قال العلامة المحقق السيد عبد الحسين شرف الدين :
بنزول الآية ﴿يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ﴾ المائدة/67 نزل (ص) واستنزل من معه عن رواحلهم، فأرسل من استرجع المتقدمين من الحجاج، وانتظر المتأخرين، حتى اجتمع الناس كلهم في صعيد واحد، فصلى بهم فريضة الوقت، وعمل له منبر عال من حدائج الإبل بين دوحتين من سمر ظللوا عليه من الشمس بينهما، فرقي ذروة المنبر وأجلس عليا دونه بمرقاة، ووقف للخطابة عن الله عز وجل في تلك الجماهير فابتدأ ببسم الله والحمد لله، والثناء على الله، والشكر لآلائه، فقال في ذلك ما شاء أن يقول، ثم أهاب بالناس يسمعهم صوته، فقصروا عليه أسماعهم وأفئدتهم صاغين.
وإليكم نص بعض المأثور من خطابه يومئذ بعين لفظه: “أيها الناس يوشك أن أدعى فأجيب وإني مسؤول وإنكم مسؤولون فماذا أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت وجاهدت ونصحت، فجزاك الله خيرا فقال: أليس تشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله وأن جنته حق، وأن ناره حق، وأن الموت حق، وأن البعث حق بعد الموت، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور؟. قالوا: بلى نشهد بذلك. قال: اللهم اشهد ثم قال: يا أيها الناس إن الله مولاي وأنا مولى المؤمنين، وأنا أولى بهم من أنفسهم، فمن كنت مولاه، فهذا علي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، ثم قال: يا أيها الناس إني فرطكم وإنكم واردون على الحوض، حوض أعرض مما بين بصرى إلى صنعاء فيه عدد النجوم قدحان من فضة، وأني سائلكم حين تردون علي عن الثقلين كيف تخلفوني فيهما، الثقل الأكبر كتاب الله عز وجل سبب طرفه بيد الله تعالى وطرفه بأيديكم فاستمسكوا به لا تضلوا ولا تبدلوا وعترتي أهل بيتي، فإنه قد نبأني اللطيف الخبير أنهما لن ينقضيا حتى يردا علي الحوض ا ه.. (الحديث) .
قال : لا كلام في صحة هذا الحديث بلفظه، ولا ريب في تواتره من حيث المعنى بألفاظ متقاربة غير أن شيخ الإسلام شيخنا البشري قال فيما راجَعَنا به مما يتعلق بهذا الحديث:
(إن حمل الصحابة على الصحة يستوجب تأويل هذا الحديث – حديث الغدير – متواترا كان أو غير متواتر، ولذا قال أهل السنة لفظ المولى يستعمل في معاني متعددة، ورد بها في القرآن العظيم،
فتارة يكون بمعنى الأولى، كقوله تعالى مخاطبا للكفار (مأواكم النار هي مولاكم) أي أولى بكم،
وتارة بمعنى الناصر كقوله عز اسمه: (ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم)
وبمعنى الوارث كقوله سبحانه: (ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون) أي ورثة،
وبمعنى العصبة نحو قوله عز وجل: (وإني خفت الموالي من ورائي)
وبمعنى الصديق: (يوم لا يغني مولى عن مولى شيئا)
وكذلك لفظ الولي يجئ بمعنى الأولى بالتصرف، كقولنا: فلان ولي القاصر، وبمعنى الناصر والمحبوب. قالوا: فلعل معنى الحديث، مَن كنتُ ناصرَه، أو صديقَه، أو حبيبَه، فإن عليا كذلك، وهذا المعنى يوافق كرامة السلف الصالح، وإمامة الخلفاء الثلاثة رضي الله عنهم أجمعين.
قال: فقلت له في الجواب: أنا أعلم بأن قلوبكم لا تطمئن بما نقلتموه ونفوسكم لا تركن إليه، وإنكم تقدرون رسول الله في حكمته البالغة، وعصمته الواجبة، ونبوته الخاتمة، وأنه سيد الحكماء، وخاتم الأنبياء (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى علمه شديد القوى)،
فلو سألكم فلاسفة الأغيار عما كان منه يوم غدير خم، فقال: لماذا منع تلك الألوف المؤلفة يومئذ عن المسير؟
وعلى مَ حبسهم في تلك الرمضاء بهجير؟
وفيم اهتم بإرجاع من تقدم منهم وإلحاق من تأخر؟
ولم أنزلهم جميعا في ذلك العراء على غير كلاء ولا ماء؟
ثم خطبهم عن الله عز وجل في ذلك المكان الذي منه يتفرقون، ليبلغ الشاهد منهم الغائب، وما المقتضي لنعي نفسه إليهم في مستهل خطابه؟
إذ قال: يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب، وإني مسؤول، وإنكم مسؤولون، وأي أمر يسأل النبي عن تبليغه؟
وتسأل الأمة عن طاعتها فيه؟
ولماذا سألهم فقال؟ ألستم تشهدون أن لا إله إلا الله، وإن محمدا عبده ورسوله، وإن جنته حق وأن ناره حق، وإن الموت حق، وإن البعث حق بعد الموت، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور؟ قالوا: بلى نشهد بذلك.
