كبار السنّ والنساء والأطفال، ثم نلتفت الى هذه الصورة التي نراها في الكثير من الفضائيّات فما أعظم وأجمل أن نرى بعض أفراد قوّاتنا المسلّحة ومجاهدينا يحملون رجلاً كبيراً على ظهورهم ليوصلوه وعائلته الى مأمنهم، أو يُطعمون صغيراً أو يهدّئون ويطمئنون امرأةً خائفة أو يداوون مريضاً أو يهيّئون مأوى لهم، وقد ورد في التوصيات العشرين للمرجعيّة الدينيّة العُليا التي تمّ التأكيد عليها:
أوّلاً: (الله.. الله.. في حرمات عامّة الناس ممّن لم يقاتلوكم لاسيّما المستضعفين من الشيوخ والولدان والنساء حتى إذا كانوا من ذوي المقاتلين، فإنّه لا تحلّ حرمات من قاتلوا غيرَ ما كان معهم من أموالهم، وقد كان من سيرة أمير المؤمنين(عليه السلام) أنّه كان ينهى عن التعرّض لبيوت أهل حربه ونسائهم وذراريهم رغم إصرار بعض من كانه معه ـ خاصّةً من الخوارج ـ على استباحتها).
ثانياً: (الله.. الله.. في أموال الناس فإنّه لا يحلّ مال امرئ مسلمٍ لغيره إلّا بطيب نفسه، فمن استولى على مال غيره غصباً فإنّما حاز قطعةً من قطع النيران).
ثالثاً: (الله.. الله.. في الحرمات كلّها فإيّاكم والتعرّض لها أو انتهاك شيءٍ منها بلسانٍ أو يدٍ، واحذروا أخذ امرئ بذنب غيره..).
اللهمّ انصر قوّاتنا المسلّحة والمتطوّعين والغيارى من أبناء العشائر نصر عزيزٍ مقتدر، وردّ كيد أعدائنا في نحورهم، وغيّر سوء حالنا بحسن حالك إنّك سميع مجيب..
المصدر: موقع الكفيل التابع للعتبة العباسية المقدسة.
https://alkafeel.net/inspiredfriday/index.php?id=272&ser=2&lang=ar
Menu