اصدر مركز فجر عاشوراء الثقافي الكراس رقم (51) بعنوان «تحريف أخبار السيرة النبوية ـ الأهداف النماذج الدوافع» لسماحة العلامة المحقق السيد سامي البدري.
من الأسس المهمة في التعرُّف على سيرة النبي (ص) هو: أن أخبار السيرة لم تسلم من الكتمان والتحريف والوضع.
أما الكتمان فالمقصود به: المنع من نشر سيرة وأحاديث النبي (ص) وتخويف واضطهاد من يقوم بنشرها من المسلمين، وقد حَدَث ذلك في الفترة بعد رحيل النبي (ص) زمن دولة الخلفاء الثلاثة وكذلك الدولة الأموية وحتى في الدولة العباسية.
ويقصد بالتحريف هو العبث بأخبار السيرة النبوية وتغيير أجزاء منها لتتناسب مع هدف مرسوم سلفا.
ويقصد بالوضع هو اختلاق خبر ليس له واقع من أوله إلى آخره بهدف تغيير الصورة عن النبي (ص) وتغيير آراء الناس عنه.
الكرّاس الحاضر بين يديك القارئ الكريم، يتناول هذا الموضوع الحسّاس من جوانب متعددة.
وأصل هذا البحث هو الفصل الثالث إلى الخامس من الباب الأول من كتاب المدخل إلى دراسة مصادر السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي للعلامة المحقق السيد سامي البدري، اعدْنا نشره بهذه الهيئة ليكون قريب المنال سهل التناول.
يتناول العلامة البدري في البداية ظاهرة تحريف سيرة الأنبياء السابقين، وأن الإنسان حين يعجز عن مجارات ظاهرة النبوة يجْنَح إلى تحريف أخبار سيرة الأنبياء وأقوالهم، ويعرض في هذا السبيل ثلاثة نماذج من تحريف سيرة الأنبياء السابقين: يرتبط الأول بهارون والعجل، ويرتبط الثاني بداوود وأوريا، والثالث بلوط وابنتيه.
أما بالنسبة لتحريف أخبار سيرة سيد الأنبياء والمرسلين محمد (ص) يشرح العلامة البدري ان هناك صورتان تعرضها الأخبار في المصادر الإسلامية، فصورة تُظهره انه شخصيّة اقل خُلقا وأُفقا من الإنسان الاعتيادي، وصورة أخرى تظهره انه مثلا أعلى في جميع الميادين الفردية والاجتماعية والرُّوحية، ثم يذكر نماذج من الأخبار المحرّفة لكلا الصورتين سواء من الوقائع التاريخيّة في العهدين المكي والمدني أو الوقائع السلوكية من كلا الصورتين مع التعليق المناسب.
ثم يتعمّق العلامة البدري أكثر في هذا الموضوع ويشرح ثلاثة من اهم دوافع التحريف بشكل وافي مع ذكر الأخبار المرتبطة.
المحتويات
«صفحة 1»
تحريف أخبار السيرة النبوية
الاهداف النماذج الدوافع
تأليف : السيد سامي البدري
«صفحة 2»
هوية الاصدار:
عنوان الإصدار : تحريف أخبار السيرة النبوية ـ الاهداف النماذج الدوافع
تأليف : السيد سامي البدري
سنة الإصدار : 2023/1445 ـ رقم (51)
نوع الإصدار : إلكتروني ـ PDF
الناشر : مركز فجر عاشوراء الثقافي
الموقع : fajrashura.com
ملاحظة: ترقيم الصفحات موافق للإصدار المنشور.
«صفحة 3»
«صفحة 4»
«صفحة 5»
مقدمة المركز
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين.
وبعد.. فإن سيرة النبي (صلى الله عليه وآله) تعدُّ عند المسلمين جميعاً من اهم روافد الإسلام بعد كتاب الله، لأنها تجسِّد الإسلام في الجانب العملي والتطبيقي وتكشف عن قِيَمه ومَوازينه.
والقرآن الكريم قد أولى اهتماماً كبيراً لشخصية النبي (صلى الله عليه وآله) والتعريف بها في عدة آيات، منها:
الأسوة الحسنة: ﴿لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً21﴾ الأحزاب/21
الخُلق العظيم﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ 4﴾ القلم/4.
ان طاعته (صلى الله عليه وآله) من طاعة الله﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً80﴾ النساء/80.
«صفحة 6»
أن التزام سنَّة النبي (صلى الله عليه وآله) وسيرته من تقوى الله: ﴿وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ7﴾ الحشر/7.
أن علم النبي (صلى الله عليه وآله) وحي من الله تعالى ولا ينطق عن الهوى: ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالنَّجْمِ إِذا هَوى1ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى2وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى3إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى4عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى5ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى6وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلى7ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى8فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى9فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى10ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى11أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى12وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى13عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى14عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى15إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى16ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى17لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى18﴾ النجم/1ـ18.
ويصف أمير البيان الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) شخصية رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيقول:
«فَهُوَ إِمَامُ مَنِ اتَّقَى، وَبَصِيرَةُ مَنِ اهْتَدَى، وسِرَاجٌ لَمَعَ ضَوْؤُهُ، وَشِهَابٌ سَطَعَ نُورُهُ وَزَنْدٌ
«صفحة 7»
بَرَقَ لَمْعُهُ، سِيرَتُهُ الْقَصْدُ، وَسُنَّتُهُ الرُّشْدُ، وَكَلاَمُهُ الْفَصْلُ».
ورسول الله (صلى الله عليه وآله) مع ماله من كرامةٍ على الخلق أجمعين كان زاهدًا في الدنيا، ولم تبسط الدنيا له زينتها وزخارفها؛ بل زوِيت عنه بإرادته واختياره، وفي ذلك يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): «وَلَقَدْ كَانَ فِي رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله) كَاف لَكَ فِي الأسْوَةِ، وَدَلِيلٌ لَكَ عَلَى ذَمِّ الدُّنْيَا وَعَيْبِهَا، وَكَثْرَةِ مَخَازِيهَا وَمَسَاوِيهَا، إِذْ قُبِضَتْ عَنْهُ أَطْرَافُهَا، وَوُطِّئَتْ لِغَيْرِهِ أَكْنَافُهَا، وَفُطِمَ مِنْ رَضَاعِهَا، وَزُوِيَ عَنْ زَخَارِفِهَا».
ويصف أمير المؤمنين (عليه السلام) رزِّية وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعظمتها فيقول: «بِأَبِي أَنْتَ وأُمِّي، لَقَدِ انْقَطَعَ بِمَوْتِكَ مَا لَمْ يَنْقَطِعْ بِمَوْتِ غَيْرِكَ مِنَ النُّبُوَّةِ وَالأنبَاءِ وأَخْبَارِ السَّماءِ، خَصَصْتَ حَتَّى صِرْتَ مُسَلِّياً عَمَّنْ سِوَاكَ، وَعَمَمْتَ حَتّى صَارَ النَّاسُ فِيكَ سَواءً، وَلَوْ لاَ أَنَّكَ أَمَرْتَ بِالصَّبْرِ، وَنَهَيْتَ عَنِ الْجَزَعِ، لأنْفَدْنَا عَلَيْكَ مَاءَ الشُّؤُونِ، وَلَكَانَ
«صفحة 8»
الدَّاءُ مُمَاطِلاً، وَالْكَمَدُ مُحَالِفاً، وَقَلاَّ لَكَ وَلكِنَّهُ مَا لاَ يُمْلَكُ رَدُّهُ، وَلاَ يُسْتَطَاعُ دَفْعُهُ».
وقال (عليه السلام) أيضًا: «إِنَّ الصَّبْرَ لَجَمِيلٌ إِلاَّ عَنْكَ، وَإِنَّ الْجَزَعَ لَقَبِيحٌ إِلاَّ عَلَيْكَ، وَإِنَّ الْمُصَابَ بِكَ لَجَلِيلٌ، وَإِنَّهُ قَبْلَكَ وَبَعْدَكَ لَجَلَلٌ».
والأمر المهم الذي يجب أن يجعل أساسا في التعرُّف على سيرة النبي (صلى الله عليه وآله) هو أن أخبار السيرة لم تسلم من الكتمان والتحريف والوضع.
أما الكتمان فالمقصود به: المنع من نشر سيرة وأحاديث النبي (صلى الله عليه وآله) وتخويف واضطهاد من يقوم بنشرها من المسلمين، وقد حَدَث ذلك في الفترة بعد رحيل النبي (صلى الله عليه وآله) زمن دولة الخلفاء الثلاثة وكذلك الدولة الأموية وحتى في الدولة العباسية.
ويقصد بالتحريف هو العبث بأخبار السيرة النبوية وتغيير أجزاء منها لتتناسب مع هدف مرسوم سلفا.
ويقصد بالوضع هو اختلاق خبر ليس له واقع من أوله إلى آخره بهدف تغيير الصورة عن النبي (صلى الله عليه وآله) وتغيير آراء الناس عنه.
«صفحة 9»
الكرّاس الحاضر بين يديك القارئ الكريم، يتناول هذا الموضوع الحسّاس من جوانب متعددة.
وأصل هذا البحث هو الفصل الثالث إلى الخامس من الباب الأول من كتاب المدخل إلى دراسة مصادر السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي للعلامة المحقق السيد سامي البدري، اعدْنا نشره بهذه الهيئة ليكون قريب المنال سهل التناول.
يتناول العلامة البدري في البداية ظاهرة تحريف سيرة الأنبياء السابقين، وأن الإنسان حين يعجز عن مجارات ظاهرة النبوة يجْنَح إلى تحريف أخبار سيرة الأنبياء وأقوالهم، ويعرض في هذا السبيل ثلاثة نماذج من تحريف سيرة الأنبياء السابقين: يرتبط الأول بهارون والعجل، ويرتبط الثاني بداوود وأوريا، والثالث بلوط وابنتيه.
أما بالنسبة لتحريف أخبار سيرة سيد الأنبياء والمرسلين محمد (صلى الله عليه وآله) يشرح العلامة البدري ان هناك صورتان تعرضها الأخبار في المصادر الإسلامية، فصورة تُظهره انه شخصيّة اقل خُلقا وأُفقا من الإنسان الاعتيادي، وصورة أخرى تظهره انه
«صفحة 10»
مثلا أعلى في جميع الميادين الفردية والاجتماعية والرُّوحية، ثم يذكر نماذج من الأخبار المحرّفة لكلا الصورتين سواء من الوقائع التاريخيّة في العهدين المكي والمدني أو الوقائع السلوكية من كلا الصورتين مع التعليق المناسب.
ثم يتعمّق العلامة البدري اكثر في هذا الموضوع ويشرح ثلاثة من اهم دوافع التحريف بشكل وافي مع ذكر الأخبار المرتبطة.
د. السيد حسين البدري
م. وحدة الأبحاث العلمية والإصدارات العامة
25 صفر الخير 1445 هجرية الموافق لـ2023/9/11
«صفحة 11»
تحريف أخبار سِيَر الأنبياء السابقين
عجز الإنسان أمام ظاهرة النبوة
ليس من شك أنَّ الإنسان عاجزٌ عن خلق الظاهرة الكونية بغير أسبابها، فالمطر مثلاً يتكوَّن من بخار الماء المتكاثف الذي يشكِّل الغيم وبانخفاض درجة الحرارة يتحوَّل الغيم إلى قطرات المطر. فلو أراد الإنسان تحويل بخار الماء إلى قطرات الماء مرَّة ثانية بغير تعريض بخار الماء إلى درجة حرارة منخفضة لما أمكنه ذلك.
وهكذا يعجز الإنسان عن تحريف الظاهرة الكونية عن سيرها الطبيعي كما لو أراد أن يغيِّر من تعاقب الليل والنهار أو أراد أن يغيِّر من حركة الشمس والقمر.
«صفحة 12»
نعم، بإمكانه أن يشوِّه بعض الظواهر الكونية أو يحسِّن صفات البعض الآخر من خلال التحكُّم بأسبابها، فبإمكانه أن يتسبب في أن يكون الجيل الثالث أو الرابع من جرثومة ما غير قادر على إنتاج الحالة المرضية التي ينتجها الجيل الأول مثلاً وذلك من خلال التحكم بالأسباب الطبيعية التي تحيط بتلك الجرثومة.
وكذلك يستحيل أن تكون ظاهرة نبوية بغير أسبابها، وأسبابها ليست بيـد الإنسان ومن ثمَّ يدَّعي إنسان ما النبوة كذباً ولكنَّه سرعان ما ينكشف زيفه ويفتضح كذبه.
وكذلك ليس بإمكان الإنسان أيضاً أن يحرِّف الظاهرة النبوية الصادقة، بأن يجعل النبي المرسل وهو حي يعبد صنماً أو يغيِّر شيئاً ممَّا بيَّنه الله في كتابه، بل كل نبي يمضي لما بعثه الله له ويحقق رسالته كما أخبره الله تعالى.
«صفحة 13»
قدرة الإنسان على تحريف أخبار السيرة
نعم، بإمكان الإنسان أن يحرِّف أخبار السيرة النبوية سواء كانت تاريخية أو سلوكية، لأن الواقعة التاريخية أو السلوكية بعد وقوعها تكون خبراً وقصةً وحديثاً يتناقله الرواة واحداً بعد الآخر، والإنسان بمقدوره أن يزيد وينقص من تفاصيل القصة والحديث وباستطاعته أيضاً أن يختلق القصة بكل أحداثها أو السلوكات والطريقة بكل تفاصيلها.
وهكذا حين يكون الإنسان عاجزاً عن دعوى النبوَّة دون أن يفتضح يكون من طرف آخر قادراً تماماً على تشويه وتحريف أخبار النبي المبعوث حقيقةً كقدوة أو كواقعة تاريخية بل يستطيع أن يختلق الواقعة أساساً وبذلك تكون الواقعة المروية سلوكاً أو قصةً غير الواقعة التي جاء بها النبي، وعلى هذا فبإمكان الرواة لو أرادوا وتعمدوا أن يرووا تاريخاً لموسى (عليه السلام)مثلاً لم يقع أصلاً، وطريقة حياة أو سنَّةً له لم يسلكها في حياته، كما بإمكانهم أن يرووا تاريخاً مشوهاً وسنَّةً محرفة ويعطوها للناس على أنَّها هي التاريخ الصحيح والسنَّة الصحيحة.
«صفحة 14»
إنَّ إمكانية ذلك الأمر من الناحية النظرية أمر واضح لا غبار عليه، أمَّا من الناحية الواقعية فهل تعرضت سيرة الأنبياء السابقين للتحريف ؟ وإذا كان ذلك قد وقع فما هي حدوده ؟ ومن القائم به ؟ وماذا كان هدفه ؟ ثم ما أثر هذا التحريف على مسيرة الإنسان إلى الله تعالى ؟ هذا ما نحاول الإجابة عليه فيما يأتي:
هل حرِّفت سير الأنبياء السابقين؟
يجيب القرآن على هذا السؤال بالإيجاب ويظهر ذلك واضحاً عند مقارنة أوصاف الأنبياء وقصصهم التي وردت في القرآن مع نظائرها التي وردت في العهد القديم، وفيما يلي نماذج ثلاثة:
النموذج الأوّل:
جاء في سفر الخروج الإصحاح32 الفقرة 21-25
«قال موسى لهارون: ماذا صنع بك هذا
«صفحة 15»
الشعب حتَّى جلبت عليه خطيئة عظيمة ؟ فقال هارون: لا يحم غضب سيدي، انت تعرف الشعب انه في شر فقالوا لي: اصنع لنا آلهة تسير أمامنا لأن هذا موسى الرجل الذي اصعدنا من أرض مصر لا نعلم ماذا أصابه، فقلت لهم: من له ذهب فلينزعه ويعطني فطرحته في النار فخرج هذا العجل».
ومن الواضح إن هذا النص يجعل صانع العجل هو نبي الله هارون والقصة في القرآن الكريم بخلاف ذلك تماما إذ يجعل صانع العجل شخصا آخر هو السامري ويضيف إلى ذلك نصيحة هارون لقومه أن يتركوا عبادة العجل وكادوا يقتلوه لأجل ذلك.
قال تعالى: ﴿وَمَا أَعْجَلَك عَن قَوْمِك يَا مُوسَى، قَالَ هُمْ أُولاَءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْك رَبِّ لِتَرْضَى، قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَك مِن بَعْدِك وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِىُّ، فَرَجَعَ مُوسَى إلى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ العَهْدُ أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُم مَّوْعِدِي، قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا
«صفحة 16»
مَوْعِدَك بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِّن زِينَةِ القَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِك أَلْقَى السَّامِرِىُّ، فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هذَا إِلَهُكُمْ وَإِلهُ مُوسَى فَنَسِىَ، أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلاَ يَمْلِك لَهُمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا، وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونَ مِن قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي قَالُوا لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى﴾ طه/83-91.
﴿قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِي الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ الأعراف/150
النموذج الثاني:
وفي سفر صموئيل الثاني الإصحاح 11 الفقرات 1-26 قصة داود مع أحد قواد جيشه أوريا كما يلي:
« وأما داود فأقام في أورشليم. وكان في وقت المساء، قام داود عن سريره وتمشّى على سطح بيت الملك، فرأى من على السطح امرأة تستحم. وكانت المرأة جميلة المنظر جدا. فارسل داود
«صفحة 17»
وسأل عن المرأة، فقال واحد: أليست هذه بتشبع بنت اليعام امرأة اوريا الحثي ؟ فارسل داود رسلا وأخذها، فدخلت إليه، فاضطجع معها وهي مطهرة من طمثها. ثم رجعت إلى بيتها. وحبلت المرأة، فأرسلت وأخبرت داود وقالت: اني حبلى.
فارسل داود إلى يوآب يقول: أرسل إلى أوريا الحثي. فأرسل يوآب أوريا إلى داود فأتى أوريا إليه، فسأل داود عن سلامة يوآب وسلامة الشعب ونجاح الحرب.
وقال داود لأوريا: انزل إلى بيتك واغسل رجليك، فخرج اوريا من بيت الملك وخرجت وراءه حصة من عند الملك.
ونام اوريا على باب بيت الملك مع جميع عبيد سيده ولم ينزل إلى بيته: فاخبروا داود قائلين: لم ينزل أوريا إلى بيته.
فقال داود لأوريا: أما جئت من السفر، فلماذا لم تنزل إلى بيتك ؟
فقال أوريا لداود: التابوت وإسرائيل ويهوذا
«صفحة 18»
ساكنون في الخيام وسيدي يوآب وعبيد سيدي نازلون على وجه الصحراء وأنا آتي إلى بيتي لآكل وأشرب وأضطجع مع امرأتي وحياتك وحياة نفسك لا أفعل هذا الأمر.
فقال داود لأوريا: أقم هنا اليوم أيضاً وغدا أطلقك.
فأقام أوريا في أورشليم ذلك اليوم وغده. ودعاه داود أمامه وشرب واسكره. وخرج عند المساء ليضطجع في مضجعه مع عبيد سيده. وإلى بيته لم ينزل.
وفي الصباح كتب داود مكتوبا إلى يوآب وأرسله بيد أوريا. وكتب في المكتوب يقول: اجعلوا أوريا في وجه الحرب الشديد وارجعوا من ورائه فيضرب ويموت. وكان في حاصرة يوآب المدينة انه جعل اوريا في الموضع الذي علم ان رجال البأس فيه. فخرج رجال المدينة وحاربوا يوآب فسقط بعض الشعب من عبيد داود ومات اوريا الحثي أيضاً..
فلما سمعت امرأة أوريا انه قد مات أوريا
«صفحة 19»
رجلها ندبت بعلها. ولما مضت المناحة أرسل داود وضمها إلى بيته وصارت له إمرأة وولدت له ابنا.
وأما الأمر الذي فعله داود فقبح في عيني الرب».
أقول:
إن هذا النص التوراتي ينسب إلى نبي الله داود ما يندى له الجبين ويستحق عليه فاعله الرجم وقد نزه القرآن أنبياء الله عن فعل الصغائر فضلا عن فعل الكبائر، قال تعالى: ﴿اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾ ص/ 17 والأواب: صيغة مبالغة من الأوب وهو الاستقامة، فالقرآن يصف نبي الله داود بأنه شديد الاستقامة على خط الله.
ان اصل القصة كما تروى عن الإمام الرضا (عليه السلام) هو: «ان المرأة في أيام داود (عليه السلام) كانت إذا مات بعلها أو قتل لا تتزوج بعده أبداً وأول من أباح الله له (1) ان يتزوج بامرأة قتل بعلها كان داود (عليه السلام)
ـــــــــــــــــــــــ
(1) في الشريعة الموسوية.
«صفحة 20»
فتزوج بامرأة أوريا لما قتل وانقضت عدتها منه» (1).
النموذج الثالث:
وفي سفر التكوين الإصحاح التاسع عشر الفقرة 30-37:
«وصعد لوط من صوغر وسكن في الجبل وابنتاه معه، لأنه خاف أن يسكن في صوغر، فسكن في المغارة هو وابنتاه-وقالت البكر للصغيرة: أبونا قد شاخ وليس في الأرض رجل ليدخل علينا كعادة كل أرض، هلم نسقي أبانا خمراً ونضطجع معه فنحيي من أبينا نسلاً، فسقتا أباهما خمراً في تلك الليلة، ودخلت البكر واضطجعت مع أبيها ولم يعلم باضطجاعها ولا بقيامها،… (وفي الليلة الأخرى) قامت الصغيرة واضطجعت معه… فحبلت ابنتا لوط من أبيها».
هذا غيض من فيض مما يوجد في التوراة
ـــــــــــــــــــــــ
(1) محمد بن علي بن بابويه: عيون أخبار الرِّضا (عليه السلام) ج1 ص194.
«صفحة 21»
وأسفار العهد القديم من روايات محرفة لسيرة الأنبياء الله سواء في الواقعة التاريخية أو الواقعة السلوكية.
ما الهدف من تحريف سير الأنبياء ؟
ليس كل من يستجيب للنبي ويتبعه يكون صادقاً في ذلك. وقد يبدأ الإنسان المستجيب للنبي أحياناً بداية صادقة، ولكنَّها ليست راسخةً، فإذا ما توفَّرت عوامل الإغراء زال الصدق، وهذا النوع من المستجيبين للرسول يسميهم القرآن بالمنافقين، كعنوان عام تندرج تحته مستويات مختلفة من النفاق ومرض القلب.
ويشترك رؤوس الكفر مع رؤوس النفاق في طبيعة الموقف من آيات الله وهو موقف الإعراض الواقعي والتكذيب الداخلي، غير أنَّ الكافر يعلن ذلك ويتصدَّى لمواجهة الرسول من موقع الكفر صراحةً، أمَّا رؤوس النفاق وأذنابهم فيكتمون ذلك ومن هنا يتحركون لمواجهة الرسالة باسمها ومن داخلها وحين يتسلَّم هؤلاء مقادير الأُمور
«صفحة 22»
بعد النبي تبدأ حركة الرواية الكاذبة عن تاريخ الرسول وطريقته في الحياة من أجل أن تتحوَّل إلى سند يدعم موقعهم في الحكم وخلافة الرسول في قبال خليفة النبي (صلى الله عليه وآله) واقعاً.
ويتضح من ذلك، أنَّ الذي يقوم بتحريف السيرة النبوية هم المنافقون والذين في قلوبهم مرض من أتباع النبي، حين ينجحون في الوصول إلى السلطة ويحكمون الأمة باسم النبي والرسالة، وهنا يحتاجون إلى تحريف السيرة النبوية ليتيسَّر لهم الاستمرار في الحكم وتحقيق أهوائهم وطموحاتهم، فيستجيب لهم من كانت الدنيا أكبر همِّه من الرواة، فيضعون لهم من الأخبار أو يكتمون منها أو يحرِّفون ما ترغبه السلطة من أمور، لتقوية موقفها أو لتوهين خصومها من الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر من المؤمنين الصادقين.
قال الله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ﴾ آل عمران/187.