ولماذا أخذ حينئذ على سبيل الفور بيد علي فرفعها إليه حتى بان بياض إبطيهما؟ فقال ” يا أيها الناس إن الله مولاي، وأنا مولى المؤمنين “، ولماذا فسر كلمته – وأنا مولى المؤمنين – بقوله وأنا أولى بهم من أنفسهم؟
ولماذا قال بعد هذا التفسير ” فمن كنت مولاه، فهذا مولاه، أو من كنت وليه فهذا وليه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله؟ ”
ولم خصه بهذه الدعوات التي لا يليق لها إلا أئمة الحق، وخلفاء الصدق؟
ولماذا أشهدهم من قبل فقال: ألست أولى بكم من أنفسكم؟ فقالوا: بلى. فقال: من كنت مولاه، فعلي مولاه، أو من كنت وليه، فعلي وليه، ولماذا قرن العترة بالكتاب، وجعلها قدوة لأولي الألباب إلى يوم الحساب؟
وبم كانت لديه عدل القرآن؟ ولم أخبر أنهما لا يفترقان؟
وفيم بشّر بهدي من تمسك بهما، وأنذر بضلال من تخلف عنهما؟ وعلى مَ هذا الاهتمام العظيم من النبي الحكيم؟
وما المهمة التي احتاجت إلى هذه المقدمات كلها؟ وما الغاية التي توخاها في هذا الموقف المشهود؟
وما الشئ الذي أمره الله تعالى بتبليغه إذ قال عز من قائل: (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس)
وأي مهمة استوجبت من الله هذا التأكيد، واقتضت الحض على تبليغها بما يشبه التهديد؟ وأي أمر يخشى النبي الفتنة بتبليغه؟ ويحتاج إلى عصمة الله من أذى المنافقين ببيانه؟
أكنتم – بجدك لو سألكم عن هذا كله – تجيبونه بأن الله عز وجل ورسوله إنما أرادا بيان نصرة علي للمسلمين، وصداقته لهم ليس إلا؟
ما أراكم ترتضون هذا الجواب، ولا أتوهم أنكم ترون مضمونه جائزا على رب الأرباب، ولا على سيد الحكماء، وخاتم الرسل والأنبياء، وأنتم أجل من أن تجوزوا عليه أن يصرف هممه كلها، وعزائمه بأسرها، إلى تبيين شئ بين لا يحتاج إلى بيان، وتوضيح أمر واضح بحكم الوجدان والعيان، ولا شك أنكم تنزهون أفعاله وأقواله عن أن تزدري بها العقلاء، أو ينتقدها الفلاسفة والحكماء، بل لا ريب في إنكم تعرفون مكانة قوله وفعله من الحكمة والعصمة، وقد قال الله تعالى: (انه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين وما صاحبكم بمجنون) فيهتم بتوضيح الواضحات، وتبيين ما هو بحكم البديهيات، ويقدم لتوضيح هذا الواضح مقدمات أجنبية لا ربط له بها، ولا دخل لها فيه، تعالى الله عن ذلك ورسوله علوا كبيرا،
وأنت – نصر الله بك الحق – تعلم أن الذي يناسب مقامه واهتمامه في ذلك الهجير، ويليق بأقواله وأفعاله يوم الغدير، إنما هو تبليغ عهده، وتعيين القائم مقامه من بعده، والقرائن القطعية، والأدلة العقلية، توجبان القطع الثابت الجازم بأنه ما أراد يومئذ إلا تعيين علي واليا لعهده وقائما مقامه من بعده. فالحديث مع ما قد حف به من القرائن، نص جلي، في خلافة علي، لا يقبل التأويل، وليس إلى صرفه عن هذا المعنى من سبيل، وهذا واضح والحمد لله (لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد).
على أن هذا الحديث لم يسلم من الاختصار بحذف شئ من نصوصه قطعا لأن القوة الفعالة والأكثرية الساحقة يومئذ إنما كانتا في جانب المعارضين الحول القلب، ولهم كانت الغلبة وعاقبة السلطة، ومع ذلك فإن الشذرة الباقية من شذور الحديث كافية وافية والحمد لله، والعجب كل العجب من بقائها، وإنما بقيت (ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة) (ولله الحجة البالغة على الناس).
