اصدر مركز فجر عاشوراء الثقافي الكراس رقم (60) بعنوان «الكوفة كنز الايمان» تاليف: د. الشيخ حسين المياحي.
ليس التاريخ قصصاً وأحداثاً ووقائع مسطورة نقرأها كما نقرأ سائر القصص، للتسلية أو تنمية الخيال أو إثراء اللغة، أو غير ذلك، إنما يشكل حجر الأساس الذي تُبنى عليه الكثير من الرؤى والمواقف والاعتقادات، فهو الماضي اللصيق بالحاضر، والمحرك له بشكل أو بآخر. فلا يكمن بحال من الأحوال قطع الصلة بالماضي بما يمثله من مصدر للعقيدة والشريعة والأخلاق والأدب والسياسة والعلوم وغير ذلك.
فالتاريخ الإسلامي عندنا خضع للكثير من العوامل والمؤثرات التي جعلته معقداً تعقيداً عميقاً، حتى لا تكاد تعثر على الحقيقة إلا بشق الأنفس، بعد بحث طويل، وقد لا تعثر عليها مطلقاً، لكثرة الاختلاف في الروايات التي تنقل الحادثة الواحدة، واختفاء الكثير من حيثياتها الضرورية، كما في ذكر اليوم الذي وقعت فيه، والشهر. أما السنوات فهي أهون من ذلك بدرجة كبيرة.
لقد تصدى لكتابة التاريخ ـ بشكل رئيس ـ مؤرخو السلطات المتعاقبة على الحكم، لا سيما السلطة العباسية، مستعينة بأقلام ورواة لا يخرجون عن الهوى العباسي وما تقتضيه مصالح خلفاء البلاط والأمراء والولاة. كما أنه كان في الكثير من الأحيان وسيلة للارتزاق، أو تصفية للحسابات مع الخصوم في العقيدة أو القومية أو القبيلة أو السياسة أو غيرها من العناوين ذات العلاقة بحُمى الصراعات الدائمة بين الفرق والجماعات والتيارات المختلفة على امتداد الأزمنة.
ومن هنا يصبح من البديهي القول: إن المؤرخ لم يكن محايداً ولا موضوعياً إطلاقاً، ومن يعتقد ذلك فإنه يفتح على نفسه منذ البداية باب التضليل وضياع الحقيقة، ليكون في نهاية المطاف، أسيراً بل ضحية للكثير من الكذب والتحريف والتزييف.
إنّ المؤرخ (الإسلامي) لا يمكن أن يكون محايداً ولا موضوعياً في نقل الأحداث، حتى إن أراد ذلك وأجهد نفسه وحاول، فهو بدوره أسير أيضاً للكثير من العصبيات، أو المخاوف والتهديدات، أو العقائد، أو المصالح، التي تجعل قلمه يحيد يميناً أو شمالاً، بدرجة أو بأخرى، فضلاً عن أن يكون أجيراً بالمطلق لجهة سياسية أو مرتزقاً يعتاش على ما يكتبه لمن يرتجي نواله.
ولا نعني بالمؤرخ هنا المعنى الخاص للتاريخ، إنما يتعدى ذلك لما ورد في كتب الحديث والأدب والتفسير وأمثالها من المجالات التي نقلت الحوادث والوقائع، أي أننا نعني التاريخ بعنوانه العام المعني بنقل الحوادث والوقائع.
لقد كتب التاريخ العام بطريقة الحكايات والأخبار المنقولة شفاهاً، ونادراً ما تجد حوادث شاهدها المؤرخ بنفسه، بل حتى لو شاهدها فإنها لا تتعدى سنيّ عمره، والأمكنة التي استطاع التواجد فيها أثناء حصول الحادثة. ومن هنا ضُبطت تلك الحوادث بما تلقاه الراوي أو المؤرخ شفاهاً من أفواه الرواة، أو كتبوه إليه نقلاً عمّن شاهدها، ليكون النقل حديثاً عن حديث، سماعاً أو كتابة، وكلها لا تمتلك وثيقة مباشرة من ساحة وقوع الحادثة.
فلا تجد في تاريخنا وثائق مادية للحوادث المنقولة، كما في الرقم الطينية والألواح والآثار التي يُعثر عليها في الحفريات، أو المحفوظة في المتاحف، كما أن وسائل الضبط والنقل ـ كالتصوير والتسجيل الصوتي ـ لم تكن موجودة آنذاك.
والنتيجة أننا لا طريق لنا في معرفة ما جرى من أحداث الماضي إلا النقل الشفهي الذي تم تدوينه فيما بعد. والوثيقة الوحيدة التي لا بد أن نتعامل معها هي طبيعة الرواة الذين نقلوا الحوادث، أو كتبوها، وهو ما يعرف بالسند. فهؤلاء هم القناة الوحيدة التي أوصلت إلينا أخبار الماضي تفصيلاً أو إجمالاً.
وعليه: لا بد من تقبّل هذه الحقيقة والتعامل معها في استجلاء الحقيقة، إذ لا يمكننا الاستغناء عن التراث التاريخي مع كل ما فيه ملاحظات، وما عصفت به من عوامل ومؤثرات، لأن التاريخ ـ كما ذكرنا سابقاً ـ يمثل الزاد اليومي لحاضرنا في الكثير من المجالات. فلا يمكن الحكم عليه بالسلب المطلق، بحيث نستغني عنه جملة وتفصيلاً، كما لا يمكن تلقي أخباره بثقة مطلقة جملة وتفصيلاً.
وفي هذا البحث نحاول استكشاف دعوى تاريخية اشتهرت عبر الأزمان، مفادها شيطنة أهل العراق وشيعة الكوفة بالخصوص، ووصفهم بشتى الأوصاف الشنيعة المقذعة، كالشقاق والنفاق والغدر وخذلان الأئمة Ê وقتلهم، ورميهم بكل ما في قاموس القبائح من صفات.
وقد اتبعنا في ذلك منهجاً علمياً، حاولنا فيه قدر المستطاع الحياد والموضوعية، على أن نصل في نهاية المطاف إلى الحقيقة، انطلاقاً من التاريخ نفسه، واعتماد الوسائل والأدوات التي تكشف لنا الحقيقة، أو تجعلنا نقترب منها أكثير.
وقد قسمنا هذا البحث إلى أربعة فصول، لكننا آثرنا نشر الفصلين الأول والثاني منه، نزولاً عند رغبة الكثير من القراء من النخب الدينية والثقافية، الذين قرأوا بعضاً منه فيما ننشره من مقالات مستقلة، أو استمعوا إلى بعض المحاضرات التي ألقيناها متوازية مع البحث.
وهذان الفصلان هما:
الأول ـ صورة العراق في الأحاديث والأخبار الأموية والعباسية.
الثاني ـ صورة العراق في الأحاديث العلوية والواقع التاريخي.
أما الثالث والرابع فتركناهما لحين إتمامهما بالكامل، وهما:
الثالث ـ ما نسب لأئمة أهل البيت Ê من ذم أهل العراق أو أهل الكوفة.
الرابع ـ قراءة جديدة في نهضة الحسين Ç وموقف العراقيين منها.
وقد اعتمدنا منهج الاستقراء، ثم المقارنة والتحليل والنقد، للوصول إلى نتيجة مرضية للقارئ، وقبل ذلك مرضية لله تعالى.