«صفحة 23»
وقال الله تعالى: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ الله﴾ التوبة/31.
إنَّ هؤلاء الرهبان غيَّروا طريقة النبي، وبدَّلوا سنَّته وأحلُّوا لهم حرام الله وحرَّموا لهم حلال الله، فأصبحوا بذلك أرباباً، وإتَّبعهم الناس، وقبلوا منهم ذلك، فتلك عبادتهم إياهم.
وفي التوراة بقايا نصوص تؤيد ذلك:
منها: ماجاء في سفر حزقيال الإصحاح الثاني والعشرين قوله: «… كهنتها خالفوا شريعتي ونجَّسوا مقادسي».
ومنها: ما جاء في سفر إرميا الإصحاح الثامن: «كيف تقولون نحن حكماء وشريعة الرب معنا حقَّاً، أنَّه إلى الكذب حوَّلها قلم الكتبة الكاذب… أمَّا وحي الرب فلا تذكروه بعد لأنَّ كلمة كلِّ إنسان تكون وحيه إذ قد حرَّفتم كلام الإله الحي ربِّ الجنود».
ما هو أثر التحريف على سَيْرِ الإنسان إلى الله تعالى ؟
تتغيَّر العظة والعبرة عن وجهتها الصحيحة
«صفحة 24»
حين تُحرَّف الواقعة التاريخية من حياة النبي، فالتوراة حين نسبت صنع العجل إلى هارون، تكون قد سحبت الانطباع السيّئ عن السامري وأتباعه وحوَّلته إلى هارون وزير موسى وشريكه في الرسالة.
وهكذا حين تُحرَّف واقعة سلوكية من سيرته بأن يُنسَب للنبي شرب الخمر مثلا، تكون الطريقة النبوية قد تغيَّرت تماماً لصالح المنحرفين الذين لا يجدون بُدّاً من شرب الخمر، ولكنَّهم يريدون أن يشربوها بغطاء مشروع من سيرة النبي نفسه.
إنَّ تحريف سيرة النبي بقسميها التاريخي والسلوكي أخطر من قتل النبي وإيذائه حينما يكون على قيد الحياة، ذلك لأن قتل النبي بعد إكماله التبليغ لا يؤدي الى بطلان حجَّته بخلاف رواية الأخبار الكاذبة عن سيرته فإنَّها تؤدِّي إلى بطلانها، وذلك في حالة اختلاط الروايات الكاذبة بالروايات الصحيحة وتعذُّر فرز الصحيح من الكذب.
«صفحة 25»
إنَّ تحريف سيرة النبي التاريخية يؤدي إلى النظر إلى أعداء الرسالة على أنَّهم أهلها وحملتها، وعلى أنَّهم الامتداد الطبيعي للرسول وينظر إلى طريقتهم في الحياة على أنَّها امتداد لطريقة الرسول، فيخضعون لهم كخضوعهم للرسول ويتَّخذون منهم قدوةً كما اتَّخذوا من الرسول قدوةً، كما يؤدِّي أيضا إلى صرف النظر عن أولياء الله الحقيقيين وحملة الرسالة حقاً وإلى الجرأة عليهم وقتلهم حين يقومون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
إنَّ الإنسان في ظلِّ الرواية الصحيحة لحياة النبي يجد نفسه أمام أعظم آيات الله عظةً وعبرةً، أمام طريقة حياة تفيض بالنبل والكرامة والعدل والتوحيد في كلِّ مجالاتها وحقولها أمَّا في ظل الرواية الموضوعة المحرَّفة فيجد نفسه أمام إنسان مثله لا يختلف عنه في هفواته، بل قد يجد في سيرة النبي ما يترفَّع عنه شخصياً، أو يجد في أصحاب ذلك النبي من هو أرجح منه موقفاً وسلوكاً، ومن الطبيعي جداً أن لا تحرِّكه هذه
«صفحة 26»
السيرة المحرَّفة، إذ لا فرق بينه وبين صاحبها إلاَّ في ناحية نزول كتاب الله عليه، غير أنَّه لم يؤثِّر فيه الأثر البالغ، بخلاف السيرة الصحيحة حيث تعمل دائماً على تحريكه نحو الله تعالى وبأعلى الدرجات.
«صفحة 27»
تحريف سيرة خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله)
تحريف أخبار سيرة النبي (صلى الله عليه وآله)
تعرَّض تاريخ خاتم الأنبياء وسنَّته من بعده للتحريف وهي حقيقةٌ لا يشك فيها أحد ذلك لأنَّنا لو رجعنا إلى المصادر المعتبرة لدى المسلمين حول تاريخ النبي (صلى الله عليه وآله) وسنَّته لوجدنا الروايات مختلفة ومتناقضة في وصف كثير من الوقائع التاريخية أو السلوكية للرسول (صلى الله عليه وآله)وهذا التناقض والاختلاف واسع وكبير إلى درجة أنَّنا نستطيع أن نكوِّن من مجموع هذه الأخبار صورتين متناقضتين للنبي (صلى الله عليه وآله) سواء في جانب تاريخه أو في جانب طريقته في الحياة وسنَّته.
الصورة الأولى:
تظهره (صلى الله عليه وآله) شخصاً أقلُّ من مستوى الإنسان
«صفحة 28»
الاعتيادي في مختلف مجالات الحياة، فهو يلعن الآخرين من غير استحقاق، ولا يصبر عن النساء، الأمر الذي يفرض عليه أن يصطحب معه في كل غزوة واحدة من نسائه، ويوجد في صحابته من هو أشدُّ حياءً منه ويبول واقفاً، إلى غير ذلك من السلوكات المشينة، مضافاً إلى ذلك تجعل منه شخصاً متردداً في تلقِّي الوحي، يشك في نفسه أنه قد جُنَّ أو أنَّ الشياطين قد عبثت به، وتجعل من زوجته ذات رأي أرجح منه في هذه القضية الخطيرة، فهي التي تطمئنه وتثبِّته على النبوَّة وتأخذه إلى ورقة بن نوفل النصراني ليزيد من قناعته بذلك، ثم يكون أوَّل المؤمنين به أبو بكر ويسميه الصدِّيق لشدة تصديقه له ويؤمن بواسطة أبي بكر الصحابة المعروفون ويبقى النبي (صلى الله عليه وآله) ثلاث سنوات يدعو سرَّاً، ويجتمع مع أصحابه في دار الأرقم حتَّى يسلم عمر بن الخطاب فينصر الله به الإسلام ويعلن المسلمون عن أنفسهم، وهكذا تترى الحوادث ويبرز أبو بكر وعمر وعثمان بصفتهم الوجوه البارزة في
«صفحة 29»
حركة النبوَّة ومن هنا يكون من الطبيعي أن يأخذ هؤلاء موقعهم في خلافة النبي ونشر دينه من بعده.
الصورة الثانية:
تظهره مثلاً أعلى في كل ميادين الحياة في الخُلُق والحياء وحسن التعليم والمعاملة وعدم الإنتقام لنفسه وغير ذلك من السلوكات العالية، مضافاً إلى ذلك تجعل منه شخصاً واثقاً في أنَّ الذي خاطبه أوّل مرَّة في حراء هو ملك مرسل من الله تعالى، وأنَّ عليّاً كان وزيره على أمر الرسالة بأمر الله ثم بدأ دعوته سرَّاً بأهل بيته ثلاث سنوات ثم ختم ذلك بحادثه يوم الدار حيث أعلن فيها عن علي (عليه السلام) وصيَّاً وخليفةً من بعده ثم صدع بأمر الله تعالى وتحمَّلت أُسرة النبي (صلى الله عليه وآله) (بنو هاشم) الدفاع عن النبي (صلى الله عليه وآله) وعن المسلمين وحين هاجر وحين أذِن الله للمؤمنين أن يقاتلوا كان النبي يقذف بأهل بيته في لهوات الحروب ليدافعوا عن المسلمين ويتشخَّص في مجمل تاريخ النبي (صلى الله عليه وآله)
«صفحة 30»
وسيرته أهل بيته(عليهم السلام) بدءاً بعلىّ امتداداً رسالياً له (صلى الله عليه وآله).
وفيما يلي جدول تفصيلي مقارن لهاتين الصورتين:
نماذج من الوقائع التاريخية
العهد المكي:
1. روى الطبري »: «أنَّ النبي (صلى الله عليه وآله) حين أقرأه جبرئيل الآيات الأولى من سورة العلق رجع إلى بيته وقال لخديجة: إنَّ الأبعد (ويعني نفسه) لشاعر أو مجنون! لا تحدِّث بها عني قريش أبداً، لأعمدنَّ إلى حالق من الجبل فلأطرحنَّ نفسي منه فلأقتلنَّها لأستريحنَّ.
فخرج يريد ذلك، حتَّى إذا كان في وسط الجبل سمع صوتاً من السماء يقول له: يا محمد أنت رسول الله وأنا جبرئيل.
ثم رجع إلى خديجة وأخبرها بالذي رأى، فقالت له: ابشر يا بن العم واثبت، ثم طلبت منه أن يخبرها حين يأتيه الملك ففعل، فأمرته أن
«صفحة 31»
يجلس إلى شقِّها الأيمن ففعل، فلم يذهب الملك، فأجلسته في حجرها فلم يذهب، فتحسَّرت، فشالت خمارها ورسول الله في حجرها فذهب الملك، فقالت: ما هذا بشيطان إنَّ هذا الملك يا بن العم فابشر واثبت» (1).
وفي قبال ذلك:
ما رواه علي (عليه السلام) الذي كان مع النبي عند نزول الوحي وتعطينا صورة أُخرى، قال علي (عليه السلام): «ولقد كان رسول الله يجاور في كل سنة بحراء، فأراه ولا يراه غيري. ولقد سمعت رنَّة الشيطان حين نزل الوحي عليه (صلى الله عليه وآله) فقلت: يا رسول الله ما هذه الرنَّة ؟ فقال: هذا الشيطان قد أيس من عبادته إنَّك تسمع ما أسمع وترى ما أرى إلاَّ أنَّك لست بنبي ولكنَّك وزير، وإنَّك على خير»(2).
2. رووا: أنّ أوّل من آمن برسول الله (صلى الله عليه وآله) أبو بكر، وأنَّ الرسول (صلى الله عليه وآله) لقَّبه بالصدِّيق، وإنَّه أسلم
ـــــــــــــــــــــــ
(1) ابن جرير الطبري: تاريخ الطبري ج2 / 302.
(2) ابن ابي الحديد: شرح نهج البلاغة 13/197. ومن المحتمل جداً أنَّ قوله (وترى ما أرى) محرَّف والصحيح (لا ترى ما أرى) وذلك لما ثبت ان الأئمة (عليهم السلام) محدَّثون ولكنهم لا يرون الملك.
«صفحة 32»
على يده كبار الصحابة أمثال طلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة بن الجراح وعثمان بن عفان والأرقم بن أبي الأرقم وغيرهم وأنَّ ذلك كان سرَّاً في السنوات الثلاث الأولى وكانوا يجتمعون خفيةً في دار الأرقم حتَّى أسلم عمر فأعلنوا عن أمرهم.
وفي قبال ذلك:
ما جاء عن الحسن بن علي (عليه السلام) أنه قال: «فلمَّا بعث الله محمداً للنبوَّة واختاره للرسالة وأنزل عليه كتابه ثم أمره بالدعاء إلى الله فكان أبي أوّل من استجاب لله وللرسول وأوّل من آمن وصدَّق الله ورسوله، وقد قال الله في كتابه المنـزل على نبيِّه المرسل ﴿أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَة مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ﴾ فجدي الذي كان على بيِّنة من ربِّه وأبي الذي يتلوه وهو شاهدٌ منه» (1).
وإنَّ عليَّاً كان يقول: «أنا الصدِّيق الأكبر آمنت قبل أن يؤمن أبو بكر» (2).
ـــــــــــــــــــــــ
(1) العلامة الأميني: الغدير 1/198.
(2) العلامة الأميني: الغدير ج2/314. السيد جعفر مرتضى العاملي: الصحيح من سيرة النبي(صلى الله عليه وآله)ج2/264.
«صفحة 33»
وفي رواية محمد بن سعد بن أبي وقاص قال: إنَّ أبا بكر أسلم بعد إسلام خمسين رجلاً (1).
وفي رواية: (صلى الله عليه وآله) إنَّ النبي في السنوات الثلاث الأولى لم يدعُ أحداً من غير بني هاشم وإنَّ هذا الدور خُتِم بإنذار عشيرته الأقربين والإعلان عن موقع علي (عليه السلام)من الرسول وأنَّه وصيه ووزيره.
وقال علي (عليه السلام) في كتابه إلى معاوية: «أنَّ محمداً لمَّا دعا إلى الإيمان بالله والتوحيد كنَّا أهل البيت أوَّل من آمن به وصدَّق بما جاء به فلبثنا أحوالاً مجرَّمة (أي كاملة) وما يعبد الله في ربع ساكن من العرب غيرنا» (2) وإنَّهم كانوا في شعب أبي طالب لمَّا قاطعتهم قريش أربع سنوات، وأنَّ عمر أسلم قبل الهجرة بقليل.
3. رووا: أنَّ النبي (صلى الله عليه وآله) بعد أن هاجر المسلمون إلى الحبشة جلس مع المشركين، فأنزل الله تعالى عليه سورة النجم، فقرأها حتَّى إذا بلغ قوله
ـــــــــــــــــــــــ
(1) ابن جرير الطبري: تاريخ الطبري ج 2 / 316.
(2) نصر بن مزاحم: وقعة صفين ص 89.
«صفحة 34»
تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتُمُ الَلاَّتَ وَالَعُزَّىَ وَمَنَاةَ الَثَّالِثَةَ الأُخْرَى﴾ وسوس إليه الشيطان الكلمتين فتكلَّم بهما ظانَّاً أنَّهما من جملة الوحي وهما ﴿تلك الغرانيق العلى وأنَّ شفاعتهُنَّ ترتجى﴾ ثمَّ مضى في السورة حتَّى إذا بلغ السجدة فسجد وسجد معه المسلمون والمشركون وفرح المشركون.
ويقال: أنَّهم حملوا الرسول وطاروا به في مكة من أسفلها إلى أعلاها. ولمَّا أمسى، جاءه جبرئيل، فعرض عليه السورة وذكر الكلمتين فيها، فأنكرهما جبرئيل، فقال (صلى الله عليه وآله): قلتُ على الله ما لم يقل ؟ فأوحى الله إليه ﴿وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَك عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِىَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَّاتَّخَذُوك خَلِيلًاوَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاك لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا، إِذًا لأَذَقْنَاك ضِعْفَ الحَيَاةِ وَضِعْفَ المَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَك عَلَيْنَا نَصِيرًا﴾ الإسراء/73-75.
وأنَّه بهذه المناسبة نزل قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِك مِن رَّسُولِ وَلاَ نَبِىّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ الله مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ الله آيَاتِهِ وَالله عَلِيمٌ حَكِيمٌ، لِّيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ
«صفحة 35»
فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ﴾ الحج/52-53 (1).
وليس من شك أنَّ هذه الرواية باطلة.
وإنَّ آباء النبي (صلى الله عليه وآله) كعبد المطلب وعبد مناف لم يُعْهَد منهم عبادة الأصنام كما روي ذلك عن علي (عليه السلام) (2) ولا من رسول الله (صلى الله عليه وآله) قبل البعثة فكيف يُتَوقَّع صدور مدح لها منه (صلى الله عليه وآله)بعد البعثة ؟!
وقد روى ابن الكلبي في كتابه الأصنام إنَّ هذه الكلمات كانت تقولها قريش حين تطوف حول البيت تمدح بها أصنامها (3).
4. رووا أنَّ النبي (صلى الله عليه وآله) كان يتكلم مع بعض زعماء قريش فجاءه عبد الله بن أُمّ مكتوم وكان أعمى فجعل يستقرى النبي (صلى الله عليه وآله) آية من القرآن فأعرض عنه رسول الله وعبس في وجهه وتولَّى
ـــــــــــــــــــــــ
(1) السيوطي: تفسير الدر المنثور ج4/194، 366، 268 وابن جرير الطبري: تفسير الطبري ج7/131 وفتح الباري ج8/223.
(2) قال علي: والله ما عبد أبي ولا جدي عبد المطلب ولا هاشم ولا عبد مناف صنماً قط، فقيل له وما كانوا يعبدون ؟ قال كانوا يصلون إلى البيت على دين ابراهيم (عليه السلام) متمسكين به. وسيأتي مصادر ذلك في البحوث الاتية انشاء الله.
(3) ابن الكلبي: الاصنام ص 19. تحقيق احمد زكي.
«صفحة 36»
وكره كلامه وأقبل على أُولئك الذين كان النبي (صلى الله عليه وآله) قد طمع في إسلامهم فأنزل الله تعالى ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى، أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى، وَمَا يُدْرِيك لَعَلَّهُ يَزَّكَّى، أو يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى، أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى، فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى، وَمَا عَلَيْك أَلاَّ يَزَّكَّى، وَأَمَّا مَن جَاءَك يَسْعَى، وَهُوَ يَخْشَى، فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى﴾عبس/1-10 (1).
وفي قبال ذلك:
ما جاء عن الصادق (عليه السلام) إنَّ الآيات نزلت في رجل من بني أُميَّة كان عند النبي فجاءه ابن أُم مكتوم فلمَّا جاءه تقذَّر منه وعبس في وجهه وجمع نفسه وأعرض بوجهه عنه، فحكى الله سبحانه ذلك عنه وأنكره عليه وإنَّ هذا الشخص هو عثمان بن عفان (2).
العهد المدني:
5. من الثابت: إنَّ النبي (صلى الله عليه وآله) كنَّى عليَّاً بأبي
ـــــــــــــــــــــــ
(1) ابن جرير الطبري: تفسير الطبري ج3/23/234، السيوطي: تفسير الدر المنثور ج6 /518.
(2) الشيخ الطبرسي: مجمع البيان ج10/664 تفسير الآية، الحويزي: تفسير نور الثقلين ج5/509. الزركشي: تفسير البرهان ج4/427 تفسير الآية.
«صفحة 37»
تراب. وقالوا في سبب ذلك إنَّ عليَّاً غاضب فاطمة، وخرج إلى المسجد ونام على التراب، فعرف النبي (صلى الله عليه وآله) فبحث عنه فوجده، فقال له: قم أبا تراب، وذكر بعضهم سبباً آخر وهو إنَّ النبي (صلى الله عليه وآله) لم يؤاخ بين علي وبين أحد فاشتدَّ عليه ذلك وخرج إلى المسجد ونام على التراب فلحقه (صلى الله عليه وآله)، فلمَّا وجده قال له: قم يا أبا تراب (1).
وفي قبال ذلك:
ما رواه عمَّار بن ياسر من أنَّ النبي (صلى الله عليه وآله) كنَّى عليَّاً بهذه الكنية في غزوة العشيرة، وكانت أحبَّ كناه إليه، وملخَّص القضية: إنَّهم كانوا مع الرسول (صلى الله عليه وآله) في غزوة ولم يكن فيها قتال، فذهب عمَّار وعلي لينظرا إلى عمل بعض بني مدلج كانوا يعملون في عين لهم ونخل، فغشيهما النوم، فانطلقا حتَّى اضطجعا على صور من النخل، وفي دقعاء من التراب قال عمَّار: فوالله ما أهبَّنا إلاَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) يحرِّكنا برجليه، وقد تربنا من
ـــــــــــــــــــــــ
(1) الحلبي: السيرة الحلبية ج2/127، البلاذري: أنساب الأشراف ج2/90، ابن كثير: البداية والنهاية ج3/347.
«صفحة 38»
تلك الدقعاء التي نمنا عليها، فيومئذ قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام): ما لك يا أبا تراب لما يُرى عليه من التراب ثم قال: ألا أُحدِّثكما بأشقى الناس رجلين ؟ قلنا: بلى يا رسول الله، قال: أُحيمر ثمود الذي عقر الناقة والذي يضربك على هذه ووضع يده على قرنه حتَّى يَبُلَّ منها هذه وأخذ بلحيته (1).
6. قالوا: إنَّ عليَّاً (عليه السلام) قال: لَمّا إحمرَّ البأس يوم بدر إتقينا برسول الله (صلى الله عليه وآله) وكان من أشدِّ الناس، ما كان أحدٌ منَّا أقرب إلى المشركين منه (2) وفي رواية أُخرى «كنَّا إذا إحمَّر البأس اتقينا برسول الله فلم يكن أحد منَّا أقرب إلى العدوِّ منه» قال الشريف الرضي: «معنى ذلك إنَّه إذا عَظُمَ الخوف من العدوِّ واشتدَّ عضاض الحرب فزع المسلمون إلى قتال رسول الله (صلى الله عليه وآله) بنفسه فينزل الله تعالى النصر عليهم. قال ابن أبي الحديد وفي الكلام حذف مضاف تقديره: إذا احمرَّ موضع
ـــــــــــــــــــــــ
(1) النسائي: خصائص الامام علي (عليه السلام)، احمد بن حنبل: مسند أحمد4/262، الهيثمي: مجمع الزوائد ج9/137.
(2) احمد بن حنبل: مسند احمد ج1/126، المقريزي: إمتاع الأسماع/84.
«صفحة 39»
البأس وهو الأرض التي عليها معركة القوم واحمرارها لما يسيل عليها من الدم» (1).
وفي قبال ذلك:
ما قاله علي (عليه السلام) في كتابه إلى معاوية: «وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذا إحمرَّ البأس وأحجم الناس قدَّم (صلى الله عليه وآله) أهل بيته فوقى بهم أصحابه حرَّ السيوف والأسنَّة، فقُتِل عبيدة بن الحارث يوم بدر، وقُتِل حمزة يوم أُحد وقُتِلَ جعفر يوم مؤتة، وأراد من لو شئت ذكرت اسمه مثل الذي أرادوا من الشهادة ولكن آجالهم عُجِّلت ومَنِيَّتُه أُخِّرت».
ويذكر المؤرِّخون أنَّ قتلى بدر من المشركين سبعون، قَتَل علىٌّ (عليه السلام) نصفهم، وإنَّهم كانوا يسمُّون عليَّاً يوم بدر: (الموت الأحمر) وإنَّهم بعدها كانوا يحرِّضون على قتل علي بقولهم:
هذا ابن فاطمة الذي أفناكُمُ
ذبحاً وقتلاً قَعصةً لم يُذْبَحِ
أعطوه خَرْجاً واتقوا تضريبَه
فِعلَ الذليل وبيعةً لم تَربَحِ
ـــــــــــــــــــــــ
(1) ابن ابي الحديد: شرح نهج البلاغة ج19/116-117.
«صفحة 40»
أين الكهولُ وأين كلُّ دعامة
في المعضِلات وأينَ زينُ الأبطَحِ
أفناهُمُ قَعصاً وضرباً يفتري
بالسيف يعملُ حدُّهُ لم يَصْفَحِ (1)
7. قالوا: إنَّ أبا بكر بعث رسالة إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) فيها (ولقد شاورني برسول الله في الصهر فذكر فتياناً من قريش، فقلت له: أين أنت من علي ؟ فقال: (إنِّي لأكره ميعة شبابه وحداثة سنِّه) (2). وإنَّ النبي (صلى الله عليه وآله) لمَّا استشار فاطمة (عليها السلام) بكت وقالت: كأنَّك يا أبتي إنَّما ادخرتني لفقير قريش ؟
وفي قبال ذلك:
ما رواه المؤرخون إنَّ أشراف قريش خطبوا فاطمة فردَّهم النبي (صلى الله عليه وآله) وخطبها علي فزوَّجه رسول الله (صلى الله عليه وآله). وعاتب الخاطبون النبي (صلى الله عليه وآله) على منعهم وتزويج علي (عليه السلام)فقال (صلى الله عليه وآله): والله ما أنا
ـــــــــــــــــــــــ
(1) ابن كثير: أُسد الغابة وابن عساكر: تاريخ دمشق ترجمة علي (عليه السلام).
(2) ابن ابي الحديد: شرح نهج البلاغة ج10/276.
