الكتاب: العلامة المحقق السيّد علي الشهرستاني
نشر هذا المقال في مجلة فجر عاشوراء العدد 6و 7
قدمنا سابقاً[1] عناية الحكومة العباسية بالفقه المخالف لآل البيت (ع) واحتواء العباسيين لخَطَّي الأثر والرأي. لما في انتشار مذهب آل البيت من تضعيف لخط الحكومة وتقوية لمنافسيهم على منصب الخلافة. وإن احتواءهم لخَطَّي الأثر والرأي هو تعضيد لحكمها وتمسك بالصفة الشرعية، لأن رواد الخط الأول لا يرتؤون شرعية الخلافة العباسية خلافاً لرواد الخط الثاني، فإنهم انخرطوا في سلك الدولة وترعرعوا في أحضانها وتولوا منصب القضاء، واستغلت الدولة قدراتهم وطاقاتهم العلمية في صالحها، ولذلك ترى الحكومة العباسية تؤكد على رفض آراء الخط الأول، وإن كان عبدالله بن عباس جدهم الأعلى من روادها والدعاة إليها. بعد كل ذلك نحاول المرور سريعاً بالمذاهب الأربعة التي اُصلت آنذاك قبال مذهب علي (ع) وعبدالله بن عباس (رح) وأهل البيت(ع)، لنأخذ فكرة إجمالية عنها، وكيف أن هذه المذاهب جعلت الوضوء الثلاثي الغسلي الذي ركزت عليه الحكومة العباسية كنقطة من نقاط الاختلاف التي يمكن من خلالها معرفة مخالفيها العقائديين والفقهيين.
مذهب الإمام أبي حنيفة:
وأول مذهب يطالعنا في ذلك العصر وأقدمها هو مذهب الإمام أبي حنيفة، فان الإمام أبا حنيفة كان من اوائل الذين تقدموا لمبايعة أبي العباس السفاح في جملة من بايعه من الفقهاء، حيث أن الناس كانوا يتشوقون لحكم وعدهم بإقامة العدل والسنة لينقذهم من جور الأمويين.
لكن أبا حنيفة سرعان ما أدرك انحراف العباسيين وشراءهم لضمائر بعض الفقهاء والعلماء، فابتعد عن السلطة ورفض أن يتولى القضاء للمنصور العباسي رغم كل السبل التي اقتفاها لاحتوائه، فكلما ازدادوا إلحاحاً عليه ازداد ابتعاداً عنهم ورفضاً لتولي القضاء، حتى وصل الأمر إلى سجنه وتعذيبه، وقيل: انه مات مسموماً على أيدي العباسيين. وعلى كل حال فإنه لم يدون فقهه للسلطان ولا لغيره، اللهم إلاّ وريقات باسم «الفقه الأكبر» في العقائد نسبت إليه، ولم يصح ذلك على وجه القطع واليقين.
ثم إن السلطات بعد وفاة الإمام أبي حنيفة استطاعت أن تحتوي اثنين من أكبر تلامذته، هما: أبو يوسف القاضي، ومحمد بن الحسن الشيباني اللذين كانا ينسبان كل ما وصلا إليه من رأي إلى أبي حنيفة!
وكان أبو يوسف قد انضم إلى السلطة العباسية أيام المهدي العباسي سنة 158 وظل على ولائه أيام الهادي والرشيد! وقد ذكر المؤرخون سبب اتصال أبي يوسف بالرشيد وتوثيق علاقاته معه: أن بعض القواد حنث في يمين، فطلب فقيهاً يستفتيه فيها، فجيء بأبي يوسف، فأفتاه أنه لم يحنث، فوهب له دنانير وأخذ له داراً بالقرب منه واتصل به. فدخل القائد يوماً على الرشيد فوجده مغموماً، فسأله عن سبب غمه، فقال: شيء من أمر الدين قد حزبني، فاطلب لي فقيهاً أستفتيه؛ فجاءه بأبي يوسف.
