الكتاب: السيد جعفر البدري
نشر هذا المقال في مجلة فجر عاشوراء الثقافي العدد 6 و 7
كتب الأستاذ غالب حسن الشابندر في كتابه (نقد أخبار السيرة النبوية – الجزء الأول / الطبعة الأولى 2017م) فصلا بعنوان: (البشارات اليهودية بميلاد النبي الكريم غرضية عقدية بائسة).
مفاد هذا الفصل هو رفض الروايات التي تتحدث عن حمل اليهود للبشارة بالنبي (ص) في كتبهم وبثهم لها في مجتمع المدينة وغيره في شبه الجزيرة العربية، لأن هذه الروايات – بحسب رأيه – تشير إلى (أن اليهود ذو بصيرة دينية نافذة، وأنهم أهل علم ومعرفة وصنعة وفن، بل أن اليهودي في بعض موحيات هذه الروايات عارف بأسرار التاريخ والمستقبل، الأمر الذي حُرمَ منه الناس الآخرون)[1] فهو يشير بوضوح إلى أن هذه الروايات موضوعة للأهداف التي ذكرها لأنها – أي: الروايات – لم تكتفِ ببيان أن اليهود قد تنبأوا بظهور النبي (ص) بل تجاوزت إطارها العام (وتتحدث عن بعض الخصوصيات المهمة والأساسية لهذه النبوة المرتقبة، حتى وصل الأمر إلى تحديد الصفة والاسم والعائلة)[2]، فأسقط من حيث الإسناد ستة روايات تتحدث عن بشارة اليهود بالنبي (ص)؛ ثلاثة منها عن سيرة ابن إسحاق برواية ابن هشام، وروايتان مما رواه البيهقي، وواحدة عن الإمام أحمد في مسنده، وأهمل الأستاذ الشابندر روايات أخرى من كتب الفريقين بدعوى ان هذه الستة هي أهم الروايات، ومما أهمله رواية يوشع اليهودي، والهيبان أو ابن الهيبان، ومخيريق، وحديث أسعد بن زرارة، وسيف بن ذي يزن، وغيرهم.
اتبع الأستاذ الشابندر في كتابه الناقد لأخبار السيرة النبوية أسلوب المعالجة القرآنية في ثلاثة مواضع؛ تآمر قريش لقتل النبي (ص)، معركة بدر، معركة الخندق، مع وجود ثلاث مشاكل رئيسية – بحسب تعبيره – تتعلق بالإسناد؛ الضعف وهو إما من جهة المصنف تارة كابن اسحاق على رأي بعض الرجاليين أو من جهة بعض الرواة، والإرسال إما من جهة عدم ذكر بعض الرواة في سلسلة الإسناد أو من جهة ابن عباس (رض) لعدم اطمئنان الأستاذ الشابندر لإرسالاته إذ يقول: (تدليس ابن عباس مسألة يجب أن لا نتعامل معها ببراءة)[3]، ثم يسجل ملاحظاته على مضامين جملة من الروايات أو بعض المضامين والعناصر في الأحداث ويكتفي بإسقاط بعضها من حيث الإسناد[4]، وبعد هذا العمل في كل حادثة يشرع بالمعالجة القرآنية لكل من هذه المواضع الثلاثة.[5]
لست في هذا المقام للتعليق على عمل الأستاذ الشابندر في مجمل كتابه نقد أخبار السيرة النبوية، ولا لمناقشة مضمون الروايات الستة التي أوردها، بل لمناقشة دعواه في تركه العمل العلاجي لقضية مهمة وخطيرة كالبشارة بالنبي (ص) عند اليهود وإخبارهم عنها، إذ أنه بعد أن نقد تلكم الروايات الستة من حيث الإسناد والمضمون، مدعيّا أنها الأهم وهي تحتوي في الجملة على ثلاثة مشاكل؛ الإرسال في الإسناد، أو الضعف فيه، أو ارتباكه، وهي بدورها تجعل العملية العلاجية واهنة الإنقاذ! وهو السبب الذي من أجله أهمل الشابندر العلاج القرآني لهذه القضية، فهل حقا سيكون العلاج واهن الإنقاذ؟
العلاج القرآني:
قضية بهذا الحجم وبهذه الأهمية، تطرق إليها القرآن الكريم في بعض آياته الكريمة بشكل صريح وواضح في عدة مواضع، منها:
قال تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ ۚ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَىٰ ذَٰلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾. عمران: ٨١.
وقال: ﴿وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَٰذَا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾. سورة الصف: ٦.
وقال: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ۚ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ ۙ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾.سورة الأعراف: ١٥٧.
وقال: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾.سورة البقرة: ١٤٦.
وقال: ﴿أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾.الشعراء: ١٩٧.