«صفحة 41»
منعتكم وزوجته بل الله منعكم وزوَّجه (1).
8. روي عن عائشة أنَّها قالت: (وما مات الرسول إلاَّ بين سحري ونحري) (2).
وفي قبال ذلك:
ما روي عن ابن عباس وعلي بن الحسين (عليهما السلام) أنَّهما قالا: «قُبِض رسول الله (صلى الله عليه وآله)ورأسه في حجر علي (عليه السلام)» (3).
9. قالوا: أنكرت عائشة أنَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) أوصى إلى علي من بعده قالت: «لقد كان رأسه في حجري فدعا بالطست فبال فيه فلقد انخنث (4) في حجري وما شعرت به، فمتى أوصى إلى علي (عليه السلام)»(5).
وفي قبال ذلك:
روت كتب التاريخ والحديث أنَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) أوصى إلى علي (عليه السلام) بأمر الله تعالى في
ـــــــــــــــــــــــ
(1) السيد جعفر مرتضى العاملي: الصحيح من سيرة النبي ج5/270.
(2) ابن سعد: الطبقات الكبرى ج2/261.
(3) ابن سعد: الطبقات الكبرى ج2/263.
(4) إنخنث: إلتوى.
(5) ابن سعد: الطبقات الكبرى ج2/261.
«صفحة 42»
مناسبات عديدة بدءاً بواقعة الدار وانتهاءً بواقعة الغدير (1).
نماذج من الوقائع السلوكية
1. روى أصحاب الصحاح أنَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: اللهم إنَّما محمد بشر يغضب كما يغضب البشر فأيُّما مؤمن آذيته أو سببته أو جلدته فاجعلها له كفارةً وقربةً تقرِّبه بها إليك يوم القيامة (2).
وفي قبال ذلك:
يوجد قول الله تعالى عن رسوله الكريم: ﴿وَإِنَّك لَعَلَى خُلُق عَظِيم﴾ القلم/4 وقوله: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالمُؤْمِنِينَ رَئُوفٌ رَّحِيمٌ﴾التوبة/128.
و ما رواه أنس أنَّه قال: «لم يكن رسول الله (صلى الله عليه وآله) فاحشاً ولا متفحِّشاً ولا صخَّاباً في الأسواق ولا
ـــــــــــــــــــــــ
(1) العلامة العسكري: معالم المدرستين ج1 ط2 بحث الوصية، وكذلك العلامة الأميني: الغدير ج7 ص 173.
(2) مسلم بن الحجاج: صحيح مسلم كتاب البر والصلة باب من لعنه النبي وليس هو أهلاً لذلك ح90/ص2008. والبخاري: صحيح البخاري كتاب الدعوات باب قول النبي (صلى الله عليه وآله): من آذيته فاجعله له زكاة ورحمة 4/73، واحمد بن حنبل: مسند احمد ج6/107.
«صفحة 43»
يجزي السيئة مثلها ولكن يعفو ويصفح» (1).
وما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله) قوله: «لا يكون اللعَّانون شفعاء ولا شهداء» (2).
وقوله (صلى الله عليه وآله): «لا ينبغي للمؤمن أن يكون لعاّناً».
2. روى مسلم في صحيحه عن عائشة قالت: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) مضطجعاً في بيتي كاشفاً عن فخذيه أو ساقيه، فاستأذن أبو بكر فأذن له وهو على تلك الحال فتحدث، ثم استأذن عمر فأذن له وهو كذلك فتحدث ثمَّ استأذن عثمان فجلس رسول الله وسوّى ثيابه فلمَّا خرج قالت عائشة: دخل أبو بكر فلم تهتش له ولم تباله، ثم دخل عمر فلم تهتش له ولم تباله، ثمَّ دخل عثمان فجلست وسوَّيت ثيابك، فقال: ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة (3).
ـــــــــــــــــــــــ
(1) احمد بن حنبل: مسند احمد 6/229.
(2) مسلم بن الحجاج: صحيح مسلم كتاب البرِّ والصلة باب النهي عن لعن الدواب وغيرها ح85/ص2006.
(3) مسلم بن الحجاج: صحيح مسلم كتاب الفضائل باب فضائل عثمان ح36ص1866.
«صفحة 44»
وفي قبال ذلك:
ما رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري قال: «كان النبي (صلى الله عليه وآله) أشدَّ حياءً من العذراء في خدرها» (1).
3. قالوا: إنَّ المغيرة بن شعبة قال: رأيتني أنا ورسول الله نتماشى، فأتى سباطة قوم خلف حائط، فقام كما يقوم أحدكم فبال فانتبذت منه فأشار إلىَّ فجئت فقمت عند عقبه حتَّى فرغ (2).
وفي قبال ذلك:
عن جابر قال: «نهى رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يبول قائماً» (3). وفي رواية: «كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذا أراد الحاجة أبعد» (4).
ـــــــــــــــــــــــ
(1) البخاري: صحيح البخاري كتاب بدء الخلق باب صفة النبي (صلى الله عليه وآله) ج2/181.
(2) البخاري: صحيح البخاري ج1/37 باب البول عند صاحبه. ويبدو ان ذلك من عادات العرب في الجاهلية وقد نسبها الرواة إلى النبي (صلى الله عليه وآله)، كما روى ابن ماجة: إنَّ من شأن العرب البول قائماً (ابن ماجة: سنن ابن ماجة كتاب الطهارة باب 14. ج1/112). وكان عمر بن الخطاب يقول: البول قائماً أحفظ للدبر (ابن حجر العسقلاني: فتح الباري 1/343.).
(3) ابن ماجة: سنن ابن ماجة كتاب الطهارة باب (14). 1/112 ح309.
(4) النسائي: سنن النسائي 1/17.
«صفحة 45»
4. قالوا: إنَّ الربيع بنت معوذ بن عفراء قالت: جاء النبي (صلى الله عليه وآله) فدخل حين بنى عليَّ فجلس على فراشي كمجلسك منِّي فجعلت جويريات لنا يضربن بالدف ويندبن من قَتَلَ من آبائي يوم بدر إذ قالت إحداهنَّ: «وفينا نبىٌّ يعلم ما في غدِ» فقال: «دعي هذه وقولي بالذي كنت تقولين» (1).
وعن عائشة إنَّ النبي (صلى الله عليه وآله) كان جالساً فسمع ضوضاء الناس والصبيان فإذا حبشية تزفن (2) والناس حولها فقال: يا عائشة تعالي فانظري، فوضعت خدِّي على منكبيه، فجعلت انظر ما بين المنكبين إلى رأسه، فجعل يقول يا عائشة ما شبعت ؟ فأقول: لا لأنظر منزلتي عنده، فلقد رأيته يراوح بين قدميه، فطلع عمر فتفرَّق الناس والصبيان، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): رأيت شياطين الإنس والجنِّ فرُّوا من عمر (3).
وعن عائشة: قالت دخل رسول الله وعندي
ـــــــــــــــــــــــ
(1) البخاري: صحيح البخاري 3/167 كتاب النكاح باب ضرب الدف في النكاح والوليمة.
(2) تزفن: ترقص (ابن منظور: لسان العرب).
(3) منتخب كنز العمال حاشية مسند أحمد 6/173.
«صفحة 46»
«صفحة 47»
جاريتان تغنيان بغناء بُعاث (بالعين المهملة) (1)، فاضطجع على الفراش وحوَّل وجهه فدخل أبو بكر فانتهرني وقال: مزمار الشيطان عند رسول الله (صلى الله عليه وآله) ؟ فأقبل عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: «دعهما» (2).
وفي قبال ذلك:
ما رواه أنس عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنَّه قال: «بعثني الله رحمة للعالمين وبعثني بمحق المعازف والمزامير» (3).
ـــــــــــــــــــــــ
(1) وفي رواية تغنيّان بما قيل يوم بعاث: وهو يوم معروف من مشاهير أيام العرب كان فيه حرب بين الأوس والخزرج في الجاهلية ذكره الواقدي ومحمد بن إسحاق في كتابيهما وبعاث: اسم حصن للأوس (ابن منظور: لسان العرب).
(2) مسلم بن الحجاج: صحيح مسلم كتاب صلاة العيدين باب الرُّخصة للّعب ج16/607.
(3) السيوطي: تفسير الدر المنثور 2/323.
«صفحة 48»
دوافع التحريف
لا يختلف اثنان من الباحثين الإسلاميين في تفسير ظاهرة التعارض والاختلاف في روايات السيرة والتاريخ، بأنَّ مرجع ذلك بشكل أساسي إلى الكذب من الرواة المعروفين بذلك أو إلى الاشتباه ممَّن لا يتعمد الكذب منهم.
ويمكننا إجمال دوافع الوضع والكذب عند رواة السيرة والتاريخ حسب أهميتها إلى ما يلي:
الدافع الأوّل: رغبة السلطات في الوضع، وقد يلتقي معها غالبا الدافع الثاني أو الثالث الآتيان.
الدافع الثاني: رغبة الزنادقة في التحريف.
الدافع الثالث: رغبة بعض الرواة في نصرة معتقده أو الانتقاص من أحد بغضاً وحسداً له.
وقد أُبتليت أخبار السيرة والتاريخ أيضاً بعامل آخر هو الكتمان في قليل أو كثير خوفاً من السلطة،
«صفحة 49»
وأحياناً حسداً وبغضاً وأحياناً خوفاً من العامة وغوغاء الناس، وأحياناً كراهةً واستبشاعاً لكونه خلاف المعتقد أو المذهب وأحياناً خوفاً من استفادة الخصم منها.
وفيما يلي طرف من وثائق هذه العوامل أو الدوافع:
الدافع الأول: رغبة السلطات في الوضع أو الكتمان
إنَّ أبرز مَثَل على هذا الدافع لتحريف الإخبار هو ما جرى على عهد بني أمية وفيما يلي أربع روايات تحدِّثنا عن ذلك:
1. رواية المدائني في كتابه الأحداث:
روى ابن أبي الحديد عن علي بن محمد بن أبي سيف المدائني (ت225هـ) (1) في كتابه
ـــــــــــــــــــــــ
(1) قال الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد ج12/54-55 في ترجمة المدائني (كان عالماً بأيام الناس وأخبار العرب وأنسابهم عالماً بالفتوح والمغازي ورواية الشعر، صدوقاً في ذلك، وقال يحيى بن معين ثقة ثقة ثقة. وقال ابن النديم في الفهرست /113 ولد سنة 135 هـ وتوفي سنة 225هـ وله ثلاث وتسعون ثم ذكر أسماء كتبه في أربع صفحات.
«صفحة 50»
(الأحداث) قال:
كتب معاوية نسخة واحدة إلى عُمَّاله بعد عام الجماعة.
«أن برئت الذمَّة ممَّن روى شيئاً من فضل أبي تراب وأهل بيته».
فقامت الخطباء في كل كورة وعلى كل منبر يلعنون عليَّاً (عليه السلام) ويبرؤون منه ويقعون فيه وفي أهل بيته.
وكان أشدَّ الناس بلاءً حينئذ أهلُ الكوفة لكثرة من بها من شيعة علي (عليه السلام) فاستعمل عليهم زياد بن سمية وضمَّ إليه البصرة فكان يتتبع الشيعة وهو بهم عارف، لأنه كان منهم أيام علي (عليه السلام) فقتلهم تحت كل حجر ومدر، وأخافهم وقَطَّع الأيدي والأرجل وسَمَّلَ العيون وصلَّبهم على جذوع النخل وطردهم وشرَّدهم عن العراق فلم يبق بها معروف منهم.
وكتب معاوية إلى عُمَّاله في جميع الآفاق:
«ألاَّ يجيزوا لأحد من شيعة علي وأهل بيته شهادة».
«صفحة 51»
وكتب إليهم:
«أن انظروا من قبلكم من شيعة عثمان ومحبيه وأهل ولايته والذين يروون فضائله ومناقبه فأدنوا مجالسهم وقرِّبوهم وأكرموهم واكتبوا لي بكلِّ ما يروي كلَّ رجل منهم واسمه واسم أبيه وعشيرته».
ففعلوا ذلك حتَّى أكثروا في فضائل عثمان ومناقبه لما كان يبعثه إليهم معاوية من الصِّلات والكِساء والحِباء والقَطائع، ويفيضه في العرب منهم والموالي، فكثر ذلك في كل مصر، وتنافسوا في المنازل والدنيا، فليس يجيءُ أحد مردود من الناس عاملاً من عمَّال معاوية فيروي في عثمان فضيلة أو منقبة إلاَّ كتب اسمه وقرَّبه وشفَّعه فلبثوا بذلك حيناً.
ثم كتب إلى عُمَّاله:
«إنَّ الحديث في عثمان قد كَثُر وفَشا في كل مِصر وفي كل وجه وناحية فإذا جاءكم كتابي هذا فادعوا الناس إلى الرواية في فضائل الصحابة والخلفاء الأوّلين ولا تتركوا خبراً يرويه أحد من
«صفحة 52»
المسلمين في أبي تراب إلاَّ وتأتوني بمناقض له في الصحابة فإنَّ هذا أحبُّ إلىَّ وأقرُّ لعيني وأدحض لِحُجَّة أبي تراب وشيعته وأشدُّ عليهم من مناقب عثمان وفضله».
فقُرئت كتبه على الناس فرُويت أخبار كثيرة في مناقب الصحابة مفتعلة لا حقيقة لها.
وجَدَّ الناس في رواية ما يجري هذا المجرى حتَّى أشادوا بذكر ذلك على المنابر وأُلقِيَ إلى معلِّمي الكتاتيب فعلَّموا صبيانهم وغلمانهم من ذلك الكثير الواسع حتَّى رووه وتعلَّموه كما يتعلمون القرآن، وحتى علَّموه بناتهم ونساءهم وخدمهم وحشمهم، فلبثوا بذلك ما شاء الله.
ثم كتب إلى عُمَّاله نسخة واحدة إلى جميع البلدان:
«انظروا من قامت عليه البيِّنة أنَّه يحبُّ عليَّاً وأهل بيته فامحوه من الديوان وأسقطوا عطاءه ورزقه».
وشفع ذلك بنسخة أُخرى:
«من اتهمتوه بموالاة هؤلاء القوم فنكِّلوا به واهدموا داره».
«صفحة 53»
فلم يكن البلاء أشدُّ ولا أكثر منه بالعراق ولا سيَّما بالكوفة، حتَّى إنَّ الرجل من شيعة علي (عليه السلام) ليأتيه من يثق به فيدخل بيته فيلقي إليه سرَّه ويخاف من خادمه ومملوكه ولا يحدثه حتَّى يأخذ عليه الأيمان الغليظة لَيَكْتُمَنَّ عليه.
فظهر حديث كثير موضوع وبهتان منتشر.
ومضى على ذلك الفقهاء والقضاة والولاة.
وكان أعظم الناس في ذلك بليَّةً القُرّاء المُراءون، والمستضعفون الذين يظهرون الخشوع والنسك فيفتعلون الأحاديث ليحظوا بذلك عند ولاتهم ويقرِّبوا مجالسهم ويصيبوا به الأموال والضياع والمنازل.
حتى انتقلت تلك الأخبار والأحاديث إلى أيدي الديّانين الذين لا يستحلُّون الكذب والبهتان فقبلوها ورووها وهم يظنون أنَّها حق ولو علموا أنَّها باطلة لما رووها ولا تديَّنوا بها (1).
ـــــــــــــــــــــــ
(1) ابن ابي الحديد: شرح نهج البلاغة ج11/45-46. وتكملة الرواية قال: فلم يزل الأمر كذلك حتى مات الحسن بن علي (عليه السلام)فازداد البلاء والفتنه فلم يبق أحد من هذا القبيل إلاَّ وهو خائف على دمه أو طريد في الأرض. ثم تفاقم الأمر بعد قتل الحسين (عليه السلام) وولي عبد الملك بن مروان فاشتدَّ على الشيعة وولَّى عليهم الحجَّاج بن يوسف فتقرَّب إليه أهل النسك والصلاح والدين ببغض علي (عليه السلام)وموالاة أعدائه وموالاة من يدَّعى من الناس أنَّهم أيضاً أعداؤه فأكثروا فى الرواية في فضلهم وسوابقهم ومناقبهم وأكثروا من الغضِّ من علي (عليه السلام) وعيبه والطعن فيه والشنآن له حتى إنَّ إنساناً وقف للحجَّاج ويقال أنَّه جدُّ الأصمعي (عبد الملك بن قريب) فصاح به أيُّها الأمير إنَّ أهلي عقُّوني فسمُّوني عليَّاً وإنِّي فقير بائس وأنا إلى صلة الأمير محتاج فتضاحك له الحجَّاج وقال: للطف ما توسَّلت به قد وليَّتك موضع كذا.
انظر أيضاً سليم بن قيس: كتاب سليم بن قيس ج2/781، 784-788.
«صفحة 54»
قال ابن أبي الحديد: وقد روي أنَّ أبا جعفر محمد بن علي الباقر (عليه السلام) قال لبعض أصحابه: يا فلان ما لقينا من ظلم قريش إيَّانا وتظاهرهم علينا وما لَقِيَ شيعتنا ومحبونا من الناس…
وكان عُظْمُ ذلك وكُبْرهُ زمنَ معاوية بعد موت الحسن (عليه السلام).
فقتلت شيعتنا بكل بلدة وقطعت الأيدي والأرجل على الظِّنة.
وكان من يُذْكَر بحبِّنا والانقطاع إلينا سُجِنَ أو نُهِب مالُه، أو هُدِمَت دارهُ، ثمَّ لم يزل البلاء يشتدُّ ويزداد إلى زمان عبيد الله قاتل الحسين (عليه السلام).
«صفحة 55»
ثم جاء الحجَّاج فقتلهم كلَّ قتلة وأخذهم بكلَّ ظنَّة وتهمة، حتَّى إنَّ الرجل ليقال له زنديق أو كافر أحبُّ إليه من أن يقال له شيعة علي.
وحتَّى صار الرجل الذي يذكر بالخير ولعلَّه يكون ورعاً صدوقاً يحدِّث بأحاديث عظيمة عجيبة من تفضيل بعض من سلف من الولاة ولم يخلق الله تعالى شيئاً منها ولا كانت ولا وقعت وهو يحسب أنَّها حقٌّ لكثرة من قد رواها ممَّن لم يُعرَف بكذب ولا بقلة ورع (1).
أقول: ومن الغريب أنَّ ابن أبي الحديد بعد أن يورد ذلك كلَّه يعقِّب عليه بقوله:
(واعلم أنَّ أصل الأكاذيب في أحاديث الفضائل كان من جهة الشيعة. فإنَّهم وضعوا في مبدأ الأمر أحاديث مختلفة في صاحبهم، حملهم على وضعها عداوة خصومهم، نحو:
حديث (السطل). وحديث (الرمانة). وحديث (غزوة البئر) التي كان فيها الشياطين وتعرف كما زعموا بـ (ذات العلم). وحديث
ـــــــــــــــــــــــ
(1) ابن ابي الحديد: شرح نهج البلاغة ج15/43-44.
«صفحة 56»
(غسل سلمان الفارسي وطي الأرض). وحديث (الجمجمة)، ونحو ذلك.
فلمَّا رأت البكرية ما صنعت الشيعة، وضعت لصاحبها أحاديث في مقابلة هذه الأحاديث:
نحو (لو كنتُ متخذاً خليلاً)، فإنَّهم وضعوه في مقابلة حديث الإخاء.
ونحو (سد الأبواب) فإنَّه كان لعلي (عليه السلام) فنقلته البكرية إلى أبي بكر.
ونحو «ائتوني بدواة وبياض أكتب فيه لأبي بكر كتاباً لا يختلف عليه اثنان». ثم قال: «يأبى الله تعالى والمسلمون إلاَّ أبا بكر»، فإنَّهم وضعوه في مقابلة الحديث المروي عنه في مرضه: «آئتوني بدواة وبياض أكتب لكم ما لا تضلُّون بعده أبداً»، فاختلفوا عنده. وقال قوم منهم، لقد غلبه الوجع، حسبنا كتاب الله.
ونحو حديث: «أنا راض عنك فهل أنت عنِّي راض!». ونحو ذلك…
فلمَّا رأت الشيعة ما قد وضعت البكرية أوسعوا في وضع الأحاديث، فوضعوا:
«صفحة 57»
حديث (الطوق)، الحديث الذي زعموا أنَّه جعله في عنق خالد.
وحديث (اللَّوح)، الذي زعموا أنَّه كان في غدائر الحنفيَّة أُمِّ محمد.
وحديث «لا يفعلن خالد ما آمر به».
وحديث (الصحيفة)، الَّتي علِّقت عام الفتح بالكعبة.
وحديث (الشيخ)، الَّذي صعد المنبر يوم بويع أبو بكر، فسبق الناس إلى بيعته.
وأحاديث مكذوبة كثيرة تقتضي نفاق قوم من أكابر الصحابة والتابعين الأوَّلين وكفرهم.
فقابلتهم البكرية بمطاعن كثيرة في علىّ (عليه السلام) وفي ولديه.
ونسبوه تارةً إلى ضعف العقل، وتارةً إلى ضعف السياسة، وتارةً إلى حبِّ الدُّنيا والحرص عليها.
ولقد كان الفريقان في غنية عمَّا اكتسباه واجترحاه.
ولقد كان في فضائل علي (عليه السلام) الثابتة الصحيحة، وفضائل أبي بكر المحقَّقة المعلومة ما يغني عن
«صفحة 58»
تكلُّف العصبية لهما، فإنَّ العصبية لهما أخرجت الفريقين من ذكر الفضائل إلى ذكر الرذائل، ومن تعديد المحاسن إلى تعديد المساوي والمقابح. ونسأل الله تعالى أن يعصمنا من الميل إلى الهوى وحبِّ العصبيَّة، وأن يجرينا على ما عوَّدنا من حبِّ الحقِّ أين وجد وحيث كان، سخط ذلك من سخط، ورضى به من رضى بمنَّه ولطفه (1).
أقول: ليس من شك أنَّ قول ابن أبي الحديد هذا مجانب للصواب، إذ أنَّ البادئ بوضع الحديث وتشجيع الناس عليه هو معاوية كما مرَّت الأخبار التي رويناها عن ابن أبي الحديد نفسه. وذلك لما انتشر عند أهل الشام في السنوات العشر من صلح الحسن (عليه السلام) من حديث الغدير، وحديث الثقلين، والمباهلة، والدار، والكساء، والمنـزلة، والمؤاخاة، وخيبر، وأُحد، وحديث بريدة بن الحصيب لمَّا جاء برسالة خالد بن الوليد من اليمن، يقع فيها في علي (عليه السلام)، وغيرها وأيضا ما ورد في حقِّه من القرآن.
ـــــــــــــــــــــــ
(1) ابن ابي الحديد: شرح نهج البلاغة ج11/49-50.
«صفحة 59»
قال ابن أبي الحديد: قد روى ابن عرفة المعروف بابنِ (نفطويه) (1)، وهو من أكابر المحدِّثين وأعلامهم في تاريخه، قال: إنَّ أكثر الأحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة أُفتعلت في أيّام بني أُمية، تقرُّباً إليهم بما يظنُّون أنَّهم يرغمون به أُنوف بني هاشم (2).
وقال أبو جعفر الإسكافي (ت220هـ) (3):
إنَّ معاوية وضع قوماً من الصحابة وقوماً من التابعين على رواية أخبار قبيحة في علىّ (عليه السلام) تقتضي الطعن فيه والبراءة منه وجعل لهم على ذلك جُعَلاً يُرغب في مثله فاختلقوا ما أرضاه، منهم أبو هريرة وعمرو بن العاص والمغيرة بن
ـــــــــــــــــــــــ
(1) قال الذهبي في سير أعلام النبلاء ج5/75: هو الإمام الحافظ النحوي العلامة الإخباري إبراهيم بن محمد بن عرفة بن سليمان العتكي الأزدي الواسطي ولد سنة 244هـ وتوفي سنة 323 هـ صاحب التصانيف وكان ذا سنَّة ودين من تصانيفه (تاريخ الخلفاء).