قال أبو يوسف: فلما دخلت إلى ممر بين الدور، رأيت فتىً حسناً أثر المُلك عليه [الظاهر أنه الأمين بن الرشيد] وهو في حجرة في الممر محبوس، فأومأ إليَّ بإصبعه مستغيثاً، فلم أفهم عنه إرادته، واُدخلت إلى الرشيد، فلما مثلت بين يديه، سلمت، ووقفت. فقال لي: ما اسمك؟قلت: يعقوب، أصلح الله أمير المؤمنين. قال: ما تقول في إمام شاهد رجلاً يزني، هل يحدّه؟قلت: لا يجب ذلك. قال: فحين قلتها سجد الرشيد، فوقع لي أنه قد رأى بعض أولاده الذكور على ذلك، وأن الذي أشار إليَّ بالاستغاثة هو الابن الزاني! قال: ثم رفع رأسه وقال: ومن أين قلت هذا؟ قلت: لأن النبي (ص) قال: «ادرؤوا الحدود بالشبهات»، وهذه شبهة يسقط الحد معها. فقال: وأي شبهة مع المعاينة؟ قلت: ليس توجب المعاينة لذلك أكثر من العلم بما جرى، والحكم في الحدود لا يكون بالعلم.
قال: ولِمَ؟قلت: لأن الحد حق الله تعالى، والإمام مأمور بإقامة الحد، فكأنه قد صار حقاً له، وليس لأحد أخذ حقه بعلمه، ولا تناوله بيده، وقد أجمع المسلمون على وقوع الحد بالإقرار والبينة، ولم يجمعوا على إيقاعه بالعلم. قال: فسجد مرة اُخرى، وأمر لي بمال جليل، ورزق في الفقهاء في كل شهر، وأن ألزم الدار. قال: فما خرجت حتى جاءتني هدية الفتى وهدية أمه وأسبابه، فحصل لي من ذلك ما صار أصلاً للنعمة، وانضاف رزق الخليفة إلى ما كان يجريه عليَّ ذلك القائد. ولزمت الدار، فكان هذا الخادم يستفتيني، وهذا يشاورني، فأفتي وأشير، فصارت لي مكانة فيهم، وحرمة بهم، وصلاتهم تصل إليّ وحالتي تقوى. ثم استدعاني الخليفة وطاولني واستفتاني في خواص أمره وأنس بي، فلم تزل حالي تقوى معه حتى قلدني قضاء القضاة[2]. هذا حال أشهر تلامذة الإمام أبي حنيفة الناشر لفقهه والمدون لآرائه.
وقد وقفت على دور الدولة في الأخذ بفتواه والعمل برأيه وجعله قاضياً للقضاة، وجلوسه في البيت لإفتاء الناس!!
أما محمد بن الحسن الشيباني، فهو ثاني أبرز تلامذة أبي حنيفة، وقد درس عليه وناظر وسمع الحديث، لكن غلب عليه الرأي. قدم بغداد ودرس فيها، ثم خرج إلى الرقة وفيها هارون الرشيد، فولاه قضاء الرقة، وأخرجه هارون معه إلى الري فمات بها. كان ملازماً للسلطة العباسية وألف في الفقه الكثير. منها كتاب «الجامع الصغير» عن أبي يوسف عن أبي حنيفة، و«الجامع الكبير»، وله مؤلفات فقهية اُخرى، منها: (المبسوط في فروع الفقه) و(الزيادات) و (المخارج من الحيل) و(الأصل) و (الحجة على أهل المدينة) وغيرها من الكتب[3].
فهذا حال التدوين عند أصحاب أبي حنيفة والمسائل التي سارعليها طائفة كبيرة من المسلمين. وبذلك اتضح لك دور السلطة في انتشار مذهب أو التعتيم على آخر، وأن مهنة القضاء وتوجه الحكام إلى البعض من العلماء كان له الدور الأكبر في تعرف الناس على ذلك المذهب أو الفقيه.
وقد عرفت بأن ازدياد عدد أتباع هذا المذهب أو ذاك يرجع إلى العوامل الجانبيّة والسياسية لا المقومات الأساسية وقوة دليل المذهب، بل لمسايرته الساسة جنباً إلى جنب.
مذهب الإمام مالك:
بعد يأس المنصور من احتواء الإمام أبي حنيفة، توجه إلى الإمام مالك ليكتب له (الموطأ)، وقال له: انه سيحمل الناس على ذلك، ويجعل العلم علماً واحداً!
وبعد وفاة المنصور تمكن المهدي العباسي من احتواء كلا الخطين، إذ أناط إلى أبي يوسف مهنة القضاء وقربه إليه، في حين كان المنصور قبله قد كسب الإمام مالكاً، وقد قرأت ذلك سابقاً وعرفت تفانيه في خدمة المنصور.
وقد نقل عن الإمام مالك انه قال للمنصور: «لو لم يرك الله أهلاً لذلك ما قدر لك ملك أمر الاُمّة، وأزال عنهم الملك من بعد نبيهم ولقرب هذا الأمر إلى أهل بيته. أعانك الله على ما ولاك وألهمك الشكر على ما خولك، وأعانك على ما استرعاك».