أما نحن الإمامية فقد تواتر لدينا من طريق الإمام أبي عبد الله الصادق عن آبائه الميامين عن جدهم أنه نص على علي يوم الغدير بالخلافة عنه نصا صريحا بكل جلاء، وأنه أمر أصحابه يومئذ بأن يسلموا عليه بإمرة المؤمنين، وأن البعض منهم سلم ولم يقل شيئا. والبعض إنما سلم بعد أن قال للنبي : أعن الله ورسوله ذلك يا رسول الله؟. فقال نعم إنما هو عن الله ورسوله .
فصرح الحق يومئذ عن محضه. وأسفر الصبح والحمد لله لذي عينين. كما قال أبو تمام الطائي من قصيدة. له عصماء هي في ديوانه :
ويوم الغدير استوضح الحق أهله *** بفيحاء ما فيها حجاب ولا ستر
يمد بضبعيه ويعلم أنه *** ولي ومولاكم فهل لكم خبر
يروح ويغدو بالبيان لمعشر *** يروح بهم غمر ويغدو بهم غمر
فكان له جهر بإثبات حقه *** وكان لهم في بزهم حقه جهر
أثم جعلتم حظه حد مرهف *** من البيض يوما حظ صاحبه القبر
وقال الكميت بن زيد : *** ويوم الدوح دوح غدير خم
أبان له الخلافة لو أطيعا *** ولكن الرجال تبايعوها
فلم أر مثلها خطرا مبيعا *** ولم أر مثل ذاك اليوم يوما
ولم أر مثله حقا أضيعا *** فلم أبلغ بها لعنا ولكن
أقول أساء أولهم صنيعا
وقال الله تعالى: (لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون) .
ما كان المعارضون ليحسبوا أن رسول الله (ص) سيقف موقفه الذي وقفه يوم الغدير أبدا، فلما فاجأهم به وأدى فيه عن الله ما أدى، رأوا أن معارضته في آخر أمره وقد بخعت العرب لطاعته، ودخل الناس في دين الله أفواجا لا تجديهم نفعا، بل تسبب لهم الويلات، لأنها تستلزم إما سقوطهم بالخصوص، أو سقوط الإسلام والعرب عامة، وحينئذ يفوتهم الغرض الذي كانوا يأملون، والمنصب الذي كانوا له يعملون. لهذا رأوا أن الصبر عن الوثبة أحجى، فأجمعوا على تأجيلها إلى بعد النبي (ص)، لئلا يكون الخروج عليه نفسه، وهكذا كان الأمر منهم بكل لباقة ممكنة، وكل عناية بالشعائر الإسلامية واحتياط عليها، وجهاد في سبيلها أبلوا فيه بلاءا حسنا، وقد أوحى الله عز وجل إلى نبيه بما كانوا يضمرون، وأطلعه على ما سيكون، لكن الدين لا بد من اكماله، والنعمة لا محيص من اتمامها، والرسالة لا مندوحة من تبليغها، (ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة) .
(وما على الرسول إلا البلاغ المبين) .
نعم عهد لوصيه وخليفته من بعده، أن يتغمدهم حين يعارضونه بسعة ذرعه، ويتلقاهم بطول أناته، وأمره أن يصبر على استئثارهم بحقه، وأن يتلقى تلك المحنة بكظم الغيظ والاحتساب، احتياطا على الإسلام، وإيثارا للصالح العام، وأمر الأمة بالصبر على تلك الملمة – كما فصلناه في كتاب المراجعات -.
وحسبك مما صح من أوامره بذلك قوله في حديث حذيفة بن اليمان: ” يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي، ولا يستنون بسنتي، وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان أنس قال حذيفة: كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك. قال: تسمع وتطيع للأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع له وأطع ” .
ومثله قوله في حديث عبد الله بن مسعود: ” ستكون بعدي إثرة وأمور تنكرونها، قالوا: يا رسول الله كيف تأمر من أدرك منا ذلك؟. قال : تؤدون الحق الذي عليكم وتسألون الله الذي لكم ” وكان أبو ذر يقول: ” إن خليلي رسول الله أوصاني أن أسمع وأطيع وإن كان عبدا مجدع الأطراف ” .
وقال سلمة الجعفي فيما أخرجه عنه مسلم ص 119 من الجزء 2 من صحيحه يا نبي الله أرأيت أن قامت علينا أمراء يسألوننا حقهم، ويمنعوننا حقنا فما تأمرنا قال: ” اسمعوا وأطيعوا، فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم ” .