(2) ابن ابي الحديد: شرح نهج البلاغة ج11 ص44.
(3) قال الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد ج5/416: محمد بن عبد الله أبوجعفر الإسكافي أحد المتكلمين من معتزلة البغداديين له تصانيف معروفة وكان الحسين بن يزيد الكرابيسي صاحب الشافعي يتكلَّم معه ويناظره.
«صفحة 60»
شعبة ومن التابعين عروة بن الزبير (1).
نموذجان من حديث عروة في ذم علىّ (عليه السلام):
روى الزهري أنَّ عروة بن الزبير حدَّثه قال: حدثتني عائشة قالت: كنت عند رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذ أقبل العباس وعلي فقال: يا عائشة إنَّ هذين يموتان على غير ملَّتي أو قال ديني.
وروى عبد الرزاق عن معمَّر قال: كان عند الزهري حديثان عن عروة عن عائشة في علي (عليه السلام) فسألته عنهما يوماً، فقال: ما تصنع بهما وبحديثهما الله أعلم بهما إنِّي لأتهمهما في بني هاشم.
قال ابن أبي الحديد: فأمَّا الحديث الأوّل فقد ذكرناه.
وأمَّا الحديث الثاني فهو: أنَّ عروة زعم أنَّ عائشة حدَّثته، قالت: كنت عند النبي (صلى الله عليه وآله)إذ أقبل العباس وعلي، فقال (صلى الله عليه وآله): يا عائشة إن سَرَّكِ
ـــــــــــــــــــــــ
(1) ومرَّة الهمداني والأسود بن يزيد ومسروق بن الأجدع وأبو وائل شقيق بن سلمة وأبو عبد الرحمن السُّلمي القارى وقيس بن حازم وسعيد بن المسيِّب والزُّهري ومكحول وحريز بن عثمان وغيرهم. (ابن ابي الحديد: شرح نهج البلاغة ج4/67-110).
«صفحة 61»
أن تنظري إلى رجلين من أهل النار فانظري إلى هذين قد طلعا، فنظرتُ فإذا العباس وعلي بن أبي طالب.
نموذج من حديث عمرو بن العاص في علي (عليه السلام):
وأمَّا عمرو بن العاص فروى عنه الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما مسنداً متصلاً بعمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله)يقول: «إنَّ آل أبي طالب ليسوا لي بأولياء إنَّما وليي الله وصالح المؤمنين» (1).
ـــــــــــــــــــــــ
(1) البخاري: صحيح البخاري 5/2233، مسلم بن الحجاج: صحيح مسلم 1/197، احمد بن حنبل: مسند احمد 4/203 وفيها (آل أبي فلان) قال في فتح الباري 10 / 423: قال أبو بكر بن العربي في سراج المريدين: كان في أصل حديث عمرو بن العاص أنَّ آل أبي طالب فغيِّر إلى أبي فلان كذا جزم به. وتعقَّبه بعض الناس وبالغ في التشنيع عليه ونسبه إلى التحامل على آل أبي طالب ولم يصب هذا المنكر فإنَّ هذه الرواية التي أشار إليها ابن العربي موجودة في مستخرج أبي نعيم من طريق الفضل بن الموفق عن عنبسة بن عبد الواحد بسند البخاري عن بيان بن بشر عن قيس بن أبي حازم عن عمرو بن العاص رفعه أنَّ لبني أبي طالب رحماً أبلُّها ببلالها وقد أخرجه الإسماعيلي من هذا الوجه أيضاً لكن أبهم لفظ طالب وكأنَّ الحامل لمن أبهم هذا الموضع ظنَّهم أن ذلك يقتضي نقصًا في آل أبي طالب وليس كما توهموه كما سأوضحه إن شاء الله تعالى، قوله: (ليسوا بأوليائي) كذا للأكثر وفي نسخة من رواية أبي ذر بأولياء فنقل إبن التين عن الداودي أنَّ المراد بهذا النفي من لم يسلم منهم أي فهو من إطلاق الكل وإرادة البعض والمنفي على هذا المجموع لا الجميع، وقال: الخطابي الولاية المنفية ولاية القرب والاختصاص لا ولاية الدين، ورجح إبن التين الأوّل وهو الراجح، فإنَّ من جملة آل أبي طالب عليَّاً وجعفر وهما من أخصِّ الناس بالنبي (صلى الله عليه وآله) لما لهما من السابقة والقدم في الإسلام ونصر الدين وقد استشكل بعض الناس صحة هذا الحديث لما نسب إلى بعض رواته من النصب وهو الإنحراف عن علي وآل بيته، قلت: أما قيس بن أبي حازم فقال: يعقوب بن شيبة تكلم أصحابنا في قيس فمنهم من رفع قدره وعظمه وجعل الحديث عنه من أصح الأسانيد حتى قال إبن معين: هو أوثق من الزهري ومنهم من حمل عليه وقال: له أحاديث مناكير وأجاب من أطراه بأنَّها غرائب وإفراده لا يقدح فيه ومنهم من حمل عليه في مذهبه وقال: كان يحمل على علي ولذلك تجنب الرواية عنه كثير من قدماء الكوفيين وأجاب من أطراه بأنَّه كان يقدِّم عثمان على علي فقط، قلت: والمعتمد عليه أنَّه ثقةٌ ثبتٌ مقبول الرواية وهو من كبار التابعين سمع من أبي بكر الصديق فمن دونه وقد روى عنه حديث الباب إسماعيل بن أبي خالد وبيان بن بشر وهما كوفيان ولم ينسبا إلى النصب لكن الراوي عن بيان وهو عنبسة بن عبد الواحد أموي قد نسب إلى شيء من النصب وأمَّا عمرو بن العاص وإن كان بينه وبين علي ما كان فحاشاه أن يتهم وللحديث محمل صحيح لا يستلزم نقصاً في مؤمني آل أبي طالب وهو أنَّ المراد بالنفي المجموع كما تقدَّم ويحتمل أن يكون المراد بآل أبي طالب أبو طالب نفسه وهو إطلاق سائغ. انتهى كلام ابن حجر.
«صفحة 62»
نموذج من حديث أبي هريرة في ذم علىّ (عليه السلام):
وأمَّا أبو هريرة فروي عنه الحديث الذي معناه أنَّ عليَّاً (عليه السلام) خطب ابنة أبي جهل في حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فأسخطه، فخطب على المنبر وقال: لاها الله لا تجتمع ابنة ولي الله وابنة عدو الله أبي جهل، إنَّ فاطمة بضعة مني يؤذيني ما يؤذيها فإنْ كان
«صفحة 63»
علي يريد ابنة أبي جهل فليفارق إبنتي وليفعل ما يريد أو كلاماً هذا معناه (1).
قال ابن أبي الحديد: هذا الحديث مخرَّج في صحيحي مسلم والبخاري عن المسور بن مخرمة الزهري (2).
و لشياع هذا الخبر وانتشاره ذكره مروان بن أبي حفصة في قصيدة يمدح بها الرشيد ويذكر فيها ولد فاطمة (عليها السلام) وينحى عليهم ويذمهم وقد بالغ حين ذم علياً (عليه السلام) ونال منه وأولها:
سلام على جَمَل وهيهات من جمل
ويا حبذا جملٌ وإنْ صُرمِتْ حبلي
ويقول فيها:
علىٌّ أبوكم كان أفضلَ منكم أباه (3)
ذوو الشورى وكانوا ذوي الفضل
وساء رسولَ الله إذْ ساء بنتَه
بخطبته بنتَ اللعين أبي جهل
ـــــــــــــــــــــــ
(1) ابن ابي الحديد: شرح نهج البلاغة ج4/63-64.
(2) البخاري: صحيح البخاري 4/1364، مسلم بن الحجاج الثقفي صحيح مسلم 4/1903.
(3) أي رفضه أهل الشورى في قصة بيعة عثمان.
«صفحة 64»
فذمَّ رسول الله صهرَ أبيكمُ
على منبر بالمنطق الصادع الفضل
وحكَّمَ فيها حاكمين أبوكم
هما خلعاه خلع ذي النعل للنعل
وقد باعها من بعده الحسن ابنه
فقد أُبطلت دعواكمُ الرثة الحبلِ
وخلَّيتموها وهي في غير أهلها
وطالبتموها حين صارت إلى أهل (1)
2. ما رواه سليم بن قيس في كتابه:
قال سليم بن قيس:
إنَّ معاوية مرَّ بحلقة من قريش، فلمَّا رأوه قاموا إليه غير عبد الله بن عباس فقال له: يا ابن عباس ما منعك من القيام كما قام أصحابك إلاَّ لموجدة علىَّ بقتالي إيَّاكم يوم صفين، يا ابن عباس إنَّ ابن عمِّي عثمان قُتل مظلوماً.
قال ابن عباس: فعمر بن الخطَّاب قد قتل مظلوماً فَسَلِّم الأمر إلى ولده، وهذا أبنه ؟!.
قال: أنَّ عمر قتله مشرك.
ـــــــــــــــــــــــ
(1) ابن ابي الحديد: شرح نهج البلاغة ج 4 ص 63-64.
«صفحة 65»
قال ابن عباس: فمن قتل عثمان ؟
قال: قتله المسلمون!
قال: فذلك أدحض لحُجَّتك، إنْ كان المسلمون قتلوه وخذلوه فليس إلاَّ بحق.
قال: فإنَّا قد كتبنا إلى الآفاق ننهى عن ذكر مناقب علىَّ وأهل بيته، فكُفّ لسانك يا ابن عباس واربَع على نفسك.
قال: أفتنهانا عن قراءة القرآن ؟ قال: لا.
قال: أفتنهانا عن تأويله ؟ قال: نعم.
قال: فنقرأه ولا نسأل عمَّا عنى الله به ؟ قال: نعم.
قال: فأيهما أوجب علينا قراءته أو العمل به ؟ قال: العمل به.
قال: فكيف نعمل به حتَّى نعلم ما عنى الله بما أنزل علينا ؟
قال سل عن ذلك من يتأوَّله على غير ما تتأوَّله أنت وأهل بيتك.
قال: إنَّما أنزل القرآن على أهل بيتي فأسأل عنه آل أبي سفيان وآل أبي معيط ؟!…
«صفحة 66»
قال: فاقرؤوا القرآن ولا ترووا شيئاً ممَّا أنزل الله فيكم وممَّا قال رسول الله فيكم وارووا ما سوى ذلك!
قال ابن عباس: قال الله في قرآنه: ﴿يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ الله بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى الله إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ﴾ التوبة/32.
قال معاوية: يا ابن عباس اكفني نفسك وكُفَّ عنّي لسانك، وإنْ كنت لابدَّ فاعلاً فليكن ذلك سرَّاً ولا يسمعه أحدٌ منك علانية (1)!
أقول:
إنَّ هذه المحاورة قد جرت في المدينة سنة (55 هجـ) بعد رجوع معاوية من الحج الذي أقامه لتلك السنة ؟
وقد جرت قبل ذلك في مكة محاورة أخرى بينه وبين سعد بن أبي وقاص رواها النسائي (ت 303هـ) صاحب السنن قال:
أخبرنا محمد بن المثنى قال: أخبرنا أبو بكر الحنفي قال: حدثنا بكر بن مسمار قال: سمعت
ـــــــــــــــــــــــ
(1) سليم بن قيس الهلالي: كتاب سليم ج2/783-784.
«صفحة 67»
عامر بن سعد يقول:
قال معاوية لسعد بن أبي وقاص: ما يمنعك أنْ تسب ابن أبي طالب ؟
قال: لا أسبُّه ما ذكرت ثلاثاً قالهن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لأن يكون لي واحدة منهنَّ أحبُّ إلىَّ من حمر النعم.
ما أسبُّه: ما ذكرتُ حين نزلت «انما يريد الله ليذهب عنكم الرجس اهل البيت ويطهركم تطهيراً» دعا رسول الله (صلى الله عليه وآله) عليّاً وابنيه وفاطمة فأدخلهم تحت ثوبه ثم قال: رب هؤلاء أهل بيتي وأهلي.
ولا أسبُّه: ما ذكرت حين خلَّفه في غزوة غزاها قال علي: خلفتني مع الصبيان والنساء ؟ قال: أولا ترضى أنْ تكون مني بمنـزلة هارون من موسى إلاَّ أنَّه لا نبوة بعدي.
وما أسبُّه: ما ذكرت يوم خيبر حين قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): لأعطيَّن الراية رجلاً يحب الله ورسوله، ويفتح الله بيده، فتطاولنا، فقال: أين علي ؟ فقالوا: هو أرمد، قال: ادعوه، فبصق في عينيه ثم أعطاه الراية، ففتح الله عليه.
«صفحة 68»
فوالله ما ذكره معاوية بحرف حتَّى خرج من المدينة (1).
أقول: وقد كانت هذه المحاورة قبل صدور قرار معاوية إلى ولاته بسب علي على المنابر، وكان هدفه من هذا الحوار جس نبض سعد ولمَّا عرف موقفه دس له السم كما دس السم للحسن (عليه السلام).
قال أبو الفرج الاصفهاني (ت356هـ): حدثني أحمد بن عبيد الله قال حدثني عيسى بن مهران قال حدثنا يحيى بن أبي بكر قال حدثنا شعبة عن أبي بكر بن حفص قال: توفي الحسن بن علي وسعد بن أبي وقاص في أيام بعد ما مضى من إمارة معاوية عشر سنين.
وقال أبو الفرج: كانوا يرون أنَّه سقاهما سُمّاً (2).
ـــــــــــــــــــــــ
(1) النسائي: خصائص الامام علي (عليه السلام) بن ابي طالب الحديث رقم 51 تحقيق أبي إسحاق الجويني الأثري ورواه أيضاً مسلم في صحيحه والترمذي في سننه والحديث صحيح الاسناد. وفي مروج الذهب ج3/14 قال: لمَّا حجَّ معاوية طاف بالبيت ومعه سعد فلمَّا فرغ إنصرف معاوية إلى دار الندوة فأجلسه معه على سريره ووقع معاوية في علي وشرع في سبَّه فزحف سعد ثم قال: أجلستني معك على سريرك ثم شرعت في سب علي والله لأن يكون فىَّ خصلة واحدة من خصال علي…
(2) ابو الفرج الاصفهاني: مقاتل الطالبين73. البخاري: التاريخ الصغير ج1/100 (بسنده عن أحمد بن سليمان قال حدثني يحيى بن أبي بكير عن شعبة عن أبي بكر بن حفص قال..).
«صفحة 69»
3. ما رواه الزبير بن بكار في كتابه الموفقيات:
قال الزبير بن بكار: حدثنا أحمد بن سعيد قال: حدثني الزبير قال: حدثني عمي مصعب بن عبدالله عن الواقدي قال: حدثني ابن أبي سبرة عن عبد الرحمن بن زيد قال:
وفد علينا سليمان بن عبد الملك حاجّاً سنة اثنتين وثمانين، وهو ولي عهد، فمرَّ بالمدينة، فدخل عليه الناس، فسلَّموا عليه، وركب إلى مشاهد النبي (صلى الله عليه وآله)التي صلَّى فيهاوحيث أُصيب أصحابه في أحد، ومعه أبان بن عثمان، وعمرو بن عثمان، وأبو بكر بن عبد الله بن أبي أحمد، فأتوا به قُباء، ومسجد الفضيخ، ومشربة أم إبراهيم، وأحد، وكل ذلك يسألهم، ويخبرونه عمَّا كان.
ثم أمر أبان بن عثمان أن يكتب له سِيَر النبي (صلى الله عليه وآله) ومغازيه.
فقال أبان: هي عندي قد أخذتها مصححة ممن أثق به، فأمر بنسخها، وألقى فيها إلى عشرة من الكُتَّاب، فكتبوها في رقّ.
«صفحة 70»
فلما صارت إليه، نظر فإذا فيها ذكر الأنصار في العقبتين وذكر الأنصار في بدر، فقال: ما كنت أرى لهؤلاء القوم هذا الفضل فإمَّا أن يكون أهل بيتي غمصوا عليهم وإمَّا أن يكونوا ليس هكذا.
فقال أبان بن عثمان: أيها الأمير لا يمنعنا ما صنعوا بالشهيد المظلوم من خذلانه من القول بالحق: هم على ما وصفنا لك في كتابنا هذا، قال: ما حاجتي إلى أن أنسخ ذاك حتَّى أذكره لأمير المؤمنين لعله يخالفه، فأمر بذلك الكتاب فخُرِّق، وقال: أسأل أمير المؤمنين إذا رجعت، فإن يوافقه فما أيسر نسخه.
فرجع سليمان بن عبد الملك فأخبر أباه بالذي كان من قول أبان.
فقال عبد الملك: وما حاجتك أن تقدم بكتاب ليس لنا فيه فضل، تُعرِّف أهل الشام أموراً لا نريد أن يعرفوها!!
قال سليمان: فلذلك يا أمير المؤمنين أمرت بتخريق ما كنتُ نسخته حتَّى أستطلع رأي أمير المؤمنين، فصوّب رأيه، وكان عبد الملك يثقل عليه ذلك.
«صفحة 71»
ثم إنَّ سليمان جلس مع قبيصة بن ذؤيب، فأخبره خبر أبان بن عثمان وما نسخ من تلك الكتب وما خالف أمير المؤمنين فيها.
فقال قبيصة: لولا ما كرهه أمير المؤمنين لكان من الحظِّ أنْ تَعْلَمها وتُعلِّمَها ولدك وأعقابهم، إنَّ حظَّ أمير المؤمنين فيها لوافر، إنَّ أهل بيت أمير المؤمنين لأكثر من شهد بدراً فشهدها من بني عبد شمس ستة عشر رجلاً من أنفسهم وحلفائهم ومواليهم وحليف القوم منهم ومولى القوم منهم. وتوفي رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعمَّاله من بني أمية أربعة: عتاب بن أُسيد على مكة، وأبان بن سعيد على البحرين، وخالد بن سعيد على اليمن، وأبو سفيان بن حرب على نجران، عاملاً لرسول الله (صلى الله عليه وآله) ولكنِّي رأيت أمير المؤمنين كره من ذلك شيئاً فما كره فلا تخالفه.
ثم قال قبيصة: لقد رأيتني وأنا وهو -يعني عبد الملك- وعدةً من أبناء المهاجرين ما لنا علم غير ذلك حتَّى أحكمناه، ثم نظرنا بعد في الحلال
«صفحة 72»
والحرام، فقال سليمان: يا أبا إسحاق ألا تخبرني عن هذا البغض من أمير المؤمنين وأهل بيته لهذا الحىِّ من الأنصار وحرمانهم إيَّاهم لِمَ كان ؟ فقال: يا ابن أخي أوّل من أحدث ذلك معاوية بن أبي سفيان، ثم أحدثه أبو عبد الملك (يريد مروان) ثم أحدثه أبوك.
فقال: علامَ ذلك ؟
قال: فوالله ما أريد به إلاَّ لأعلمه وأعرفه.
فقال: لأنَّهم قتلوا قوماً من قومهم، وما كان من خذلانهم عثمان فحقدوه عليهم، وحنقوه وتوارثوه، وكنت أحب لأمير المؤمنين أن يكون على غير ذلك لهم وأن أخرج من مالي فكلَّمه.
فقال سليمان: أفعل والله. فكلَّمه وقبيصة حاضر، فأخبره قبيصة بما كان من محاورتهم.
فقال عبد الملك: والله ما أقدر على غير ذلك فدعونا من ذكرهم فأسكت القوم (1).
وحكى الزهري (2): «أن عبد الملك رأى عند
ـــــــــــــــــــــــ
(1) الزبير بن بكار: الاخبار الموفقيات 331-334.
(2) البلاذري: أنساب الأشراف المخطوط 1: 1165.
«صفحة 73»
بعض ولده حديث المغازي فأمر به فأحرق، وقال: عليك بكتاب الله فاقرأه والسنة فاعرفها واعمل بها».
قال الدكتور حسين عطوان: «ولم يزل الخلفاء الأمويون يحظرون رواية المغازي والسير إلى نهاية القرن الأول فلما استخلف عمر بن عبد العزيز، أقرَّ بأنَّ من سبقه من الخلفاء الأمويين حاربوا رواية المغازي والسير، ومنعوا أهل الشام من معرفتها، ودفعوهم عن الإطلاع عليها، وردعوهم عن الاشتغال بها وأنكر صنيعهم، وشهَّر به تشهيراً قوياً» (1).
قال ابن عساكر في ترجمة عاصم بن عمر بن قتادة: ووفد عاصم على عمر بن عبد العزيز في خلافته في دين لزمه فقضاه عنه عمر وأمر له بعد ذلك بمعونة وأمره أنْ يجلس في مسجد دمشق فيحدِّث الناس بمغازي رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومناقب أصحابه وقال إنَّ بني مروان كانوا يكرهون
ـــــــــــــــــــــــ
(1) حسين عطوان: رواية الشاميين للمغازي والسير في القرنين الأول والثاني الهجري ط/1986 ص22ـ27.
«صفحة 74»
هذا وينهون عنه فاجلس فحدِّث الناس بذلك ففعل (1).
أقول: ومن الجدير ذكره، ان عمر بن عبد العزيز حين رفع الحظر عن رواية المغازي والحديث لم يكن قد رفعه بشكل كامل، لذلك فإن من عُرِف بروايته لفضائل علي وسيرته وأُمِرَ بلزوم الإقامة الجبرية في بلده كعامر بن واثلة، لم يرفع الحظر عنه، وقد روى ابن عساكر في ترجمة عامر بن واثلة أبي الطفيل أنَّه أدركته إمرة عمر بن عبد العزيز فكتب يستأذنه في القدوم عليه، فقال عمر: ألم تؤمر بلزوم البلد (2) ؟
ومن الثابت أنَّ أبا الطفيل كان صحابياً من شيعة علي وقد ترك البخاري حديثه لأنَّه كان (بزعمه) يفرط في التشيع (3).
ـــــــــــــــــــــــ
(1) ابن عساكر: تاريخ دمشق تراجم حرف العين من عاصم إلى عايذ ص68.
(2) ابن عساكر: تاريخ دمشق 26: 138، مختصر تاريخ دمشق ج11/296.
(3) نفس المصدر ص294، وانظر ترجمة أبي الطفيل في الاستيعاب ص1696 قال كان متشيعاً في علي ويفضله.
«صفحة 75»
4. ما رواه أبو الفرج في كتابه الأغاني:
روى أبو الفرج بسنده عن ابن شهاب (1) قال: قال لي خالد بن عبد الله القسري: اكتب لي النسب فبدأت بنسب مضر فمضيت فيه اياماً ثم أتيته، فقال لي ما صنعت ؟ فقلت بدأت بنسب مضر وما أتممته، فقال: اقطعه قطعه الله مع أصولهم، واكتب لي السيرة، فقلت له: فإنَّه يمر بي الشيء من سيرة علي بن أبي طالب أفأذكره ؟
فقال: لا إلاَّ أنْ تراه في قعر الجحيم (2).
وهذا الحديث يفسِّر لنا بوضوح لماذا جاءت روايات الزهري للسيرة التي رواها عنه عبد الرزاق الصنعاني بواسطة معمر خالية من ذكر علي (عليه السلام) وفيما يلي نماذج من روايات الزهري برواية عبد الرزاق الصنعاني في كتابه المصنّف:
1. روى عبد الرزاق في المصنف عن معمر قال سألت الزهري: (عن أوّل من أسلم) ؟ قال: ما
ـــــــــــــــــــــــ
(1) ابن شهاب: هو محمد بن مسلم القرشي الزهري ت125هـ.
(2) ابو الفرج الاصفهاني: الأغاني 22/23، أخبار خالد بن عبد الله القسري.
«صفحة 76»
علمنا أحداً أَسلم قبل زيد بن حارثة (1).
2. وروى عبد الرزاق عن معمر عن الزهري في حديثه عن عروة قال: كانت وقعة أحد في شوال، على رأس ستة أشهر من وقعة بني النضير.