واتخاذ هذا الموقف من قبل مالك لمصالح الحكام جعل اُستاذه ربيعة الرأي يبتعد عنه ويكرهه، لأنه كان لا يداهن السلطان ولا يرتضي التعامل معهم، فلذلك هجر الناس تبعاً للحكومة ربيعة الرأي، والتفوا حول مالك. وجاء عن المنصور انه قال لمالك: «يا عبدالله، ضع هذا العلم ودونه، وتجنب فيه شواذ عبدالله بن مسعود ورخص ابن عباس وشدائد ابن عمر، واقصد إلى أوسط الاُمور وما اجتمع عليه الأئمة والصحابة، لنحمل الناس إن شاء الله على علمك وكتبك ونبثها في الأمصار، ونعهد إليهم ألاّ يخالفوها ولا يقضوا بسواها»[4]. فاستجاب مالك لطلب المنصور، وألف (الموطأ) مع علمه بأن أهل العراق لا يستجيون لما كتبه، لكن المنصور طمأنه بأنه سيحملهم عليها بالقوة والسلطان!!
فصار (الموطأ) دستور الحكومة، وأول كتاب دون في الحديث للدولة العباسية. وروي أن القزاز قرأ الموطأ على مالك ليعلمه للرشيد ويبينه، وكان القزاز هذا قد أخذ أربعين ألف مسألة عن مالك[5]. وأمر الرشيد عامله على المدينة بأن لا يقطع أمراً دون مالك، واشتهر عن الرشيد أنه كان يجلس على الأرض أمامه لاستماع حديثه.
قال ابن حزم: مذهبان انتشرا في مبدأ أمرهما بالرياسة والسلطان، مذهب أبي حنيفة، فإنه لما ولي أبو يوسف القضاء كان لا يولي قاضياً إلاّ من أصحابه والمنتسبين إلى مذهبه، والثاني مذهب مالك…[6].
فلاحظ كيف صار فقه رسول الله(ص) يدوّن من قبل الحكام الذين لا يهمهم إلاّ الحكم !! وكيف استغلوا الفقهاء لترجيح الآراء المخالفة لفقه الطالبيين وأنصار التعبد المحض، ليكون نهجاً في الحياة دون فقه أهل البيت.
وقد طمأن مالك المنصور بأن الفقه سيبقى في أيديهم وليس لأهل البيت نصيب فيه، فجاء فيما قاله: يا أمير المؤمنين، لا تفعل، أما هذا الصقع فقد كفيتكه، وأما الشام ففيه الرجل الذي علمته يعني الأوزاعي وأما أهل العراق فهم أهل العراق!! وأن جملة (وأما الشام ففيه الرجل الذي علمته) تعني عداءهُ وبغضه لأهل البيت، وأنها هي المطلوبة، أي أنك قد حصلت على النتيجة دون مقدمات. وقد عرف عن المنصور أنه كان يعظمه ويراسله لما عرف عنه من الانحراف عن آل محمد (ص). قال الدهلوي في حجة الله البالغة: (فأي مذهب كان أصحابه مشهورين واُسند إليهم القضاء والإفتاء واشتهرت تصانيفهم في الناس، ودرسوا درساً ظاهراً انتشر في أقطار الأرض، لم يزل ينتشر كل حين. وأي مذهب كان أصحابه خاملين، ولم يولوا القضاء والإفتاء، ولم يرغب فيهم الناس اندرس بعد حين)[7].
هذا بالنسبة إلى المذاهب الحكومية.
أما مذهب أهل البيت فلم يكن يُسمح بتداوله، بل إن اتباع هذا المذهب، بممارساتهم الطقوس الدينية والعبادات الشرعية، يعرفون أنهم من المخالفين لنظام السلطة.
هذا وان أشهر كتب المذهب المالكي هي: المدونة، الواضحة، العتيبة، الموازنة.