وعن أم سلمة: أن رسول الله (ص)قال: ستكون أمراء عليكم فتعرفون وتنكرون، فمن عرف برئ، ومن أنكر سلم قالوا أفلا نقاتلهم؟. قال لا ما صلوا ” . والصحاح في هذا المعنى متواترة، ولا سيما من طرق العترة الطاهرة.
ولذا صبروا وفي العين منهم قذى، وفي الحلق شجى، عملا بهذه الأوامر المقدسة، وغيرها مما عهد النبي إليهم بالخصوص، احتياطا على الأمة، واحتفاظا بالشوكة، وإيثار للدين، وضنا بريح المسلمين، فكانوا كما قلناه (في المراجعات وغيرها من كتبنا) يتحرون للقائمين، بأمور الأمة وجوه النصح، وهم – من استئثارهم – على أمر من العلقم ويتوخون لهم مناهج الرشد وهم – من تبوئهم عرشهم – على آلم للقلب من حز الشفار تنفيذا للعهد، وعملا بمقتضى العقد، وقياما بالواجب عقلا وشرعا من تقديم الأهم (في مقام التعارض) على المهم، وبهذا محض أمير المؤمنين كلا من الخلفاء الثلاثة نصحه، واجتهد لهم في المشورة، فإنه بعد أن يئس من حقه في الخلافة شق بنفسه طريق الموادعة، وآثر مسالمة القائمين بالأمر، فكان يرى عرشه – المعهود به إليه – في قبضتهم فلم يحاربهم عليه، ولم يدافعهم عنه، احتفاظا بالأمة، واحتياطا على الملة، وضنا بالدين وإيثارا للأجلة على العاجلة، وقد مني بما لم يمن به أحد، حيث وقف بين خطبين فادحين: الخلافة بنصوصها وعهودها إلى جانب تستصرخه وتستفزه إليها بصوت يدمي الفؤاد، وشكوى تفتت الأكباد، والفتن الطاغية، إلى جانب آخر تنذره بانتقاض الجزيرة وانقلاب العرب، واجتياح الإسلام، وتهدده بالمنافقين من أهل المدينة وقد مردوا على النفاق، وبمن حولهم من الأعراب وهم منافقون بنص الكتاب، بل هم أشد كفرا ونفاقا، وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله، وبأهل مكة الطلقاء مضمري العداوة والبغضاء ومن كان على شاكلتهم من ضواري الفتنة، وطواغي الغي وسباع الغارة وأعداء الحق، وقد قويت بفقد النبي شوكتهم، إذ صار المسلمون بعده كالغنم المطيرة في الليلة الشاتية بين ذئاب عادية ووحوش ضارية، ومسيلمة الكذاب، وطليحة بن خويلد الدجال، وسجاح بنت الحارث الأفاكة، وأصحابهم قائمون (في محق الإسلام وسحق المسلمين) على ساق. والرومان والأكاسرة وغيرهما من ملوك الأرض كانوا للمسلمين بالمرصاد إلى كثير من هذه العناصر الجياشة بكل حنق من محمد وبكل حقد وحسيكة لكلمة الإسلام تريد أن تنقض أساسها، وتستأصل شأفتها وأنها لنشيطة في ذلك مسرعة متعجلة، ترى أن الأمر قد استتب، لها وأن الفرصة بفقد رسول الله قد حانت، فأرادت أن تسخر تلك الفرصة وتنتهز تلك الفوضى، قبل أن يعود الإسلام إلى قوة وانتظام، فوقف أمير المؤمنين بين هذين الخطرين، فكان من الطبيعي له أن يضحي حقه قربانا لدين الإسلام وإيثارا للصالح العام، لذلك قعد في بيته – فلم يبايع حتى أخرجوه كرها – احتفاظا بحقه واحتجاجا على المستأثرين به وعلى أوليائهم يوم القيامة ولو أسرع إلى البيعة ما قامت له بعد حجة، ولا سطع لأوليائه برهان، لكنه جمع فيما فعل بين حفظ الدين والمسلمين، والاحتفاظ بحقه في إمرة المؤمنين فدل هذا على أصالة رأيه، ورجاحة حلمه، وسعة صدره، وإيثار المصلحة العامة بحكمة بالغة، ومتى سخت نفس امرئ عن هذا الخطب الجليل والأمر العظيم ينزل من الله تعالى بغاية منازل الدين، وإنما كانت غايته مما فعل أربح الحالين له وأعود المقصودين عليه بالأجر والثواب، والقرب من رب الأرباب (سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين) وصلى الله على سيد النبيين وخاتم المرسلين وآله الهداة الميامين.■■