قال الزهري عن عروة في قوله «وعصيتم من
ـــــــــــــــــــــــ
(1) روى أصحاب السير والتواريخ روايات كثيرة جداً بأسانيد صحيحة أنَّ عليّاً أوّل من آمن بالنبي (صلى الله عليه وآله)وصدّقه وقد أورد ابن كثير في كتابه البداية والنهاية حديثاً صحيحاً بإسناد الأمام احمد ثم أردفه بقوله وهذا لا يصح من أي وجه كان روي عنه، ورد عليه العلامة الأميني في الغدير 3/ص220-247 وأورد ستاً وستين نصّاً للنبي والصحابة والتابعين تؤكد إنَّ عليّاً أوّل من صدق النبي (صلى الله عليه وآله)، منها ما رواه الطبري في تاريخه ج2 ص309-314 عن علي (عليه السلام) وزيد بن ارقم وعبد الله بن عباس.
أقول: أمَّا عن إسلام أبي بكر فقد روى الطبري بسند صحيح عن محمد بن سعيد قال: قلت لأبي: أكان أبو بكر أوّلكم إسلاماً ؟ فقال: ولقد أسلم قبله أكثر من خمسين ج2/316.
أمَّا كون زيد أوّل من أسلم فهو المروي عن عروة بن الزبير ت98 وسليمان بن يسار ت 100هـ والزهري والغريب هو قول الزهري: (ما علمنا أحداً أسلم قبل زيد) فإنَّه من المؤكد ليس مطابقاً للواقع فإنَّ مثل الزهري وهو المقدَّم على غيره في أخبار السيرة والمغازي لا تخفى عليه الحقيقة غير إنَّها سياسة الأمويين وهو من رجالهم الإعلاميين والدينيين المعتمدين ولم يخف على عبد الرزاق صاحب المصنف ذلك فأضاف الى رواية معمر عن الزهري رواية معمر عن قتادة عن الحسن وغيره قوله: كان أول من آمن به علي بن أبي طالب (عليه السلام) وهو ابن خمس عشرة أو ست عشرة سنة وروايته عن عثمان الجندي عن مقسم عن ابن عباس قال: علي أوّل من أسلم.
«صفحة 77»
بعد ما أراكم ما تحبون»: إنَّ النبي (صلى الله عليه وآله) قال يوم أحد حين غزا أبو سفيان وكفّار قريش: إنَّي رأيت كأنِّي لبست درعاً حصينة، فأوّلتها المدينة، فاجلسوا في ضيعتكم وقاتلوا من ورائها، وكانت المدينة قد شبكت بالبنيان، فهي كالحِصن، فقال رجلٌ مسنٌ لم يشهد بدراً: يا رسول الله، اخرج بنا إليهم فلنقاتلهم، وقال عبد الله بن أبي سلول: نعم، والله، يا نبي الله، ما رأيت إنّا والله ما نزل بنا عدو قط فخرجنا إليه، إلاَّ أصاب فينا، ولا يأتينا في المدينة، وقاتلنا من ورائها إلاَّ هَزَمنا عدوُّنا.
فكلَّمه أُناس من المسلمين، فقالوا: بلى، يا رسول الله، أخرج بنا إليهم، فدعا بلامته فلبسها، ثم قال: ما أظنُّ الصرعى إلاَّ ستكثر منكم ومنهم، إنِّي أرى في النوم منحورة، فأقول بقر، والله بخير فقال رجل: يا رسول الله، بأبي أنت وأُمي فاجلس بنا، فقال: إنَّه لا ينبغي لنبي إذا لبس لامته أن يضعها حتَّى يلقى الناس، فهل من رجل يدلنا الطريق على القوم من كثب ؟ فانطلقت به الأدلاء بين يديه، حتَّى اذا كان بالشوط من الجبانة انخذل
«صفحة 78»
عبد الله بن أبي بثلث الجيش، او قريب من ثلث الجيش، فانطلق النبي (صلى الله عليه وآله) حتَّى لقوهم بأحد، وصافوهم، وقد كان النبي (صلى الله عليه وآله) عهد إلى أصحابه أنَّهم هزموهم، أنْ لا يدخلوا لهم عسكراً، ولا يتَّبعوهم، فلمَّا التقوا هزموا (1)، وعصوا النبي (صلى الله عليه وآله)، وتنازعوا، واختلفوا، ثم صرفهم الله عنهم ليبتليهم، كما قال اللهوأقبل المشركون، وعلى خيلهم خالد بن الوليد بن المغيرة، فقتل من المسلمين سبعين رجلاً وأصابهم جراح شديدة، وكسرت رباعية رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ودمي وجهه، حتَّى صاح الشيطان بأعلى صوته: قتل محمد.
قال ابن إسحاق حدَّثني ابن شهاب الزهري عن عبد الله بن كعب بن مالك أخو بني سلمة قال: قال كعب: عرفت عينيه تزهران من تحت المغفر فناديت بأعلى صوتي: يا معشر المسلمين
ـــــــــــــــــــــــ
(1) روى الطبري وابن هشام والواقدي في مغازيه ج1/225-226 إنَّ عليّاً (عليه السلام) قتل طلحة كبش الكتيبة وسُرَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأظهر التكبير وكبَّر المسلمون، وفي رواية الشيخ المفيد في الإرشاد عن الصادق (عليه السلام) بعد ذكره قتل أمير المؤمنين (عليه السلام) لأصحاب اللواء (وإنهزم القوم وطارت مخزوم فضحها علي (عليه السلام) يومئذ) وقد روى ذلك أيضاً ابن أبي الحديد ج13/293 وقال الطبري ج2/514 قتل علي أصحاب الألوية.
«صفحة 79»
ابشروا هذا رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فأشار إلىَّ أنْ أنصت، فلما عرف المسلمون رسول الله (صلى الله عليه وآله) نهضوا به، ونهض معهم نحو الشعب، معه: أبو بكر بن أبي قحافة، وعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، والحارث بن الصمة، في رهط من المسلمين، فلما أسند رسول الله (صلى الله عليه وآله) في الشعب، أدركه أبي بن خلف وهو يقول: أين يا محمد أين يا محمد لا نجوت إنْ نجوت، فقال القوم: أيعطف عليه يا رسول الله رجل منّا ؟ فقال: دعوه فلمَّا دنا تناول رسول الله (صلى الله عليه وآله) الحربة من الحارث بن الصمة، يقول بعض القوم فيما ذكر لي، فلمَّا أخذها رسول الله (صلى الله عليه وآله) انتفض بها انتفاضة تطايرنا عنه تطاير الشعر من ظهر البعير إذا أنتفض بها، ثم استقبله فطعنه بها طعنة تردّى بها عن فرسه مراراً (1).
ـــــــــــــــــــــــ
(1) ابن جرير الطبري: تاريخ الطبري ج2/518 وسيرة ابن اسحق تحقيق سهيل زكار /330-331. أقول: من البعيد أن يكون ما ذكره ابن شهاب هذا، وقد قال الطبري: إنَّ المسلمين أصابهم ما أصابهم من البلاء أثلاثا، ثلث قتيل وثلث جريحوثلث منهزم وقد جهدته الحرب حتى ما يدري ما يصنع وأصيبت رباعية رسول الله (صلى الله عليه وآله) السفلى وشُقَّت شفته وكلم في وجنتيه وجبهته في أصول شعره، وكيف يقوم بذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعلي بين يديه وقد واساه بنفسه، قال الطبري: حدثنا أبو كريب قال حدثنا عثمان بن سعيد قال حدثناحبان بن علي عن محمد بن عبيد الله بن أبي رافع عن أبيه عن جده قال: لما قتل علي بن أبي طالب أصحاب الألوية أبصر رسول الله (صلى الله عليه وآله) جماعة من مشركي قريش فقال لعلي: إحمل عليهم فحمل عليهم ففرَّق جمعهم ثم أبصر رسول الله (صلى الله عليه وآله) جماعة من مشركي قريش فقال لعلي: احمل عليهم فحمل عليهم، ففرق جماعتهم.. فقال جبرئيل: يا رسول الله إنَّ هذه للمواساة. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إنَّه منِّي وأنا منه، فقال: جبرئيل وأنا منكماقال: فسمعوا صوتاً:
لا سيف إلاَّ ذو الفقار ولا فتى إلاَّ علي
قال المحمودي: وقد روى حديث المواساة أحمد بن حنبل في كتاب الفضائل الحديث رقم 241، كذلك في الحديث رقم 242 أيضاً الطبراني في المعجم الكبير (ترجمة الامام علي (عليه السلام) من تاريخ دمشق ص 138-149 الهامش). وللمزيد من المصادر انظر السيد جعفر مرتضى العاملي: الصحيح من سيرة النبي (صلى الله عليه وآله)ج4/227.
«صفحة 80»
قال عبد الرزاق قال معمر حدثني الزهري: فنادى أبو سفيان بعدما مُثِّل ببعض أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وجُدِعوا، ومنهم من بُقِرَ بطنُه.
فقال أبو سفيان: إنَّكم ستجدون في قتلاكم بعض المثل، فإنَّ ذلك لم يكن عن ذوي رأينا ولا سادتنا (1). ثم قال أبو سفيان: أعلُ هُبَل. فقال عمر بن الخطاب: الله أعلى وأجل.
ـــــــــــــــــــــــ
(1) في رواية الواقدي: 1/297-299، (فقال ابو سفيان: اعل هبل، فقال عمر: الله أعلى وأجل، فقال ابو سفيان: إنَّها قد أنعمت، فعال عنها) أي تجاف عن آلهتنا ولا تذكرها بسوء… «فلما قدم أبو سفيان على قريش بمكة، لم يصل الى بيته حتى أتى هبل، فقال: قد أنعمت ونصرتني وشفيت نفسي من محمد وأصحابه، وحلق رأسه».
روى الطبري وابن هشام والواقدي في مغازيه ج1/225-226 إنَّ عليّاً (عليه السلام) قتل طلحة كبش الكتيبة وسُرَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأظهر التكبير وكبَّر المسلمون، وفي رواية الشيخ المفيد في الإرشاد عن الصادق (عليه السلام) بعد ذكره قتل أمير المؤمنين (عليه السلام) لأصحاب اللواء «وإنهزم القوم وطارت مخزوم فضحها علي (عليه السلام) يومئذ» وقد روى ذلك أيضاً ابن أبي الحديد ج13/293 وقال الطبري ج2/514 قتل علي أصحاب الألوية.
«صفحة 81»
فقال: أنعمت عيناً (1)، قتلى بقتلى بدر.
فقال عمر: لا يستوي القتلى، قتلانا في الجنة، وقتلاكم في النار.
فقال أبو سفيان: لقد خِبنا إذا، ثم انصرفوا راجعين.
وندب النبي (صلى الله عليه وآله) أصحابه في طلبهم، حتَّى إذا بلغوا قريباً من حمراء الأسد، وكان فيمن طلبهم يومئذ عبد الله بن مسعود، وذلك حين قال الله ﴿الذين قال لهم الناس إنَّ الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل﴾ آل عمران /173 (2).
ـــــــــــــــــــــــ
(1) جاء في سيرة ابن اسحق: 334 «ثم بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله) علي بن أبي طالب، فقال: اخرج في أثر القوم فانظر ما يصنعون».
(2) في تاريخ الطبري عن ابن اسحق: ثم بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله) علي بن أبي طالب فقال: أخرج في آثار القوم فانظر ماذا يصنعون وماذا يريدون.
«صفحة 82»
3. قال عبد الرزاق قال معمر قال الزهري في حديثه عن المسيب: وذكر قصَّة نعيم بن مسعود الأشجعي وسعيه في الوقيعة بين أبي سفيان وبني قريضة وما أرسل الله تعالى من الريح على المشركين وانهزامهم بغير قتال، ثم قال: فذلك حين يقول ﴿وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله عزيزاً﴾ الأحزاب /25 (1).
4. عبد الرزاق عن معمر عن الزهري، قال:
ـــــــــــــــــــــــ
(1) قال السيوطي في الدر المنثور ج5/192 في قوله تعالى (وكفى الله المؤمنين القتال): أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر عن ابن مسعود (رض) أنَّه كان يقرأ هذا الحرف وكفى الله المؤمنين القتال بعلي بن أبي طالب. وذكر ذلك أيضاً الطبرسي في مجمع البيان وقال: وهو المروي عن أبي عبد الله وأخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق في ترجمة علي (عليه السلام) تحقيق المحمودي ج2/420. أقول: قوله يقرأ أي يفسر، وروى الشيخ المفيد في الإرشاد ص 54 عن جابر بن عبد الله الانصاري وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعثه مع علي (عليه السلام) لينظر ما يكون منه ومن عمرو قال فما شبهت قتل علي عمراً إلاَّ بما قصَّ الله تعالى من قصة داود (عليه السلام) وجالوت حيث يقول جلَّ شأنه (فهزموهم بإذن الله وقتل داود جالوت). وقال أبو جعفر الاسكافي ت 220هـ في المعيار والموازنة ص 91 «خرج علي (عليه السلام) الى عمرو والمسلمون مشفقون قد اقشعرت جلودهم وزاغت أبصارهم وبلغت الحناجر قلوبهم وظن قوم بالله الظنون والنبي (صلى الله عليه وآله) ليدعو له بالنصر ملح في ذلك مستغيث بربِّه ففرَّج الله به تلك الكرب وأزال الظنون وثبت اليقين بعلي بن أبي طالب.. وفي ذلك يؤثر عن حذيفة بن اليمان أنَّه قال: لقد أيد الله تبارك وتعالى رسوله والمؤمنين بعلي في موقفين لو جمع جميع أعمال المؤمنين لما عدل بهما يوم بدر ويوم الخندق ثم قصَّ قصته فيهما».
«صفحة 83»
لمَّا انصرف رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتَّى أتى المدينة، فغزا خيبر من الحديبية فأنزل الله عليه «وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها فعجل لكم هذه» الى ﴿ويهديكم صراطاً مستقيماً﴾ فلمَّا فتحت خيبر جعلها لمن غزا معه الحديبية، وبايع تحت الشجرة، ممَّن كان غائباً أو شاهداً، من أجل أنَّ الله كان وعدهم إيَّاها، وخمَّس رسول الله (صلى الله عليه وآله) خيبر، ثم قسم سائرها مغانم بين من شهدها من المسلمين، ومن غاب عنها من أهل الحديبية (1).
ـــــــــــــــــــــــ
(1) روى البخاري ومسلم وأحمد وابن عساكر وغيرهم عن أبي هريرة، وسهل بن سعد وسلمة بن الاكوع وبريدة بن الحصيب وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس، وغيرهم والروايات تزيد وتنقص في بعض ألالفاظ وحاصلها: أنَّ النبي (صلى الله عليه وآله) بعث أبا بكر إلى خيبر فلم يفتح عليه وبعث عمر فلم يفتح عليه فقال النبي (صلى الله عليه وآله): لأعطينَّ الراية رجلاً كراراً غير فرَّار يحب الله ورسوله ويحبُّه الله ورسوله يفتح الله على يديه، فبات الناس يدوكون ليلتهم فلمَّا أصبح الصباح دعا علياً (عليه السلام) وهو أرمد العين فتفل في عينه ففتح عينه وكأنه لم يرمد قط وقال له: خذ هذه الراية واذهب ولا تلتفت حتى يفتح الله عليك فمشى علي (عليه السلام)هنيهة، قال ابن مكي: ولم يلتفت للعزمة، فقال: يا رسول الله علام أُقاتل الناس ؟ قال: قاتلهم حتى يشهدوا أنَّ لا إله إلاَّ الله وأنِّي رسول الله فإذا قالوها منعوا منِّي. فخرج علي يهرول حتى ركز رايته في أرضهم تحت الحصن فاطلع رجلٌ يهودي من رأس الحصن وقال: من أنت ؟ قال: أنا علي بن أبي طالب (عليه السلام) فالتفت إلى أصحابه وقال: غلبتم والذي أنزل التوراة على موسى، فما رجع علي حتى فتح الله عليه (ابن عساكر: تاريخ دمشق 42/89).
«صفحة 84»
5. عبد الرزاق عن معمر عن الزهري قال: أخبرني كُثيّر بن العباس بن عبد المطلب عن أبيه العباس قال: شهدت مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) يوم حنين، قال: فلقد رأيت النبي (صلى الله عليه وآله) وما معه إلاَّ أنا وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، فلزمنا رسول الله (صلى الله عليه وآله) فلم نفارقه، وهو على بغلة شهباء وربما قال معمر: بيضاء أهداها له فروة بن نفاثة الجذامي.
قال: فلمَّا التقى المسلمون والكفَّار ولَّى المسلمون مدبرين (1)، وطفق رسول
ـــــــــــــــــــــــ
(1) قال اليعقوبي ج2/62 انهزم المسلمون عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتى بقي في عشرة من بني هاشم وقيل تسعة وهم علي بن أبي طالب والعباس بن عبد المطلب وأبو سفيان بن الحارث ونوفل بن الحارث وربيعة بن الحارث وعتبة ومعتب ابنا أبي لهب والفضل بن العباس وعبد الله بن الزبير بن عبد المطلب وقيل أيمن بن أم أيمن. وروى ذلك أيضاً البلاذري ج1/365وكذلك رواه ابن عبد البر في الاستيعاب ص 813 ونقل عن ابن إسحاق قول العباس:
نصرنا رسول الله في الحرب سبعة
وقد فر من فر عنه واقشعوا
وثامننا لاقى الحمام بسيفه
بما مسَّه في الله لا يتوجع
قال ابن اسحاق: السبعة علي والعباس والفضل وابو سفيان بن الحارث وابنه جعفر وربيعة بن الحارث واسامة بن زيد والثامن ايمن، قال ابن عبد البر: وجعل غير ابن اسحق في موضع أبي سفيان عمر بن الخطابوالصحيح ان ابا سفيان بن الحارث كان يومئذ معه لم يختلف فيه واختلف في عمر، اقول: في كل الروايات اسم علي (عليه السلام) ثابت. وفي امتاع الاسماع ص 408 للمقريزي قال ابو الفضل بن العباس: التفت العباس يومئذ وقد اقشع الناس (اي تفرقوا وتصدعوا وانكشفوا) عن بكرة ابيهم فلم ير عليا فيمن ثبت فقال: شُوهةً بُوهة (اي بعداً له) أوَ في مثل الحال يرغب ابن أبي طالب بنفسه عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو صاحبه فيما هو صاحبه /قال المقريزي يعني في المواقف المشهورة/ فقلت له بعض قولك لابن اخيك اما تراه في الرهج ؟ قال: اشعِره لي يا بني (أي اذكر علامته) قلت: هو ذو كذا، ذو كذا، ذو البردة، قال: فما تلك البرقة ؟ قلت: سيفه يرفل (أي يتبختر) به بين الاقران، فقال: بَرٌّ ابنُ بَرّ، فِداه عمٌّ وخال، قال: فضرب علي يومئذ اربعين مبارزا كلهم يقُدُّه حتى يقد انقه، وذكره قال: وكانت ضرباته منكرة. ﴿قال في لسان العرب: قدد: القَدّ: القطع المستأصل والشق طولا. وضربه بالسيف فَقَدَّه بنصفين. وفي الحديث: أن عليا (عليه السلام) كان إذا اعتلى قدَّ وإذا اعترض قطَّ وفي رواية: كان إذا تطاول قدَّ وإذا تقاصر قطَّ أي قطع طولا وقطع عرضا﴾.
«صفحة 85»
الله (صلى الله عليه وآله)يركض بغلته نحو الكفار قال العباس: وأنا آخذ بلجام بغلة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ألقفها، وهو لا يألو ما أسرع نحو المشركين، وأبو سفيان بن الحارث آخذ بغرز (1) رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقال: يا عباس، ناد أصحاب السمرة، قال: وكنت رجلاً صيتاً، فناديت بأعلى صوتي: أي أصحاب السمرة ؟ قال: فو الله لكأن عطفتهم حين سمعوا
ـــــــــــــــــــــــ
(1) الغرز: ركاب للرحل من جلد، وغرز رجله في الغرز يغرزها غرزا: وضعها فيه ليركب وأثبتها. (ابن منظور لسان العرب مادة غرز).
«صفحة 86»
صوتي عطفة البقر على أولادها، يقولون: يا لبيك، يا لبيك، يا لبيك.
وأقبل المسلمون، فاقتتلوا هم والكفار.
فنادت الأنصار، يقولون: يا معشر الأنصار، ثم قصر الداعون على بني الحارث بن الخزرج، فنادوا: يا بني الحارث بن الخزرج.
قال: فنظر رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو على بغلته كالمتطاول عليها الى قتالهم.
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): هذا حين حمي الوطيس.
قال ثم أخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله) حصيات فرمى بهن وجوه الكفَّار، ثم قال: انهزموا وربِّ الكعبة.
قال: فذهبت أنظر فإذا القتال على هيئته فيما أرى.
قال: فو الله ما هو إلاَّ أن رماهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) بحصياته، فما زلت أرى حدَّهم كليلاًوأمرهم مدبراً حتَّى هزَّمهم الله تعالى، قال: وكأنِّي أنظر إلى النبي (صلى الله عليه وآله)يركض خلفهم على بغلة له.
«صفحة 87»
الدافع الثاني: الكتمان كراهةً وخوفاً من العامة
أ. ما حذفه ابن هشام من سيرة ابن إسحاق:
قال ابن خلكان في ترجمة عبد الملك بن هشام الحميري: «جمع سيرة رسول الله من المغازي والسير لابن إسحاق وهذّبها…».
و قال السيوطي في بغية الوعاة / 315 في ترجمته أيضاً: «مهذِّب السيرة النبوية سمعها من زياد البكائي صاحب ابن إسحاق ونقّحها…».
وقد وضَّح ابن هشام منهجه في التهذيب في مقدمة الكتاب قائلاً:
«وتارك بعض ما ذكره ابن إسحاق في هذا الكتاب… وأشياء يشنع الحديث به بعض يسوء الناس ذكره…».
وكان ممّا حذفه ابن هشام من سيرة ابن إسحاق «ممّا يسوء الناس ذكره» خبر دعوة الرسول بني عبد المطلب عندما أوحى الله إليه: ﴿وَأنْذِرْ عَشِيرَتَك الأقْرَبِين﴾ فقد روى الطبري في تأريخه
«صفحة 88»
قال حدَّثنا ابن حميد قال حدَّثنا سلمة قال حدَّثني محمد بن إسحاق عن عبد الغفار بن القاسم عن المنهال بن عمرو عن عبد الله ابن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب عن عبد الله بن عباس عن علي بن أبي طالب قال: لما نزلت هذه الآية على رسول الله (صلى الله عليه وآله): ﴿وأنذر عشيرتك الأقربين﴾ دعاني رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال لي: يا علي إنَّ الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين فضقت بذلك ذرعاً وعرفت أنِّي متى أباديهم بهذا الأمر أرى منهم ما أكره فصمّت عليه حتَّى جاءني جبرئيل فقال: يا محمد إنَّك إلاَّ تفعل ما تؤمر به يعذِّبك ربُّك فاصنع لنا صاعاً من طعام واجعل عليه رجل شاة واملأ لنا عُسَّاً من لبن ثم اجمع لي بني عبد المطلب حتَّى أكلمهم وأبلغهم ما أمرت به ففعلت ما أمرني به. ثم دعوتهم له وهم يومئذ أربعون رجلاً يزيدون رجلا أو ينقصونه فيهم أعمامه: أبو طالب وحمزة والعباس وأبو لهب فلمَّا اجتمعوا إليه دعاني بالطعام الَّذي صنعت لهم فجئت به فلما وضعته تناول رسول الله (صلى الله عليه وآله)حذية من اللحم فشقها
«صفحة 89»
بأسنانه ثمَّ ألقاها في نواحي الصحفة. ثم قال: خذوا بسم الله فأكل القوم حتَّى ما لهم بشى حاجة وما أرى إلا موضع أيديهم وأيم الله الذي نفس عليِّ بيده وإن كان الرجل الواحد منهم ليأكل ما قدَّمت لجميعهم. ثمَّ قال: اسق القوم فجئتهم بذلك العس فشربوا منه حتَّى رووا منه جميعاً وأيم الله إن كان الرجل الواحد منهم ليشرب مثله فلمَّا أراد رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يكلمهم بدره أبو لهب إلى الكلام فقال: لشدَّ ما سحركم صاحبكم فتفرق القوم ولم يكلمهم رسول الله (صلى الله عليه وآله)فقال الغد: يا علي إن هذا الرجل سبقني إلى ما قد سمعت من القول فتفرَّق القوم قبل أن أكلِّمهم فعد لنا من الطعام بمثل ما صنعت، ثم أجمعهم إلىَّ.