مذهب الإمام الشافعي:
أما الإمام الشافعي، فإنه ارتبط بالفقه المالكي وحفظ الموطأ منذ صباه، وأحب أن يتصل بمالك فأخذ كتاباً من والي مكة إلى والي المدينة ليدخله على مالك، فلما وصل إلى المدينة وقدم إلى واليها الكتاب، قال الوالي: إن المشي، من جوف المدينة إلى جوف مكة حافياً راجلاً أهون عليَّ من المشي إلى باب مالك، فلست أرى الذل حتى أقف على بابه. يبدو من هذا الكلام أن الشافعي أراد الاتصال بمالك بعد سطوع نجمه وارتقاء محله عند العباسيين، حتى أن والي المدينة يشعر بالذلة والتصاغر أمام مالك والوقوف ببابه ! وقد طالت تلمذة الشافعي على يد مالك ما يقارب تسع سنين، ثم إن الشافعي أملق أشد الإملاق بعد موت مالك فرجع إلى مكة، وصادف ذلك أن قدم إلى الحجاز والي اليمن، فكلمه بعض القرشيين، فأخذه الوالي معه، وأعطاه عملاً من أعماله، وهي ولاية نجران. ثم وشي به عند الرشيد بتهمة كونه ذا ميول علوية ويحاول الخروج على الحكم، فأرسلوه إلى بغداد مكبلاً بالحديد، فتبرأ من تهمة انخراطه مع العلويين، وأكد إخلاصه للسلطة وشهد له صديقه محمد بن الحسن الشيباني الذي كان قد تعرف عليه عندما كان يدرس عند مالك ثلاث سنين، بأنه ثقة ومن أتباع الدولة، فخلى سبيله. وبعد هذا توطدت علاقته وصلاته بالشيباني، فأخذ يدرس عليه آراء أبي حنيفة في الرأي والقياس. إذن فالشافعي أخذ من كلا المدرستين (1 مدرسة الرأي والقياس، بواسطة محمد بن الحسن ؛ 2 مدرسة الأثر، من مالك بن أنس)، فكان نتاجه مدرسة جديدة خاصة به أشاعها في مصر بعدما عاد إليها من بغداد عام 199 هـ مع أميرها العباس بن عبدالله بن العباس. وأنه بدأ في تقوية بناء مدرسته، فهاجم مالكاً لتركه الأحاديث الصحيحة لقول واحد من الصحابة أو التابعين أو لرأي نفسه، وهاجم أبا حنيفة وأصحابه لأنهم يشترطون في الحديث أن يكون مشهوراً ويقدمون القياس على خبر الآحاد وإن صح سنده، وأنكر عليهم تركهم بعض الأخبار لأنها غير مشهورة وعملهم بأحاديث لم تصح لأنها مشهورة، فاستاء منه المالكيون وأخذوا يبتعدون عنه، لأنه أخذ يغير آراءه القديمة التي كان يقول بها سابقاً والتي كانت موافقة لرأي مالك في الغالب ويرسم مكانها رأيه الجديد المتخذ على ضوء القياس والرأي المخلوط بالأثر. ولما استقر مذهبه الجديد شغب عليه بعض عوام أصحاب مالك فقتلوه[8].
وقد وردت طعون على الشافعي كعدم نقل البخاري ومسلم حديثاً عنه في صحاحهم، وما نقله أحمد بن حنبل عن الشافعي قوله: أنتم أعلم بالأخبار الصحاح منا؛ وقول أبي ثور: ما كان الشافعي يعرف الحديث، وإنما كنا نوقفه عليه ونكتِّبه[9]، وغيرها، لكنا نحتمل كونها طعوناً عصبية، فإن ترك البخاري ومسلم التحديث عن الشافعي لم يكن دليلاً على الجرح فيه، إذ لم يكن ذلك دائراً مدار الواقع، فإن الصحيح هو ما صح عندهما وإن كان مخالفاً للواقع، فنراهما كثيراً ما يرويان عن أشخاص ضعاف أو عرفوا بالكذب، وعدت تلك الروايات بمنزلة الصحاح، وان المؤاخذات على البخاري لم تنحصر بهذا فقط.
وعلى هذا يحتمل أن يكون عدم تحديث البخاري ومسلم، وغيرها من الطعون المذكورة فيه، إنما جاءت لقوله: إن علي بن أبي طالب هو الإمام الحق في عصره، وأن معاوية وأصحابه كانوا الفئة الباغية. وقد اتخذ الشافعي في كتاب السير من فقهه سنة علي(ع) في معاملة البغاة، وإظهاره حب آل محمد (ص) رغم وقوف الحكام في طريق ذلك، وقد اشتهر عنه قوله:
(إن كان رفضاً حب آل محمد فليشهد الثقلان اني رافضي)
فهذه المواقف كانت لا ترضي الحكام، وهي التي أوجدت نسبة تلك الطعون وأمثالها فيه.