قال: ففعلت، ثم جمعتهم ثم دعاني بالطعام فقربته لهم، ففعل كما فعل بالأمس فأكلوا حتَّى ما لهم بشيء حاجة. ثم قال: أسقهم فجئتهم بذلك العس فشربوا حتَّى رووا منه جميعاً ثم تكلَّم رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: يا بني عبد المطلب إني والله ما أعلم شاباً في العرب جاء قومه بأفضل ممَّا قد جئتكم به
«صفحة 90»
إنِّي قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة. وقد أمرني الله تعالى أن أدعوكم إليه فأيُّكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم ؟ قال: فأحجم القوم عنها جميعا وقلت: وإنِّي لأحدَثهم سناً وأرمصهم عيناً وأعظمهم بطناً وأحمشهم ساقاً أنا يا نبي الله أكون وزيرك عليه. فأخذ برقبتي، ثم قال: إنَّ هذا أخي ووصي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا. قال: فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع (1).
حذف ابن هشام هذا الخبر وأخباراً كثيرةً اُخرى كان يرى أنّ ذكرها يسوء الناس ولهذا السبب اشتهرت سيرة ابن هشام وأصبحت أوثق سيرة عند الناس وأهملت سيرة ابن إسحاق لأنّ فيها أخبارا لا يرغبون في نشرها حتَّى فقدت نسختها.
أقول: وقد عُثِر أخيرا على قطعتين من سيرة ابن إسحاق ترتبطان ببعض حوادث الفترة المكية
ـــــــــــــــــــــــ
(1) ابن جرير الطبري: تاريخ الطبري ج2 ص321.
«صفحة 91»
ومعركة بدر وأُحد حققهما أحد الباحثين (1) ومن حسن الحظ أنَّ إحدى القطعتين احتفظت بحديث الدار وبالسند نفسه غير أنَّ يد التحريف امتدت إلى القسم المهم والخطير من الرواية وهو قوله (صلى الله عليه وآله): أيُّكم يؤازرني الخ… فحذفته.
قال يونس (2) عن ابن إسحاق قال حدَّثني من سمع من عبد الله بن الحارث بن نوفل واستكتمني اسمه عن ابن عباس عن علي قال: لمَّا نزلت هذه الآية على رسول الله﴿وانذر عشيرتك الأقربين﴾… وذكر نص الرواية إلى قوله قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة (3) ثم حذف الباقي.
أقول: الراوي الذي سمع من عبد الله بن الحارث (ت84هـ) هو المنهال بن
ـــــــــــــــــــــــ
(1) هو الدكتور سهيل زكار، قال في مقدمة التحقيق: ان النسخة الاولى من القطعة الاولى ترجع الى القرن الخامس الهجري كانت موجودة في مكتبة القرويين بفاس وتحوي مائة واثنتين صفحة والقطعة الثانية في المكتبة الظاهرية بدمشق ويرجع تاريخها الى القرن الخامس أيضاً.
(2) هو يونس بن بكير ستأتي ترجمته.
(3) ابن إسحاق: سيرة ابن إسحاق تحقيق د. سهيل زكار ط1/1398-1978.
«صفحة 92»
عمرو (1)ولعلَّه حدَّثه به على عهد هشام بن عبد
ـــــــــــــــــــــــ
(1) قال ابن حجر في تهذيب التهذيب: المنهال بن عمرو الأسدي مولاهم الكوفي (خ والأربعة) روى عن أنس إن كان محفوظاً وأرسل عن يعلى بن مرة وزر بن حبيش وعبد الله بن الحارث المصري وزاذان الكندي وسويد بن غفلة ومحمد بن الحنفية وأبي عبيدة بن عبد الله أبن مسعود وسعيد بن جبير وعلي بن ربيعة ومجاهد بن جبر وعبد الرحمن بن أبي ليلى وعباد بن عبد الله الأسدي وعائشة بنت طلحة وغيرهموعنه محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى والأعمش وربيعة بنت عتبة الكناني والحجاج بن أرطاة ومنصور بن المعتمر وليث بن أبي سليم وعلي بن الحكم البناني وعبد ربه بن سعيد وشعبة بن الحجاج وميسرة بن حبيب وأبو خالد الدالاني وعمر بن عبد الله بن يعلى بن مرة وعمرو بن أبي قيس الرازي وحصين بن عبد الرحمن وآخرون، قال عبد الله بن أحمد سمعت أبي يقول: ترك شعبة المنهال بن عمرو على عمد قال بن أبي حاتم: لأنه سمع من داره صوت قراءة بالتطريب وقال عبد الله بن أحمد سمعت أبي يقول: أبو بشر أحبُّ إلىَّ من المنهال وقال: نعم شديدا أبو بشر أوثق إلا أنَّ المنهال أسن وقال إبن معين والنسائي: ثقة، وقال وهب بن جرير عن شعبة: أتيت منزل المنهال فسمعت منه صوت الطنبور فرجعت ولم أسأله قلت: فهلا سألته عسى كان لا يعلم ؟ وقال بن المديني عن يحيى بن سعيد: أتى شعبة المنهال بن عمرو فسمع صوتا فتركه، وقال العجلي كوفي: ثقة، وقال الدار قطني: صدوق، وقال جرير عن مغيرة: كان حسن الصوت وكان له لحن يقال له وزن سبعة، وقال الغلابي: كان إبن معين يضع من شأن المنهال بن عمرو، وقال الجوزجاني: سيء المذهب وقد جرى حديثه، وقال إبن أبي خيثمة حدَّثنا سليمان بن أبي شيخ حدَّثني محمد بن عمر الحنفي عن إبراهيم بن عبيد الطنافسي قال: وقف المغيرة صاحب إبراهيم على يزيد بن أبي زياد، فقال: ألا تعجب من هذا الأعمش الأحمق ؟ إنِّي نهيته يروي عن المنهال بن عمرو وعن عباية ففارقني على أن لا يفعل ثمَّ هو يروي عنهما نشدتك بالله تعالى هل كانت تجوز شهادة المنهال على درهمين ؟ قال: اللهمَّ لا، قال: وكذا عباية وذكره بن حبان في الثقات قلت محمد بن عمر الحنفي راوي الحكاية فيه نظر وقال الحاكم المنهال بن عمرو غمزه يحيى القطان، وقال أبو الحسن بن القطان: كان أبو محمد بن حزم يضعف المنهال ورد من روايته حديث البراء وليس على المنهال حرج فيما حكى بن أبي حازم فذكر حكايته المتقدمة، قال: فإن هذا ليس بجرح إلاَّ أن تجاوز إلى حدِّ تحريم ولم يصح ذلك عنه وجرحه بهذا تعسف ظاهر وقد وثقه بن معين والعجلي وغيرهما ولهم شيخ آخر يقال له المنهال بن عمرو أقدم من هذا روى عن عبد الله بن مسعود روى عنه أبو إسحاق السبيعي قال أبو حاتم إن لم يكن بالأسدي فلا أعرفه، قلت: إنما يمكن أن يكون الأسدي إن كان أرسل عن بن مسعود فإن الأسدي لم يدركه وتكون رواية أبي إسحاق عنه من رواية الأكابر عن الأصاغر.
«صفحة 93»
الملك (ت125هـ) ثمَّ حدَّثه به عبد الغفَّار بن القاسم (1) به (وهو من أقران ابن إسحاق) عن المنهال الذي يحتمل فيه إنَّه سمعه من المنهال ولم يستكتمه اسمه لانتهاء الظرف الذي يخاف منه.
أمَّا يونس بن بكير فهو صاحب ابن إسحاق وقد وثقَّوه وأثنوا عليه، (2) ومن هنا فإنَّنا نحتمل
ـــــــــــــــــــــــ
(1) قال ابن عدي في الكامل في الضعفاء 5/327 قال علي بن المديني: أبو مريم اسمه عبد الغفار وكان لشعبة فيه رأي وتعلَّم منه زعموا توقيف الرجال ثمَّ ظهر منه رأي ردى في الرفض فترك حديثه وسمعت أحمد بن محمد بن سعيد يثني على أبي مريم ويطريه وتجاوز الحد في مدحه حتَّى قال: لو انتشر علم أبي مريم وخرج حديثه لم يحتج الناس إلى شعبة وابن سعيد حيث مال هذا الميل الشديد إنَّما كان لإفراطه في التشيع، وفي تعجيل المنفعة 263 قال أحمد: ليس بثقة وكان يحدث ببلايا في عثمان وعامة حديثه بواطيل، وقال أبو حاتم: متروك الحديث وكان من رؤساء الشيعة، وقال الآجري: سألت أبا داود ؟ فقال: كان يضع الحديث.
(2) قال ابن حجر في تهذيب التهذيب 11/382: يونس بن بكير بن واصل الشيباني أبو بكر، ويقال: أبو بكير الجمال الكوفي الحافظ، قال مضر بن محمد عن ابن معين: ثقة، وقال الدوري عن ابن معين: كان صدوقاً، وقال عثمان بن سعيد عن ابن معين: ثقة، قال عثمان: يخالف في يونس، وقال عثمان أيضاً: لا بأس به، وقال إبراهيم بن الجنيد عن ابن معين: كان ثقة صدوقاً إلا أنَّه كان مع جعفر بن يحيى وكان موسراً فقال له رجل: إنَّهم يرمونه بالزندقة، فقال: كذب ثمَّ، قال يحيى: رأيت ابني أبي شيبة أتياه فأقصاهما وسألاه كتاباً فلم يعطهما فذهبا يتكلمان فيه، قال يحيى بن معين: قد كتبت عنه، وقال أبو خيثمة: قد كتبت عنه، وقال العجلي بكر بن يونس بن بكير: لا بأس به كان أبوه علي مظالم جعفر وبعض الناس يضعفونهما، وقال ابن أبي حاتم: سئل أبو زرعة أي شيء ينكر عليه ؟ قال: أمَّا في الحديث فلا أعلمه، وسئل عنه أبي ؟ فقال: محلَّه الصدق وقال الآجري بن أبي داود: ليس هو عندي بحجة كان يأخذ ابن إسحاق فيوصله بالأحاديث، وقال النسائي: ليس بالقوي، وقال مرَّة: ضعيف، وذكره ابن حبان في الثقات، قال مطين وغيره: مات سنة تسع وتسعين ومائة، قلت: وقال إبراهيم بن داود: سألت محمد بن عبد الله بن نمير عنه، قال: ثقة رضي وقال عبيد بن يعيش ثنا يونس بن بكير: وكان ثقة، وقال ابن عمار: هو اليوم ثقة عند أصحاب الحديث، وقال الجوزجاني: ينبغي أن يثبت في أمره، وقال الساجي: كان ابن المديني لا يحدث عنه وهو عندهم من أهل الصدق، وقال أحمد بن حنبل: ما كان أزهد الناس فيه وأنفرهم عنه وقد كتبت عنه، قال الساجي: وحدَّثني أحمد بن محمد يعني بن محرز قال: قلت ليحيى الحماني: إلا تروي عن يونس بن بكير ؟ قال: لم يكن ظاهراً، قال وقلت لابن أبي شيبة: إلا تروي عنه ؟ قال: كان فيه لين، قال الساجي: وكان صدوقاً إلا أنَّه كان يتبع السلطان وكان مرجئا.
«صفحة 94»
أنَّ الحذف من صنع النُّساخ ويؤيد ذلك ما ذكره ابن أبي الحديد لمَّا روى عن أبي عمر محمد بن عبد الواحد الزاهد اللغوي غلام ثعلب، ومحمد بن حبيب في أماليه أنَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) لمَّا فرَّ
«صفحة 95»
معظم أصحابه عنه يوم أُحد كثرت عليه كتائب المشركين وقصدته كتيبة من بنى كنانة ثمَّ من بنى عبد مناة بن كنانة فيها بنو سفيان بن عويف وهم خالد بن سفيان وأبو الشعثاء بن سفيان وأبو الحمراء بن سفيان وغراب بن سفيان، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا علي أكفني هذه الكتيبة، فحمل عليها وإنَّها لتقارب خمسين فارساً وهو (عليه السلام) راجل، فما زال يضربها بالسيف حتَّى تتفرق عنه ثم تجتمع عليه هكذا مراراً حتَّى قتل بنى سفيان بن عويف الأربعة وتمام العشرة منها ممَّن لا يعرف بأسمائهم، فقال جبرئيل لرسول الله (صلى الله عليه وآله): يا محمد إنَّ هذه المواساة لقد عجبت الملائكة من مواساة هذا الفتى، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): وما يمنعه وهو منِّي وأنا منه، فقال جبرئيل (عليه السلام): وأنا منكما، قال: وسمع ذلك اليوم صوت من قبل السماء لا يرى شخص الصارخ به ينادي مراراً:
لا سيف إلاَّ ذو الفقار
ولا فتى إلاَّ علي
فسئل رسول الله (صلى الله عليه وآله) عنه، فقال: هذا جبرائيل.
قال ابن أبي الحديد: وقد روى هذا الخبر جماعة
«صفحة 96»
من المحدثين وهو من الأخبار المشهورة ووقفت عليه في بعض نسخ مغازي محمد بن إسحاق ورأيت بعضها خالياً عنه (1).
ب. ما حذفه القاسم بن سلام (ت 224هـ):
ومثل هذا الحذف أو الكتمان وعدم الذكر قام به أبو عبيد القاسم بن سلام في كتابه الأموال ص 174-175 قال: حدثني سعيد بن عفير قال: حدثني علوان بن داود -مولى أبي زرعة بن عمرو بن جرير-عن حميد بن عبد الرحمن بن حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن صالح بن كيسان عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه عبد الرَّحمن قال:
«دخلت على أبي بكر أعوده في مرضه الَّذي توفي فيه، فسلَّمت عليه وقلت. ما أرى بك بأساً، والحمد لله، ولا تأس على الدنيا. فوالله إنْ علمناك إلاَّ كنت صالحاً مصلحاً. فقال: أما إنِّي لا آسى على شيء إلاَّ على ثلاث فعلتهم، وددت
ـــــــــــــــــــــــ
(1) ابن ابي الحديد: شرح نهج البلاغة 14/250-251.
«صفحة 97»
أنِّي لم أفعلهم، وثلاث لم أفعلهم ودت إنِّي فعلتهم وثلاث ودت إنِّي سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله) عنهم.
فأمَّا الَّتي فعلتها ووددت أنِّي لم أفعلها، فوددت أنِّي لم أكن فعلت كذا وكذا -لخلة ذكرها، قال أبو عبيد: لا أُريد ذكرها-.
ووددت أنِّي يوم سقيفة بني ساعدة كنت قذفت الأمر في عنق أحد الرجلين: عمر، أو أبي عبيدة. فكان أميراً وكنت وزيراً.
ووددت أنِّي حيث كنت وجَّهت خالداً إلى أهل الرَّدة أقمت بذي القصة، فإن ظفر المسلمون ظفروا وإلاَّ كنت بصدد لقاء، أو مدد.
وأمَّا الثلاث التي تركتها ووددت أنِّي فعلتها: فوددت إنِّي يوم أُتيت بالأشعث بن قيس أسيراً كنت ضربت عنقه، فإنَّه يخيِّل إلىَّ أنَّه لا يرى شرًّا إلاَّ أعان عليه».
ووددت إننَّي يوم أُتيت بالفجاءة لم أكن أحرقته، وكنت قتلته سريحاً، أو أطلقته نجيحاً ووددت أنِّي حيث وجَّهت خالداً إلى أهل الشام كنت وجَّهت عمر إلى العراق، فأكون قد بسطت
«صفحة 98»
يدي، يميني وشمالي في سبيل الله.
وأمَّا الثلاث التي وددت إنِّي كنت سألت عنها رسول الله (صلى الله عليه وآله): فوددت إنِّي سألته فيمن هذا الأمر، فلا ينازعه أهله ؟ ووددت إنِّي كنت سألته. هل للأنصار من هذا الأمر من نصيب ؟ ووددت إنِّي كنت سألته عن ميراث العمَّة وإبنة الأخ، فإن في نفسي منها حاجة.
وقد أثبت الطبري الخلة التي كره ذكرها ابن سلام، قال في تاريخه قال: فوددت إنِّي لم أكن كشفت عن بيت فاطمة وتركته ولو أُغلق على حرب) (1).
أقول: وقد ذكرها الذهبي أيضا في كتابه ميزان الاعتدال (ج3/108) بترجمة علوان بن داود العجلي.
ج. ما حذفه عمر بن شبَّة:
ومثله ما حذفه عمر بن شبة أو الرواة عنه، قال: «خطب ابن عديس وعثمان محصور وقال
ـــــــــــــــــــــــ
(1) ابن جرير الطبري: تاريخ الطبري 3/430.
«صفحة 99»
في خطبته: إنِّ ابن مسعود حدثني أنَّه سمع من رسول الله (صلى الله عليه وآله)يقول إنَّ عثمان قال ابن شبة: وتكلَّم بكلمة أكره ذكرها» (1).
د. ما حذفه الطبري:
قال الطبري في حوادث سنة 30 هـ: «وفي هذه السنة – أعني سنة (30هـ) -كان ما ذكر من أمر أبي ذر ومعاوية وإشخاص معاوية إياه منها (أي المدينة) أمور كثيرة كرهت ذكرها، أمَّا العاذرون معاوية في ذلك فإنهم ذكروا في ذلك قصة كتب بها إلي السري يذكر: إنَّ شعيباً حدَّثه سيف، عن عطيّة، عن يزيد الفقعسي، قال: لمّا ورد ابن السوداء الشام لقي أبا ذر… الخ» (2).
ويقول في حوادث سنة (35هـ): «وذُكِرتْ أُمور كثيرة في سبب مسير المصريين إلى عثمان ونزولهم ذا خشب، منها ما تقدم ذكره، ومنها ما
ـــــــــــــــــــــــ
(1) ابن شبة: تاريخ المدينة: 1156. اقول: ولم أعثر على مصدر يذكر كلمة النبي (صلى الله عليه وآله) في عثمان التي حذفها ابن شبة.
(2) ابن جرير الطبري: تاريخ الطبري 4: 283.
«صفحة 100»
أعرضت عن ذكره كراهة مني لبشاعته» (1)، ثم يذكر رواية سيف بن عمر في ذلك تفصيلاً.
ويقول في حوادث السنة نفسها أيضاً: «… إنَّ محمد بن أبي بكر كتب إلى معاوية بن أبي سفيان لمَّا ولّي، فذكر-أي هشام عن أبي مخنف- مكاتبات جرت بينهما، كرهت ذكرها لما فيها مما لا يحتمل سماعَها العامة» (2).
أقول: وقد روى هذه المكاتبات المسعودي في مروج الذهب ج3 ص11-13، ورواها أيضاً نصر بن مزاحم في كتابه وقعة صفين ونحن ننقلها من هذا الأخير.
قال نصر:
وكتب محمد بن أبي بكر إلى معاوية:
من محمد بن أبي بكر إلى الغاوي معاوية بن صخر: سلام على أهل طاعة الله ممَّن هو مُسلِّمٌ لأهل ولاية الله، أمَّا بعد فإنَّ الله بجلاله وعظمته وسلطانه وقدرته خلق خلقاً بلا عنت ولا
ـــــــــــــــــــــــ
(1) ابن جرير الطبري: تاريخ الطبري 4: 35.
(2) ابن ابي الحديد: شرح نهج البلاغة ج3 ص 188.
«صفحة 101»
ضعف في قوته ولا حاجة به إلى خلقهم، ولكنه خلقهم عبيداً وجعل منهم شقياً وسعيداً وغوياً ورشيداً، ثمَّ اختارهم على علمه فاصطفى وأنتخب منهم محمداً فاختصَّه برسالته واختاره لوحيه وائتمنه على أمره وبعثه رسولاً مصدِّقاً لما بين يديه من الكتب ودليلاً على الشرائع، فدعا إلى سبيل ربَّه بالحكمة والموعظة الحسنة فكان أوّل من أجاب وأناب وصدَّق ووافق وأسلم وسلم أخوه وابن عمه عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، فصدَّقه بالغيب المكتوم، وآثره على كل حميم، ووقاه كل هول وواساه بنفسه في كل خوف، فحارب حربه، وسالم سلمه، فلم يبرح مبتذلاً لنفسه في ساعات الأَزل ومقامات الروع حتَّى برز سابقاً لا نظير له في جهاده ولا مقارب له في فعله، وقد رأيتك تساميه وأنت أنت وهو هو، السابق المبرز في كلِّ خير، أوّل الناس إسلاماً، وأصدق الناس نية، وأطيب الناس ذرية، وأفضل الناس زوجة، وخير الناس ابن عم.
وأنت اللعين ابن اللعين، ثمَّ لم تزل أنت وأبوك
«صفحة 102»
تبغيان لدين الله الغوائل وتجتهدان على إطفاء نور الله وتجمعان على ذلك الجموع وتبذلان فيه المال وتحالفان في ذلك القبائل، على ذلك مات أبوك، وعلى ذلك خلفته، والشاهد عليك بذلك من يأوي ويلجأ إليك من بقية الأحزاب ورؤوس النِّفاق والشِّقاق لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، والشاهد لعلي مع فضله وسابقته القديمة أنصاره الذين ذكرهم الله تعالى في القرآن، ففضَّلهم وأثنى عليهم من المهاجرين والأنصار فهم معه كتائب وعصائب يجالدون حوله بأسيافهم ويهريقون دماءهم دونه، يرون الفضل في إتباعه، والشَّقاء والعصيان فى خلافه، فكيف يا لك الويل تعدل نفسك بعلي، وهو وارث رسول الله ووصيه وأبو ولده وأول الناس له إتباعا وآخرهم به عهداً ؟ يخبره بسرِّه، ويشركه فى أمره، وأنت عدوِّه وابن عدوَّه، فتمتع ما استطعت بباطلك، وليمدد لك ابن العاص في غوايتك فكأنَّ أجلك قد انقضى وكيدك قد وهى، وسوف تستبين لمن تكون العاقبة العليا، واعلم إنَّك إنَّما تكايد ربَّك الذي قد آمنت كيده،
«صفحة 103»
وأيست من روحه، وهو لك بالمرصاد، وأنت منه في غرور وبالله وبأهل بيت رسوله عنك الغناء، والسلام على من إتبع الهدى.
فكتب إليه معاوية:
من معاوية بن أبي سفيان إلى الزاري على أبيه محمد بن أبي بكر سلام على أهل طاعه الله، أمَّا بعد، فقد أَتاني كتابك، تذكر فيه ما الله أهله في قدرته وسلطانه وما اصفى به نبيه، مع كلام ألفته ووضعته لرأيك، فيه تضعيف، ولأبيك فيه تعنيف، ذكرت حق ابن أبي طالب، وقديم سابقت وقرابته من نبي الله، ونصرته له، ومواساته إيَّاه في كل خوف وهول، وإحتجاجك علىَّ، وفخرك بفضل غيرك لا بفضلك، فأحمد إلها صرف ذلك الفضل عنك، وجعله لغيرك.
فقد كنا وأبوك معنا في حياة نبينا، نرى حق ابن أبي طالب لازماً لنا وفضله مبرزاً علينا، فلمَّا اختار الله لنبيه ما عنده، وأتمَّ له ما وعده، وأظهر دعوته وأفلج حجته، قبضه الله إليه، فكان أبوك وفاروقه أوّل من ابتزه وخالفه على ذلك اتفقا واتسقا، ثمَّ
«صفحة 104»
دعواه إلى أنفسهما، فأبطأ عنهما وتلكأ عليهما، فَهَمَّا به الهموم وأرادا به العظيم، فبايعهما وسلَّم لهما لا يشركانه في أمرهما ولا يطلعانه على سِرِّهما، حتَّى قُبِضا وانقضى أمرهما.
ثمَّ أقاما بعدهما ثالثهما عثمان بن عفان، يهتدي بهديهما ويسير بسيرتهما، فعِبْته أنت وصاحبك حتَّى طمع فيه الأقاصي من أهل المعاصي، وأبطنتما وأظهرتما وكشفتما له عداوتكما وغلَّكما حتَّى بلغتما منه مُناكما، فخذ حِذرك يا بن أبي بكر، فسترى وبال أمرك، وقس شبرك بفترك تقصر عن أنْ تساوي أو توازي من يزن الجبال حلمه، ولا تلينُ على قسر قناتُه، ولا يُدرِك ذو مدى أناته أبوك مهَّد له مهاده، وبنى ملكه وشاده، فإن يكن ما نحن فيه صواباً فأبوك أوَّله، وإنْ يكن جوراً فأبوك أسَّسه، ونحن شركاؤه، فبهديه أخذنا، وبفعله اقتدينا، رأينا أباك فعل ما فعل، فاحتذينا مثاله، واقتدينا بفعاله، فعب أباك بما بدا
«صفحة 105»
لك، أو دع، والسلام على من أناب (1).
هـ. ما حذفه ابن عبد البر:
ومثله ما ذكره ابن عبد البر في ترجمة أبي موسى الأشعري، قال: وكان منحرفاً عن علي لأنَّه عزله ولم يستعمله. وكان لحذيفة قبل ذلك (أي قبل مسألة العزل وعدم التولية) فيه كلام وكرهت ذكره، والله يغفر له (2).
أقول: قال ابن أبي الحديد: الكلام الذي أشار إليه أبو عمر بن عبد البر ولم يذكر قوله فيه، وقد ذكر عنده (أبو موسى) بالدِّين هو قوله: ﴿أمَّا أنتم فتقولون ذلك وأمَّا أنا فأشهد أنَّه عدُّو لله ولرسوله وحرب لهما في الحياة الدنيا ويوم القيامة يوم يقول الأشهاد، يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم سوء الدار﴾.
قال ابن أبي الحديد: وكان حذيفة عارفاً بالمنافقين، أسرَّ إليه رسول الله (صلى الله عليه وآله) أمرهم وأعلمه أسماءهم.
ـــــــــــــــــــــــ
(1) نصر بن مزاحم: وقعة صفين: 118-121 ط/ المؤسسة العربية الحديثة 1382هـ.
(2) ابن عبد البر: الاستيعاب ص980، 1762.
«صفحة 106»
وقال ابن أبي الحديد أيضاً: وروي أنَّ عماراً سئل عن أبي موسى، فقال: لقد سمعت فيه من حذيفة قولاً عظيماً، سمعته يقول: صاحب البُرنس الأسود، ثمَّ كلح كلوحاً، علمت منه أنَّه كان ليلة العقبة بين ذلك الرهط (1).
الدافع الثالث: رغبة الزنادقة في التحريف
أُطلقت الزندقة ابتداءً على جماعة ماني (2)، القائلين بأنَّ للعالم أصلين أزليين هما النور والظلمة، ثم أطلقت على الدهرية منكري وجود الله والنبوات والكتب المنـزلة والقائلين بقدم العالم وإنكار الحياة الآخرة… ثم أطلقت على كل من يحيى حياة المجون من الشعراء والكتَّاب ومن شاكلهم.
وكان أقدم نص رسمي إسلامي في تعريف الزندقة هو وصية الخليفة المهدي لابنه موسى
ـــــــــــــــــــــــ
(1) ابن ابي الحديد: شرح نهج البلاغة ج3/314-315.
(2) ظهر أيام بهرام الملك الفارسي سنة 240ـ277م.
«صفحة 107»
ولي عهده، قال: يا بني إنْ صار لك هذا الأمر يعني الخلافة فتجرَّد لهذه العصابة، يعني أصحاب ماني فإنَّها فرقة تدعو الناس إلى ظاهر حسن كاجتناب الفواحش والزهد في الدنيا والعمل للآخرة، ثمَّ تخرجها إلى تحريم اللمس ومس الماء الطهور وترك قتل الهوام تحرُّجاً وتحوُّباً ثمَّ تخرجها من هذه إلى عبادة اثنين أحدهما النور والآخر الظلمة ثم تبيح بعد هذا نكاح الأخوات والبنات… فارفع فيها الخشب وجرد فيها السيف (1).
وفيما يلي ترجمة لبعض من أُتِهم بالزندقة:
الزنديق عبد الكريم بن أبي العوجاء:
وممَّن رُمي بالزندقة عبد الكريم بن أبي العوجاء خال معن بن زائدة الشيباني قال قبل قتله: «أما والله لئن قتلتموني لقد وضعت أربعة آلاف حديث أحرّم فيها الحلال وأحلَّ فيها الحرام والله لقد فطَّرْتكم يوم صومكم وصوّمتكم يوم
ـــــــــــــــــــــــ
(1) العلامة العسكري: خمسون ومائة صحابي مختلق ج1/ البحث التمهيدي رقم 1 عن تاريخ الطبري في ذكر أخبار موسى الهادي.
«صفحة 108»
فطركم» (1).
وكان قتله في خلافة المهدي بعد الستين ومائة (2).
أقول: ومن أجل أنْ تتضح مدى واقعية كلام ابن أبي العوجاء الآنف الذكر لابدَّ من ذكر ترجمة حماد بن سلمة كافل ابن أبي العوجاء ومربيه.
ترجمة حماد بن ابي سلمة:
قال ابن حجر في ترجمة حماد بن سلمة بن دينار البصري: «قال الدولابي حدثنا محمد بن شجاع البلخي (الظاهر هو الثلجي) قال: سمعت عباد بن صهيب (ت212هـ) يقول: إنَّ حماداً كان لا يحفظ، وكانوا يقولون: إنَّها (أي روايات التشبيه) دُسَّت في كتبه، وقد قيل إنَّ ابن أبي العوجاء كان ربيبه فكان يدس في كتبه» (3).
ـــــــــــــــــــــــ
(1) ابن جرير الطبري: تاريخ الطبري، الذَّهبي: ميزان الاعتدال وابن حجر لسان الميزان.
(2) ابن حجر لسان: الميزان ترجمة عبد الكريم بن أبي العوجاء.
(3) ابن الجوزي: الموضوعات ص37 طبع المدينة المنورة وابن حجر: تهذيب التهذيب ج3/11-16 وقد عقب على الخبر بقوله: قرأت بخط الذهبي أنَّ ابن البلخي (اي الثلجي) ليس بمصدق على حماد وأمثاله وقد أُتهم. وقال أيضاً: وعباد أيضاً ليس بشيء.
أَقول: قال ابن عدي بعد أن أورد رواية أبي عبد الله محمد بن شجاع ابن الثلجي: (وأبو عبد الله بن الثلجي كذَّاب وكان يضع الحديث ويدسُّه في كتب أصحاب الحديث بأحاديث كفريات).
وقد جاء في تهذيب التهذيب في ترجمة محمد بن شجاع البغدادي أبو عبد الله الثلجي الفقيه، إنَّ عبد الله بن حنبل سئل عن الثلجي ؟ فقال: متبرِّع صاحب هوى. وقال زكريا الساجي: فاما ابن الثلجي فكان كذَّاباً احتال في إبطال حديث رسول الله نصرة لمذهبه. وقال ابن عدي: كان يضع أحاديثا في التشبيه وينسبها إلى أصحاب الحديث يبليهم بذلك، وقال الأزدي: كذَّاب لا تحلُّ الرواية عنه لسوء مذهبه وزيغه عن الدين، قال الخزرجي: قال عبد الغني المصري: معتزلي، وقال الذهبي: كان من أهل الرأي وكان ينال من الشافعي وأحمد توفي وهو ساجد في صلاة العصر سنة ست وستين ومائتين، قال الذهبي خُتِم له بخير.
أقول: أمَّا أحاديث التشبيه المنسوبة إلى حماد بن سلمة فقد ذكر بعضها ابن عدي، من قبيل روايته ان أهل الجنة يكشف لهم الحجاب وينظرون إلى الله تعالى وروايته في قوله تعالى (فلمَّا تجلى ربُّه للجبل جعله دكاً) (قال اخرج طرف خنصره وضرب على ابهامه فساخ الجبل) وغير ذلك.
قال ابن عدي ج2/260-261: وهذه الأحاديث التي رويت عن حماد بن سلمة في الرؤية وفي رؤية أهل الجنة خالقهم قد رواها غير حماد بن سلمة وليس حماد بمخصوص به فينكر عليه.
أقول: ومن ذلك يتضح أنَّ قول الذهبي إنَّ ابن الثلجي ليس بمصدَّق على حماد وأمثاله ليس له وجه، لأن الذي ذكره ابن الثلجي إنَّما هو كلام لعباد بن صهيب، الذي نقل ما قيل من أنَّ ابن أبي العوجاء كان ربيب حماد فكان يدس في كتبه.
أمَّا عباد بن صهيب البصري: فقد قال أبو داود عنه: صدوق قدري، وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه: رأيته بالبصرة وكانت القدَرَية لتجلَّه، وقال ما كان بصاحب كذب وقال يحيى بن معين هو ثبت، وقال العجلي: كان مشهوراً بالسماع إلا إنَّه كان يرى القدر ويدعو له فترك حديثه.
وقال يحيى بن معين: كان من الحديث بمكان ألا إنَّ الله يضع من يشاء ويرفع من يشاء، قيل له فتراه صدوق في الحديث ؟ قال: ما كتبت عنه.
وقال ابن عدي: لعباد بن صهيب تصانيف كثيرة ومع ضعفه يكتب حديثه (انظر ترجمته في لسان الميزان لابن حجر).
«صفحة 109»
قال ابن عدي: «حماد إمام جليل وهو مفتي أهل البصرة مع سعيد بن أبي عروبة».
وقال أحمد ويحيى: «هو ثقة الناس».
وقال الذهبي في ترجمته في سير أعلام النبلاء: «الإمام القدوة شيخ الإسلام وكان مع إمامته في الحديث إماماً كبيراً في العربية فقيها فصيحاً رأساً في السنة صاحب تصانيف».
قال المزي: «روى عنه إبراهيم بن الحجاج السامي، وإبراهيم بن أبي سويد الذَّراع وإحمد بن إسحاق الحضرمي، وآدم بن أبي أياس (سي)، وإسحاق بن عمر بن سلي، وإسحاق بن منصور السلول، واسد بن موسى (صلى الله عليه وآله)، واسود بن عامر بن شاذان وبشر بن السري، وبشر بن عمر الزهراني، وبهز بن اسد، وحبان بن هلال، وحجَّاج بن منهال، والحسن بن بلال، والحسن بن موسى
«صفحة 110»
الأشيب، والحسين بن عروة، وأبو عمر حفص بن عمر الضرير، وخليفة بن خياط، وداود بن شبيب، وروح بن أسلم، وروح بن عبادة، وزيد بن الحباب، وزيد بن أبي الزرقاء، وشريح بن النعمان، وسعيد بن عبد الجبار البصري وسعيد بن يحيى اللخمي، وسفيان الثوري وهو من اقرانه، وسليمان بن حرب، وأبو داود سليمان بن داود الطيالسي، وسويد بن عمرو الكلبي، وشعبة بن الحجاج وهو اكبر منه، وشهاب بن عباد العبدي، وشهاب بن معمر البلخي، وشيبان بن فروخ، وطالوت بن عباد، والعباس بن بكار الضبي، والعباس بن الوليد النرسي، وعبد الله بن صالح العجلي، وعبد الله بن المبارك، وعبد الله بن مسلمة القعنبي، وعبد الله بن معاوية الجمحي، وعبد الأعلى بن حماد النرسي، وعبد الرحمان بن سلام الجمحي، وعبد الرحمان بن مهدي، وعبد الصمد بن حسان، وعبد الصمد بن عبد الوارث، وأبو صالح عبد الغفَّار بن داود الحراني (صلى الله عليه وآله) وعبد الملك بن عبد العزيز بن جريج
«صفحة 111»
وهو من شيوخة، وعبد الملك بن عبد العزيز أبو نصر التمار، وعبد الواحد بن غياث، وعبيد الله بن محمد العيشي وعفان بن مسلم، وعمرو بن خالد الحراني، وعمرو بن عاصم الكلابي، وعمرو بن مرزوق، والعلاء بن عبد الجبار، وغسان بن الربيع، وأبو نعيم الفضل بن دكين، والفضل بن عنبسة الواسطي، وأبو كامل فضيل بن حسين الجحدري، وقبيصة بن عقبة، وقريش بن انس، وكامل بن طلحة الجحدري، ومالك بن انس وهو من اقرانه، ومحمد بن إسحاق بن يسار وهو من شيوخه، ومحمد بن بكر البرساني ومحمد بن عبد الله الخزاعي، وأبو النعمان محمد بن الفضل عارم، ومحمد بن كثير المصيصي، ومحمد بن محبوب البناني ومسلم بن ابراهيم، ومسلم بن أبي عاصم النبيل، وأبو كامل مظفر بن مدرك، ومعاذ بن خالد بن شقيق، ومعاذ بن معاذ، ومُهَنَّى بن عبد الحميد، وأبو سلمة موسى بن إسماعيل التبوذكي، وموسى بن داود الضبي (صلى الله عليه وآله)، ومؤمل بن إسماعيل، والنظر بن شميل، والنضر بن محمد الجرشي، والنعمان بن عبد السلام، وهدبة بن
«صفحة 112»
خالد، وأبو الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي، والهيثم بن جميل ووكيع بن الجراح، ويحيى بن إسحاق السيلحيني، ويحيى بن حسان التنيسي، ويحيى بن حماد الشيباني، ويحيى بن سعيد القطان، ويحيى بن الضريس الرازي، ويزيد بن هارون، ويعقوب بن إسحاق الحضرمي، ويونس بن محمد المؤدب، وأبو سعيد مولى بني هاشم، وأبو عامر العقدي» (1).
وقال عمرو بن عاصم: «كتبت عن حماد بن سلمة بضعة عشر ألفاً».
وقال جعفر بن عاصم: «سمعت عفان يقول كتبت عن حماد بن سلمة بضعة عشر ألفاً».
وقال علي بن المديني: «كان عند يحيى بن ضريس الرازي عن حماد بن سلمة عشرة آلاف حديث».
وقال أبو سلمة التبوذكي: «مات حماد بن سلمة وقد أتى عليه ست وسبعون سنةوقال المدائني مات سنة سبع وستين ومائة».
أقول: ومعنى ذلك أنَّ ولادة حماد كانت سنة (89 هـ) وكانت مرجعيته في الفتوى في العهد
ـــــــــــــــــــــــ
(1) المزي: تهذيب الكمال ترجمة حماد بن سلمة.
«صفحة 113»
العباسي وكانت قمتها في أخريات عهد المنصور إلى زمن ابنه المهدي، وهو عهد ظهور الزنادقة وملاحقتهم وقتلهم من قبل المهدي العباسي ومنهم عبد الكريم بن أبي العوجاء المقتول بعد سنة 160 ربيب حماد بن سلمة.
ومن ذلك يتضح أنَّ قول ابن أبي العوجاء (أنَّه وضع أربعة آلاف حديث يحرم فيه الحلال ويحلُّ فيه الحرام…) له واقعية فهو ربيب مرجع ديني يستطيع أنْ يدخل عليه في أي وقت شاء ويطالع كتبه في أي وقت يشاء فيضع فيها ما يشاء.
ولا يبعد أَّنَّ بعضاً من هذه الأحاديث التي تحل الحرام ما رواه ابن عدي بأسانيد عن حماد بن سلمة عن أبي العشراء عن أبيه: «أنَّ النبي (صلى الله عليه وآله) سئل أما تكون الذكاة إلاَّ في الحلق أو اللِّبَّة ؟ فقال: لو طعنت في فخذها لأجزأ عنك».
قال ابن عدي: «وأبو العشراء هذا لم يحدِّث عنه على ما تبيِّن لنا غير حماد بن سلمة ويقال أنَّ اسمه أسامة بن مالك بن قهطم وهذا الحديث معروف بحماد عن أبي العشراء وقد رواه عنه الثوري وابن جريج وأورده ابن عدي أيضاً عن غيرهما عن حماد».
«صفحة 114»
قال أحمد: «إذا رأيت من يغمزه /أي حماد بن سلمة /، فاتهمه، فإنَّه كان شديداً على أهل البدع إلاَّ أنَّه لمَّا طَعَنَ في السن ساء حفظه، فلذلك لم يحتج به البخاري وأمَّا مسلم فاجتهد فيه، وأخرج من حديثه عن ثابت بما سمع منه قبل تغيره.. فالاحتياط أن لا يحتج به فيما يخالف الثقات».
أقول: الذي يظهر أنَّ البخاري إنَّما ترك حديث حماد لما تكلموا فيه أنَّ بعض الكذبة أدخل في حديثه ما ليس منه.
قال ابن حجر: «وقد عرَّض ابن حبان بالبخاري لمجانبته حديث حماد حيث يقول: لم ينصف من عَدَلَ عن الاحتجاج به إلى الاحتجاج بفليح (1)،
ـــــــــــــــــــــــ
(1) هو فليح بن سليمان بن أبي المغيرة الخزاعي (ت 167هـ) قال الآجري: قلت لأبي داود قال: يحيى ابن سعيد عاصم بن عبيد الله وفليح لا يحتج بحديثهم قال صدق.
وقال ابن عدي لفليح أحاديث صالحة يروي عن الشيوخ من أهل المدينة أحاديث مستقيمة وغرائب وقد إعتمده البخاري في صحيحه وروى عنه الكثير.
وقال علي بن المديني: كان فليح وأخوه عبد الحميد ضعيفين.
وقال البرقي عن ابن معين: ضعيف وهم يكتبون حديثه ويشتهونه.
وقال الطبري: ولاَّه المنصور على الصدقات لأنَّه كان أشار عليهم بحبس بني الحسن لمَّا طلب محمد بن عبد الله بن الحسن.
وقال الساجي: وأصعب ما رُمِىَ به ما ذكر عن ابن معين عن أبي كامل قال: كنَّا نتهمه لأنَّه كان يتناول من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله) قال الذهبي: قلت قد أعتمد البخاري فليحا في غير ما حديث، كحديث: هل فيكم احد لم يقارف الليلة. (ابن حجر: تهذيب التهذيب)، (الذَّهبي: ميزان الاعتدال).
«صفحة 115»
وعبد الرحمن بن عبد الله بن دينار» (1).
واعتذر أبو الفضل بن طاهر عن ذلك لما ذكر أنَّ مسلماً خرَّج أحاديث أقوام ترك البخاري حديثهم قال: «وكذلك حماد بن سلمة إمام كبير مدحه الأئمة وأطنبوا لمَّا تكلَّم بعض منتحلي المعرفة أنَّ بعض الكذبة أدخل في حديثه ما ليس منه، لم يخرج عنه البخاري معتمداً عليه بل استشهد به في مواضع ليبين أنَّه ثقة…».
الزنديق مطيع بن إياس:
وممن اتهم بالزندقة مطيع ابن إياس من شعراء الدولة الأموية والعباسية، كان شاعراً طريفاً خليعاً ماجناً، انقطع في دولة بني العباس إلى جعفر بن المنصور، اشترك في أخذ البيعة للمهدي بن المنصور وروى حديثاً للمنصور قال: «يا أمير المؤمنين حدثنا فلان عن فلان أنَّ النبي (صلى الله عليه وآله)
ـــــــــــــــــــــــ
(1) قال السلمي عن الدارقطني: خالف فيه البخاري الناس وليس بمتروك، وقال ابن عدي بعض ما يرويه منكر ولا يتابع عليه وهو في جملة من يكتب حديثه من الضعفاء.
«صفحة 116»
قال: المهدي محمد بن عبد الله وأمَّه من غيرنا. ثمَّ أقبل على العباس، فقال: أنشدك الله هل سمعت هذا ؟ فقال: نعم مخافةً من المنصور، فلمَّا انقضى المجلس، قال العباس: أرأيتم هذا الزنديق إذْ كذب على الله وعلى رسوله ولم يكتف حتَّى استشهدني على كذبه فشهدت له خوفاً… (1).
الزنديق سيف بن عمر التميمي:
وممن أُتّهِم بالزندقة سيف بن عمر التميمي الذي وضع مئات الأحاديث أبرز فيها أفاضل أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله) سخفاء جناة، والمغموصين في دينهم ذوي حجى وورع ودين استطاع أنْ يدخل أساطير خرافية في التاريخ الإسلامي شوَّه بها الحقائق الإسلامية وستأتي ترجمته مفصلةً مع أُنموذج من رواياته في الباب الرابع من هذا الكتاب.
ـــــــــــــــــــــــ
(1) انظر مفصل الحديث عنه في البحث التمهيدي رقم 2 في كتاب خمسون ومأة صحابي مختلق ج 1 للعلامة العسكري.
«صفحة 117»
أثر الروايات الموضوعة
تكوَّنت بفعل الروايات الموضوعة رؤية خاطئة لنبي الإسلام وصحابته وأوصيائه وبخاصة علي والحسن والحسين (عليهم السلام) وشيعتهم، ولا زالت هذه الرؤية تتحرَّك هنا وهناك عفواً بسبب حركة الأخبار الموضوعة، ووصولها إلى من يجهل أمر كذبها ووضعها، أو يعلمه ولكنه يراها أنجح وسيلة يضرب بها خصمه، كما يحاول المستشرقون والمبشرون الاستفادة من ذلك للطعن في الإسلام وتاريخه، أوكما حاول بعض خصوم الشيعة ضرب الشيعة وتطويق حركتهم من خلالها.
قصة الغرانيق الموضوعة ضد النبي (صلى الله عليه وآله)
إن من أبرز الأمثلة على إستفادة بعض
«صفحة 118»
المستشرقين من الروايات الموضوعة هو استفادتهم مما رواه الطبري في تفسيره وابن سعد في طبقاته (1) وغيرهما من:
أنَّ النبي (صلى الله عليه وآله) لمَّا تلا قوله: ﴿أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالعُزَّى، وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى﴾النجم/19-20 ألقى الشيطان كلمتين على لسانه وهما «تلك الغرانيق العلى منها الشفاعة ترتجى».
وأنَّ النبي (صلى الله عليه وآله) سجد، وسجدت قريش معه ورضوا بما تكلَّم به وقالوا: قد عرفنا أنَّ الله يحيي ويميت ويخلق ويرزق ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده وأمَّا إذا جعلت لها نصيباً فنحن معك.
فلمَّا أمسى أتاه جبرئيل فعرض عليه السورة، فلمَّا بلغ الكلمتين اللتين ألقى الشيطان عليه قال: ما جئتك بهاتين، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): أفتريت على الله، وقلت على الله ما لم يقل، فأوحى الله إليه: ﴿وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَك عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْك لِتَفْتَرِىَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاَّتَّخَذُوك خَلِيلاً، وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاك لَقَدْ
ـــــــــــــــــــــــ
(1) ابن جرير الطبري: تفسير الطبري 17/187ـ 190 تفسير الآيات، ابن سعد: الطبقات الكبرى ج 1/205.
«صفحة 119»
كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً، إِذًا لأَذَقْنَاك ضِعْفَ الحَيَاةِ وَضِعْفَ المَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَك عَلَيْنَا نَصِيرًا﴾ الإسراء/73-75. فمازال مغموماً مهموماً حتَّى نزلت ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِك مِن رَّسُولِ وَلاَ نَبِىّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ الله مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ الله آيَاتِهِ وَالله عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾الحج/52.
وتعليقاً على هذه الروايات قال المستشرق الدنماركي ف. بوهل الأستاذ في جامعة (لايبزك): «كان النبي مستعداً لتفهم الكلمات التي كانت تلقى إليه من ايحاءاته اللاشعورية، وكان عليه أنْ يحارب همسات الشيطان كما تشير إليه الآية 200 من سورة الأعراف. والآية 97 من سورة المؤمنون. ولكنه بين حين وآخر يحاول أن يمزج بين الوحي وهذه النداءات الشيطانية الخفيَّة، وإنَّ هذا ملحوظ تماماً في الآية 98 من سورة النحل، ولكي يصون نفسه من هذه النداءات كان يدعو الله ليصونه من ذلك.
لكن تشير الروايات الموثوقة المعتمد عليها أنَّ
«صفحة 120»
النبي سمح لنفسه أنْ تُغوى بواسطة الشيطان لمدح اللات والعزى ومناة إلى حدّ ما، لكنَّه اكتشف زلَّته فيما بعد ثمَّ أوحيت إليه الآية 19 من سورة النجم» (1)..
وقال المستشرق (شاخت): «إنَّ أوّل مصادر الشرع في الإسلام وأكثرها قيمة هو الكتاب، وليس هناك من شك في قطعية ثبوته وتنـزهه عن الخطأ، على الرغم من إمكان سعي الشيطان لتخليطه» (سورة الحج الأية 51: انظر نولدكه ص100).
وقال المستشرق مونت غمري وات: «وإذا قارنَّا مختلف الروايات وحاولنا أنْ نميّز بين الوقائع الخارجية التي تتفق معها والوقائع التي يستخدمها المؤرخ لتفسير الواقع، نلاحظ واقعتين نستطيع أنْ نعتبرهما أكيدتين، أوّلاً رتَّل محمد في وقت من الأوقات الآيات التي أوحى بها الشيطان على أنَّها جزء من القرآن، لأنَّه لا يمكن أنْ تكون القصة قد اخترعها مسلمون
ـــــــــــــــــــــــ
(1) العلامة العسكري: أحاديث أم المؤمنين عائشة ج2/380.
«صفحة 121»
فيما بعد أو دسَّها غير المسلمين. ثمَّ أعلن محمد فيما بعد أنَّ هذه الآيات لا يجب أنْ تعتبر جزءًا من القرآن ويجب استبدالها بآيات تختلف عنها كثيراً في مضمونها. والروايات الأولى لا تحدد الوقت الذي حدث فيه ذلك. والأقرب أنْ يكون ذلك قد وقع بعد بضعة أسابيع أو أشهر.
وهناك واقعة ثالثة أو مجموعة وقائع نستطيع أنْ نكون واثقين منها. وهي أنَّه كان يجب على محمد ومعاصريه المكيين أن يشير في القرآن للآلهة اللات التي كانت معبودة في الطائف والعزى المعبودة في نخلة بالقرب من مكة، ومناة التي كان معبدها بين مكة والمدينة.
ما تعنيه إذن الآيات الإبليسية أنَّ الاحتفالات مقبولة في المعابد الثلاثة حول مكة وأمَّا معنى الآيات التي تقول بأنَّ العبادة في هذه المعابد غير مقبولة فهي لا تحرِّم العبادة في الكعبة.
ويجب أن نعترف بأنَّ الآيات التي صححت سورة النجم تمجد الكعبة على حساب المعابد الأخرى.
«صفحة 122»
اعتبر الفقهاء المسلمون، الذين ظلُّوا بعيدين عن المفهوم الغربي الحديث للنمو التدريجي، محمداً على أنَّه قد أخبر منذ البدء بالمضمون الكامل لعقيدة الإسلام، فكان من الصعب عليهم أن لم ير محمد خروج الآيات الإبليسية على عقيدة الإسلام.
والحقيقة هي أنَّ توحيده كان في الأصل كما كان توحيد معاصريه المثقفين، غامضاً ولم ير بعد أنَّ قبول هذه المخلوقات الإلهية كان يتعارض مع هذا التوحيد، لا شك أنَّه يعتبر اللات والعزى ومناة على أنَّها كائنات سماوية أقلُّ من الله، كما اعترفت اليهودية والمسيحية بوجود الملائكة. ويتحدث القرآن عنها في الفترة المكية باسم الجن. وإنْ كان يتحدَّث عنها في الفترة المدنية على أنَّها مجرد أسماء، إذا كان ذلك فليس من الضروري اكتشاف سبب خاص للآيات الإبليسية، فهي لا تدلُّ على أي تقهقر واع للتوحيد بل هي تعبير عن النظريات التي دافع عنها دائماً محمد.
وهكذا فإنَّ قيمة الآيات السياسية مهمة،
«صفحة 123»
فهل اعترف محمد بصحتها لأنَّه كان يهمه كسب الأنصار في المدينة والطائف وبين القبائل المجاورة ؟
هل كان يحاول التخفيف من تأثير الزعماء القرشيين المعارضين له باكتساب عدد كبير من الأتباع ؟
ذكر هذه المعابد دليل على أنَّ نظرته أخذت في الاتساع».
ثم يقول: «فلا شك أنَّ محمداً قد نال نجاحاً أَمام زعماء قريش ليهتمُّوا بأمره، فظهرت المحاولات لحمله على الاعتراف بصورة أو بأخرى بالعبادة في المعابد المجاورة، وكان في أوّل الأمر مستعداً لذلك لسبب المنافع المادية ولأنَّه كان يشعر أنَّ ذلك يساعده على تحقيق مهمته بسهوله، ثمَّ أدرك شيئاً فشيئاً عن طريق النصح الإلهي أنَّ ذلك كان تسوية مميتة فأعدَّ مشروعاً لتحسين وسائله بالمحافظة على الحقيقة كما كانت تظهر له، فأعلن رفض الشرك بألفاظ شديدة تغلق الباب في وجه
«صفحة 124»
كل تسوية» (1).
قال العلامة العسكري: «أنتجت الروايات السابقة ما قاله الأستاذ روجيه جارودي مرشَّح الحزب الشيوعي – سابقاً – لمنصب رئيس الجمهورية الفرنسية بعد أنْ أسلم في حوار له مع الاستاذ سعد الدين كالآتي:
(قرأت القرآن الكريم، وأعدت قراءته مرّات كثيرة، ولا أدري إنْ كنت قد فهمته جيداً بالطريقة التي يجب على الإنسان أنْ يفهمه بها أم لا، فقد بدا لي أنَّ الرسول (صلى الله عليه وآله) جاء بدين عظيم هو أساس الأديان، لم ينكر فيه الأنبياء السابقين، بل جاءت رسالته متمِّمة ومكمِّلة للرسالات السابقة، ثم شرعت في قراءة الأحاديث النبويَّة، وعندما أُتيح لي السفر إلى المدينة المنورة قمت بشراء واقتناء مجموعة الأحاديث في كتب البخاري ومسلم فرأيت شيئاً آخر أعبِّرُ عنه بهذه العبارة الصريحة رأيتني وكأنَّني أمام دين آخر ونشأ في
ـــــــــــــــــــــــ
(1) مونت غمري وات: محمد في مكة ج1 تعريب شعبان بركات ج1/168 176.
«صفحة 125»
نفسي انطباع من قراءاتي للحديث الشريف أنَّني أمام دين تقليدي. فكلَّ ما وجدته في كتب الأحاديث وكلَّ ما رأيت للرسول (صلى الله عليه وآله) يتحدث عنه أو يشير إلى فعله يتعلق بلبس الثياب أو كيفية الدخول للمكان والخروج منه وأشياء أخرى من هذا القبيل. لا كما رأيت في القرآن الكريم عن الأساسيات التي تدلُّ على كمال الدين الإسلامي» (1).
الامام الحسن (عليه السلام) في كتابات المستشرقين
استفاد المستشرقون من الروايات الكاذبة التي تتحدث عن سيرة الحسن (عليه السلام) ليكوِّنوا رؤية مشوَّهة ونظرة سيئة عن الإمام الحسن (عليه السلام) انتشرت في موسوعاتهم وفيما يلي جملة من هذه الروايات الموضوعة (2)، وبعض كلمات
ـــــــــــــــــــــــ
(1) العلامة العسكري: أحاديث أُم المؤمنين عائشة ج2/381-382 نقلاً عن حوار مع الأستاذ رجاء غارودي. أقول: ونظير كلامه الى حدّ ما كلام الدكتور موريس بوكاي في كتابه (دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة. ط4 دار المعارف 1977ص370-374.
(2) سيأتي بحث هذه الروايات في كتابنا عن سيرة الامام الحسن (عليه السلام).
«صفحة 126»
المستشرقين:
روى ابن سعد في طبقاته: «أنَّ عليّاً مرَّ على قوم قد اجتمعوا على رجل، فقال: من هذا ؟ قالوا: الحسن قال: طحن إبل لم تعوَّد طحناً، إنَّ لكل قوم صُدّاداً وإنَّ صدادنا الحسن» (1).
وروى أيضاً عن المسيَّب بن نجبة قال: «سمعت عليّاً يقول: ألا أُحدِّثكم عنِّي وعن أهل بيتي، أمَّا عبد الله بن جعفر فصاحب لهو، وأمَّا الحسن بن علي فصاحب جفنة وخوان فتى من فتيان قريش، لو قد التقت حلقتا البطان لم يغن في الحرب عنكم شيئاً وأمَّا أنا وحسين فنحن منكم وأنتم منَّا» (2).
وروى أيضاً عن علي (عليه السلام) إنَّه قال: «مازال الحسن يتزوج ويطلق حتَّى خشيت أنْ يكون يورثنا عداوة في القبائل» (3).
ـــــــــــــــــــــــ
(1) ابن سعد: الطبقات الكبرى القسم الناقص ج1 /277-278ورواه أيضاً ابن معين عن ذر عن شعبة عن أبي اسحق عن معدي كرب (ابن معين تاريخ ابن معين ج2/419).
(2) ابن سعد: الطبقات الكبرى القسم الناقص ج1 /297، ابن أبي الحديد في شرح النهج ج16/11.
(3) ابن سعد: الطبقات الكبرى القسم الناقص ج1/301.
«صفحة 127»
وروى أبو الفرج في الأغاني: «إنَّ عليّاً (عليه السلام) أوعز إلى ابنه (الحسن) أنْ يقوم بجلد الوليد، فرفض الحسن وقال له: مالك ولهذا ؟ يكفيك غيرك، فردَّ عليه والده: بل ضعفت ووهنت وعجزت» (1).
وروى ابن عساكر: «أنَّه (عليه السلام) تزوج سبعين امرأة»، وفي رواية أنه أحصن تسعين امرأة (2).
وفي المقدسي في البدء والتاريخ: «أنَّه (عليه السلام) كان أرخى ستره على مائتي حرة» (3).
وروى ابن عساكر أيضاً عن هشام عن محمد بن سيرين قال: «تزوج الحسن بن علي امرأة فبعث إليها بمائة جارية مع كلِّ جارية ألف درهم» (4).
وروى ابن عساكر أيضاً وغيره: «أنَّ الحسين قال للحسن: أعيذك أن تكذب عليا في قبره وتصدق معاوية، فقال: الحسن والله ما اردت
ـــــــــــــــــــــــ
(1) ابن عساكر: تاريخ دمشق ج13/245.
(2) ابن عساكر: تاريخ دمشق ج13 /249، ابن ابي الحديد: شرح نهج البلاغة ج16/22.
(3) المقدسي: البدء والتاريخ ج5/4.
(4) ابن عساكر: تاريخ دمشق ج13/249.
«صفحة 128»
أمراً قط إلا خالفتني إلى غيره» (1).
وفي ضوء هذه الروايات وأمثالها كتب لامنس (2) عن الحسن (عليه السلام) قوله:
ـــــــــــــــــــــــ
(1) ابن عساكر: تاريخ دمشق ج 12 / 267.
(2) قال عبد الرحمن بدوي في موسوعته عن المستشرقين: لامنس: مستشرق بلجيكي، وراهب يسوعي شديد التعصب ضد الإسلام، يفتقر افتقاراً تاماً إلى النـزاهة في البحث والأمانة في نقل النصوص وفهمها ويعد نموذجاً سيئاً جداً للباحثين في الإسلام من بين المستشرقين. ولد في مدينة خنث، (Gent)وبالفرنسية، (Gand) في بلجيكا في أوّل يوليو سنة 1862م. وجاء إلى بيروت في صباه، وتعلم في الكلية اليسوعية ببيروت. وبدأ حياة الرهبنة في سنة 1878م، فامضى المرحلة الأولى في دير لليسوعيين في قرية غزير (في جبل لبنان)، طوال عامين. ثم قضى خمسة أعوام في دراسة الخطابة واللغات. وفي 1886 صار معلماً في الكلية اليسوعية ببيروت. وسافر إلى انجلترة، وإلى لوفان. ووصل إلى فيينا في 1896موعاد إلى بيروت 1897م، حيث عيَّن معلماً للتاريخ والجغرافية في كلية اليسوعيين. ولمَّا أسس (معهد الدروس الشرقية) ضمن كلِّية اليسوعيين في 1907م، صار فيه أستاذاً للتاريخ الإسلامي. ولمَّا توفي لويس شيخو في 1927م، خلفه لامنس على إدارة مجلة المشرق، وهي مجلة فصلية تصدر عن اليسوعيين في بيروت. ولهم مجلة دينية شعبية تبشيرية أخرى تدعى (البشير)، وقد تولَّى لامنس إدارتها مرتين قبل ذلك بزمان طويل: مرة في 1894م، ومرة أخرى من 1900م إلى 1903م. وكان لامنس يكتب في هاتين المجلتين مقالات كثيرة، يكتبها بالفرنسية، ثمَّ يتولَّى غيره ترجمتها إلى العربية، وتنشر باللغة العربية. وتوفي لامنس في 23 أبريل 1937م. وإنتاج لامنس يدور حول موضوعين رئيسيين: (أ) السيرة النبوية (ب) بداية الخلافة الأموية. لكن له إلى جانب ذلك كتب ودراسات حول موضوعات متفرقة في العقيدة الإسلامية، وتاريخ سوريا وآثارها.
«صفحة 129»
«ويلوح أنَّ الصفات الجوهرية التي كان يتصف بها الحسن هي الميل إلى الشهوات والافتقار إلى النشاط والذكاء… وقد أنفق خير سني شبابه في الزواج والطلاق، فأحصي له حوالي المائة زيجة عدّاً، وألصقت به هذه الأخلاق السائبة لقب المطلاق، وأوقعت عليّاً في خصومات عنيفة، وأثبت الحسن كذلك أنَّه مبذر كثير السرف فقد اختصَّ كلاًّ من زوجاته بمسكن ذي خدم وحشم وهكذا نرى كيف كان يبعثر المال أيام خلافة علي التي اشتدَّ عليها الفقر… ولم يكن الحسن على وفاق مع الحسين» (1).
ويظهر أنَّ لامنس لم يكن ضحية تلك الروايات الموضوعة في تشويه صورة الإمام الحسن (عليه السلام) حسب ما لديه بل صار يرفض الحقيقة التي روتها كتب التاريخ حول نهايته بالسم على يد زوجته بعد أن غرَّر بها معاوية، قال لامنس في آخر الترجمة: «وتوفي الحسن في المدينة بذات الرئة ولعل إفراطه في الملذات هو الذي
ـــــــــــــــــــــــ
(1) الموسوعة الاسلامية لجماعة من المستشرقين ج/401 402.
«صفحة 130»
عجَّل منيته، وقد بُذلت محاولة لإلقاء تبعة موته على رأس معاوية، وكان الغرض من هذا الاتهام وصم الأمويين بهذا العار ولم يجرؤ على القول بهذا الاتهام الشنيع جهرة سوى المؤلفين من الشيعة أو أولئك الذين كان هواهم مع العلوية بنوع خاص. وقد أعطى هذا الاتهام في الوقت نفسه فرصة للإيقاع بأسرة الأشعث بن قيس المبغَضَة من الشيعة، لما كان لها من شأن في الانقلاب الذي حدث يوم صفين، وما كان معاوية بالرجل الذي يقترف إثماً لا مبرر له. كما إنَّ الحسن المستهتر كان قد أصبح مسالماً منذ أمد طويل وكانت حياته عبئاً على بيت المال الذي أبهضه مطالبه المتكررة ومن اليسير أن نعلل ارتياح معاوية وتنفَّسه الصعداء عند ما سمع بمرض الحسن» (1).
ـــــــــــــــــــــــ
(1) الموسوعة الاسلامية ج/401 402.
«صفحة 131»
الروايات الموضوعة ضد الشيعة
أ. رواية سيف بن عمر توفي في الفترة (170- 193):
استفاد خصوم الشيعة من الروايات التي وضعها سيف بن عمر في حوادث الثورة على عثمان لضرب عقيدة الشيعة بالوصية، حيث يقول في رواياته: أن عبد الله بن سبأ كان يهودياً من أهل صنعاء من أَمة سوداء، أسلم على زمن عثمان ثم تنقَّل في بلاد المسلمين يحاول إضلالهم، فبدأ بالحجاز، ثمَّ البصرة، ثمَّ الكوفة، ثمَّ الشام، فلم يقدر على ما يريد عند أحد من أهل الشام، فأخرجوه حتَّى أتى مصر فاعتمر فيهم، فقال لهم فيما كان يقول: أنَّه كان ألف نبي ولكلِّ نبي وصي، وكان علي (عليه السلام) وصىَّ محمد (صلى الله عليه وآله)، ثمَّ قال: محمد خاتم النبيين، وعلي خاتم الأوصياء، ثمَّ قال بعد ذلك: من أظلم ممَّن لم يجز وصية رسول الله (صلى الله عليه وآله)ووثب على وصي رسول الله (صلى الله عليه وآله) ثمَّ تناول الأئمة، ثمَّ قال لهم بعد ذلك: إنَّ عثمان قد جمع أموالاً أخذها بغير حقِّها، وهذا وصي رسول
«صفحة 132»
الله، فانهضوا في هذا الأمر فحرِّكوه، وابدؤوا بالطعن على أمرائكم وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فتستميلوا الناس، وادعوا إلى هذا الأمر.
وهذه الرواية ينفرد بها سيف بن عمر، وقد قال أهل الجرح والتعديل إنَّه كذاب وضَّاع (1).
ب. رواية عبد الرحمن بن مالك بن مغول تـ 195:
وكذلك استفادوا من رواية عبد الرحمن بن مالك بن مغول عن أبيه عن الشعبي أنَّه قال: قال لي الشعبي: وأحذِّركم هذه الأهواء المظلة وشرُّها الرافضة لم يدخلوا في الإسلام رغبةً ولا رهبةً ولكن مقتاً لأهل الإسلام وبغياً عليهم قد حرَّقهم علي (عليه السلام) بالنَّار ونفاهم إلى البلدان منهم عبد الله بن سبأ يهودي من صنعاء نفاه إلى ساباط، وعبد الله بن يسار نفاه إلى خازر، وآية ذلك محنة الرافضة محنة اليهود قالت اليهود: لا
ـــــــــــــــــــــــ
(1) سيأتي بحث قيمة روايات سيف في الباب الرابع من هذا الكتاب.
«صفحة 133»
يصلح الملك إلاَّ في آل داود، وقالت الرافضة: لا تصلح الإمامة إلاَّ في ولد علي، وقالت: لا جهاد في سبيل الله حتَّى يخرج المهدي وينادي منادي من السماء… (1)
وهذه الرواية ينفرد بها عبد الرحمن بن مالك بن مغول وهو كذَّاب وضَّاع (2).
ـــــــــــــــــــــــ
(1) ابن تيمية: منهاج السنة ج1/23 – 34 عن أبي جعفر بن شاهين ت385هـ في كتاب اللطيف في السنة وعن أبي عاصم خشيش بن صريم بن الأسود النسائي ت253هـ في كتابه وعن أبي القاسم الطبري في شرح أصول السنَّة كلَّهم عن عبد الرحمن بن مالك بن مغول: وهو كذَّاب، وكذلك رواه ابن عبد ربَّه ت327هـ في العقد الفريد.
(2) عبد الرحمن بن مالك بن مغول قال روى عن أبيه والأعمش قال أحمد والدارقطني: متروك، وقال أبو داود: كذَّاب، وقال مرة: يضع الحديث، وقال النسائي وغيره: ليس بثقة، وقال عمرو الناقد: حدثنا عبد الرحمن بن مالك عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر رضي الله تعالى عنه عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: لا يبغض أبا بكر وعمر مؤمن ولا يحبهما منافق، وقد رواه معلى بن هلال كذاب عن الأعمش ولكن هو كلام صحيح، وعن محمد بن المثنى قال: حدثنا عبد الله بن داود عن عبد الرحمن بن مالك بن مغول عن أبيه قال لي الشعبي: أئتني بزيدي صغير أخرج لك منه رافضياً كبيراً أو ائتني برافضي صغير أخرج لك منه زنديقاً كبيراً هكذا رواه زكريا الساجي عنه ورواه غير الساجي عن ابن المثنى فقال فيه بدل زيدي شيعي وهذا أشبه فإنَّ الزيدية إنَّما وجدوا بعد الشعبي بمدة وقال ابن معين قد رأيته وليس بثقة وقال أبو حاتم متروك الحديث وقال أبو زرعة ليس بقوي وقال أحمد حرقنا حديثه منذ دهر وقال الجورجاني ضعيف الأمر جدًّا وقال الحاكم وأبو سعيد النَّقاش روى عن عبيد الله بن عمرو الأعمش أحاديث موضوعة وقال أبو نعيم روى عن الأعمش المناكير لا شى وذكره الساجي وابن الجارود وابن شاهين في الضعفاء (ابن حجر: لسان الميزان 3/427). وقال الخطيب في تاريخ بغداد 10/235 أخبرنا عبد الله بن عمر الواعظ أخبرنا أبي حدَّثنا محمد بن الحسن حدَّثنا حسين بن إدريس قال: قال محمد بن عمار الموصلي كان عبد الرَّحمن بن مالك بن مغول كذاباً أفاكاً لا يشك فيه أحد، أخبرني محمد بن أبي علي الأصبهاني أخبرنا أبو علي الحسين بن محمد الشافعي بالأهواز أخبرنا أبو عبيد محمد بن علي الآجري قال سألته يعني أبا داود سليمان بن الأشعث عن عبد الرحمن بن مالك بن مغول فقال آية من الآيات كذَّاب وسئل عنه مرة أخرى فقال كان يضع الحديث. وقال ابن حبان في كتاب المجروحين 2/61 عبد الرحمن بن مالك بن مغول البجلي أبو بهز من أهل الكوفة يروي عن عبد الله بن عمر روى عنه العراقيون كان ممَّن يروي عن الثقات المقلوبات وما لا أصل له عن الأثبات.
«صفحة 134»
وإلى هذه الروايتين وأمثالها إستند ابن تيمية (ت728هـ) ومن كان قبله ومن جاء بعده ممن أخذ عنه ليقول إنَّ التشيُّع أصله عبد الله بن سبأ اليهودي الذي أسلم على عهد عثمان.
قال ابن تيمية: «وقد علم أهل العلم أنَّ أوّل ما ظهرت الشيعة الإمامية المدعية للنَّص في أواخر أيام الخلفاء الراشدين وأفترى ذلك عبد الله بن سبأ» (1).
وقال الدكتور سليمان العودة من المعاصرين:
ـــــــــــــــــــــــ
(1) ابن تيمية: منهاج السنَّة ج1/251 وأيضاً ج1/11، 306، ج8/479.
«صفحة 135»
إنَّ عبد الله بن سبأ هو أصل التشيع (1).
أقول: مما لا شك فيه إنَّ المسلمين على عهد الرسول (صلى الله عليه وآله) كانوا فئة واحدة فيهم المؤمن والمنافق ثمَّ حصل التفرق والاختلاف والاقتتال بعده ثمَّ وضعت الأحاديث لتكريس التفرق والاختلاف ولا سبيل لإعادة الوحدة إلى الأمة إلاَّ بفرز الأحاديث الموضوعة وتشخيصها وفق منهج علمي سليم وهو ما ينبغي أنْ يتحرك نحوه علماء الأمة ومتخصصوها ثمَّ يعلنوا عن دراساتهم وبحوثهم لتأخذ مجراها وتؤدي دورها بهدوء وتوؤدة.