مذهب الإمام أحمد بن حنبل:
ولد الإمام أحمد بن حنبل في عهد المهديّ سنة 164 هـ، ونشأ ببغداد وتربّي بها، واتّجه إلى طلب العلم وهو ابن خمس عشرة سنة، ورحل إلى الأقطار، وكتب عن الشيوخ، وأخذ عن الشافعيّ واتّصل به اتّصالاً وثيقاً، ولازمه مدّة إقامته في بغداد. وكان أوّل تلقيه العلم على القاضي أبي يوسف المتوفى سنة 182هـ، وصرّح أحمد بأنّه كان أوّل من كتب عنه الحديث، إلاّ أنّه لم يبق طويلاً معه، وانصرف إلى فقه الأثر الذي كان يمثّله هشيم بن بشير الواسطيّ، ولازمه إلى أن توفي هشيم سنة 183هـ. وقد أخذ عن كثير من المحدّثين، وأخذ على نفسه أن يلتزم مدرسة الأثر ويخالف مدرسة الرأي والقياس، فقرأ على محدّث البصرة عبد الرحمن بن مهدي الموطّأ لمالك أربع مرّات، وكان معجباً بالشافعيّ، وتصدّر للتحديث في مسجد الخيف سنة 198هـ، وقيل: إنّه ما افتى ولا درّس حتّى بلغ سنّ الأربعين في سنة 204هـ ! !
وقد أيّد (الامام احمد بن حنبل) العبّاسيين منذ صباه، فروى فيهم حديثين انفرد بهما، يبشر فيهما بظهور أبي العبّاس السفّاح والدولة العبّاسيّة وشعارها السواد [10]، وكان يقول: (إنّ العبّاس أبو الخلفاء) [11].
وثبت على ولائه رغم ما أصابه من محنة خلق القرآن وضربه بالسياط. وقد استفتاه جماعة في الخروج على الواثق فرفض ذلك وأقرّ خلافته بقوله: (إنّ الخارج عليه شاقّ لعصا المسلمين ومخالف للآثار عن رسول الله). ويعزى تحرّجه عن أخذ أموال بني العبّاس لكونها مغصوبة، لا خدشة في مشروعيّة خلافتهم وكان يرى عليّاً (ع) رابع الخلفاء الراشدين، في الوقت نفسه لم يلتزم أن يكون معاوية باغياً على الإمام عليّ كما ذهب إليه الشافعيّ. والجدير ذكره أنّ الإمام أحمد لم يشتهر كباقي أصحاب المذاهب، ويرجع البعض سبب ذلك إلى أنّه كان محدّثاً ولم يكن فقيهاً، حتّى قيل إنّ شهرته كانت بسبب عدم قوله بخلق القرآن وقد قال بها بعدما ضرب ثمانية وثلاثين سوطاً أيّام المعتصم. ولمّا تولّى الواثق أعاد امتحان أحمد، لكنّه لم يصبه بأذى، واكتفى بمنعه من الاجتماع بالناس، فأقام أحمد مختفياً لايخرج إلى الصلاة ولا إلى غيرها حتّى مات الواثق.
وتولّى المتوكّل الخلافة سنة 232 هـ واشتدّت وطأته على العلويين، وعرف ببغضه لأهل البيت(ع)، وطرد المعتزلة من حاشيته، ونكلّ بابن أبي دواد ومحمّد ابن عبد الملك الزيّات وصادر أموالهم، وأخذ يقرّب أصحاب الحديث ويأمر المحدّثين أن يجلسوا للناس ويتحدّثوا إليهم، وأعطاهم الأموال والمكانة، حتّى أنّ ابن كثير نقل أنّ تولية يحيى بن أكثم كانت بمشورة الإمام أحمد بن حنبل[12]، وفي نص آخر انّ المتوكّل قال: له يا أحمد انيّ أريد أن أجعلك بيني وبين الله حجّة فأظهرني على السنّة والجماعة، وما كتبته عن أصحابك عمّا كتبوه عن التابعين ممّا كتبوه عن أصحاب رسول الله [13].
وقد وشى بعضهم بأحمد عند المتوكّل بأنّه يشتم آباءه ويرميهم بالزندقة، فأمر المتوكّل بضرب ذلك الرجل الواشي، وعندما سئل عن ذلك قال: (لأنّه قذف هذا الشيخ الرجل الصالح أحمد بن حنبل) [14]. نعم، لقد استمع المتوكّل إلى أقوال الجواسيس بأنّ أحمد يؤوي أحد العلويين الهاربين من المتوكّل، فأمر بكبس داره وتفتيشها، فلمّا تحقّقوا من كذب ذلك عفا عنه المتوكّل [15].
وكان المتوكّل يصله بصلات سنيّة، ويعطف عليه، وعيّن له في كلّ شهر أربعة ألاف درهم، وطلبه إلى سامراء ليتبرّك برؤياه، وينتفع بعلمه، فامتنع أحمد، ثمّ قبل ذلك[16]. وروي عنه أنّه قال: «ما أرى الرافضة على الإسلام»[17]. فقد كسب عطف المتوكّل حتّى قيل: إنّ بعض أمراء المتوكلّ قالوا له: إنّ أحمد لا يأكل لك طعاماً ولا يشرب لك شراباً ولا يجلس على فراشك ويحرّم ما تشربه. فقال المتوكّل لهم: والله لو نشر المعتصم وكلّمني في أحمد ما قبلت منه[18]!
بعد عرضنا السريع لنشوء المذاهب الأربعة، نستطيع أن نفهم وبكّل وضوح أنّ روايات الوضوء المرويّة في هذه الكتب هي نسخ متكرّرة من الوضوء العثمانيّ والفقه المخالف لمدرسة التعبّد وما ذهب إليه عليّ بن أبي طالب (ع) وابن عبّاس 2. لأنّ الفقه والرواية كما قلنا نشأ وترعرعا في أحضان الحكومتين الأمويّة والعبّاسيّة، وقد وقفت على دورهم التخريبيّ في الشريعة واحتوائهم بالفقهاء وبعض التابعين، لإبعاد الناس عن الأخذ بفقه عليّ (ع)، إذا إنّهم كانوا يتصوّرون أنّ الأخذ بفقه عليّ (ع) هو مقدّمة لإبعادهم عن الحكم وتقرّب الناس إلى أهل بيت النبوّة(ع)، وهذا ما كان يزعج الحكّام ولا يرضيهم، فتراهم يؤكّدون على الأخذ بكلام ابن عمر وإن خالف عليّاً (ع) وابن عبّاس 2. وإليك نصّاً آخر: دخل مالك بن أنس على المنصور فقال له: يا مالك مالي أراك تعتمد على قول ابن عمر دون أصحاب رسول الله؟فقال مالك: يا أمير المؤمنين إنّه آخر من بقي عندنا من أصحاب رسول الله (ص) فاحتاج الناس إليه، فسألوه وتمسّكوا بقوله. فقال: يا مالك عليك بما تعرف أنّه الحقّ عندك، ولا تقلّدنّ عليّاً وابن عبّاس[19]. بعد هذا لا يمكننا الاطمئنان إلى مرويّات هذه الكتب بلا تحقيق وتمحيص سنداً ودلالة وزيادة ونقيصة، وبدون معرفة الملابسات التاريخيّة لصدور الأحكام، لأنّ ما تحتوي عليه ممّا طالته السياسة. وقد عرفت أنّها تريد تدوين ما ترتضيه وترك ما لا ترتضيه.
[1] استل هذا البحث من كتاب وضوء النبي (ص) ، للسيّد علي الشهرستاني ، ص 319 ـ 331.
[2] نقلنا النص عن نشوار المحاضرة 1: 253، وانظر: وفيات الأعيان ذلك.
[3] الأعلام للزركلي 6: 80.
[4] الإمامة والسياسة 2: 150.
[5] طبقات الفقهاء لأبي إسحاق الشيرازي: 148.
[6] وفيات الأعيان 6: 144.
[7] الإمام الصادق والمذاهب الأربعة 2: 11، عن حجة الله البالغة 1: 151.
[8] معجم الاُدباء 17: 289.
[9] البداية والنهاية 9: 327، طبقات الحنابلة 1: 282، آداب الشافعي 95.. اعتماداً على ما نقله أسد حيدر في الإمام الصادق والمذاهب الأربعة عنها، انظر 2: 244.
[10] البداية والنهاية 10: 53 و 61.
[11] إسلام بلا مذاهب للشكعة: 466.
[12] البداية والنهاية 10: 330.
[13] التنبيه والردّ لابن الحسين الملطيّ: 17.
[14] البداية والنهاية 10: 354.
[15] مناقب أحمد ابن الجوزيّ: 36.
[16] البداية والنهاية 10: 350.
[17] المناقب لابن الجوزيّ: 214.
[18] البداية والنهاية 10: 354.
[19] انظر: الإمام الصادق والمذاهب الأربعة 1: 504 505.