هذه خمس آيات بينات توضح أن الله تعالى أخبر أنبياءه عن النبي الأعظم (ص) وأخذ عليهم العهد بالإيمان به وتبشيرهم الأمم عنه وأمرهم بنصرته، بل إن الله تعالى قد جعل علم علماء بني اسرائيل بخبر النبي (ص) وبمقتضى مدلول الآيات حتى علمهم بصفته وعائلته واسمه الشريف آية لأهل مكة خاصة وغيرهم عامة وحجة عليهم، تلك الآية التي عميت قلوبهم عنها، ويصفها الأستاذ الشابندر بأنها (غرضية عقدية بائسة)! لا أدري هل أنها غرضية عقدية بائسة بالنسبة لليهود؟ ام للمسلمين؟
ولو قيل: إن التوراة قد حُرِّفت، وهذا مما يعني انتفاء حجيتها وقيمتها! فأنى لأهل الكتاب – فضلا عن غيرهم – معرفة تلك التفاصيل؟
إن تحريف التوراة – كما يرى السيد الأستاذ الوالد حفظه الله – قد مر بأربعة مراحل نوردها باختصار:[6]
الأولى: في الفترة بعد وفاة يوشع بن نون حدود (1350 ق.م) إلى ما قبل تولي اشموئيل وطالوت وداود (ع) أمر بني إسرائيل، فانقلب بنو إسرائيل بعد موت يوشع على آل هارون (ع) ثم حرّفوا التوراة وسنة موسى (ع) التي كانوا يتداولونها شفاها، وإلى جنب ذلك فإن هناك نسخة خاصة من التوراة وسنة موسى (ع) التي كتبها هارون (ع) بإملائه يتوارثها الأئمة من آل هارون (ع) حتى وصلت إلى النبي اشموئيل ثم طالوت ثم دواد وسليمان (ع) وفي عهدهما حدود (1010 – 930 ق.م) كان قمة انتشاره وانحسار الرواية المحرفة.
الثانية: في الفترة بعد موت سليمان (ع) إذ انقلب بنو إسرائيل بعد موت سليمان (ع) على وصيّه آصف بن برخيا – وهو من آل هارون (ع) – وانتهت هذه المرحلة بانهيار ملكهم ودماره على يد نبوخذ نصر عام (586 ق.م) وبقوا في الأسر البابلي حتى سقوط الدولة البابلية على يد الإمبراطورية الأخمينية.[7]
الثالثة: وهي مرحلة انقلاب بني إسرائيل بعد رجعة عزير (ع) وموته عام 445 ق.م، إذ أعاد عزير (ع) بعد الرجعة التوراة وتراث آل هارون (ع) إلى ما كان عليه في عهد داود وسليمان (ع)، وبعد موته عاد بنو إسرائيل للانقلاب والانحراف.
إن التحريف في هذه المراحل الثلاث إلى جنب اشتماله على تحريفات في التشريعات فقد شمل تحريف بعض المواضع الدالة على أن خاتم الأنبياء هو من ولد إسماعيل (ع) فجعلوه من ولد إسحاق (ع) وهي المواضع التي تتحدث عن انتصاراته، أما المواضع التي أخبرت أن هناك نبي من ولد إسماعيل (ع) دون أن تصرح بأنه خاتم الأنبياء فقد بقيت على حالها، ﴿فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَٰذَا مِنْ عِندِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا…﴾.[8]
الرابعة: بعد إجلاء اليهود إلى الأردن أي في القرن السابع الميلادي، حرفوا في هذه المرحلة المواضع التي تدل على النبي (ص) وعلى أهل بيته (ع) التي كانت قد بقيت على حالها، حيث أدركوا أن النبي الذي أخبرت عنه التوراة من ولد إسماعيل (ع) من أعلى بيوت ولد إسماعيل منزلة هو نفسه محمد (ص) والمذكور باسمه في سفر التكوين، فهي مرحلة تحريف ما بقي من البشارات بالنبي الإسماعيلي المكي.
إن هذه المرحلة تزامنت مع مرحلة وضع التشكيل في التوراة ووضع حروف العلة في بعض الكلمات فسميت النسخة التي أنتجتها هذه المرحلة بـ(الماسورية) واليوم هي النسخة العبرية القياسية لدى يهود ومسيحيي العالم، فأساليب التحريف في التوراة هي: إما إضافة حروف العلة أو حذف بعض الحروف من الكلمات أو تغيير مواضع الكلمات أو عبر حذف كلمة وإضافة أخرى محلها في أماكن دقيقة من النصوص أو عبر إبدال الحروف خاصة المتشابهة في الرسم أو بإضافة نصوص هي ليست من الكتاب أصلا، ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىٰ خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ…﴾.المائدة: ١٣.
مع ذلك فإن التحريف لا يبرر إهمال البحث العلمي لإثبات دقة ما أشار إليه القرآن الكريم والنبي العظيم (ص) وما أخبرنا عنه الأئمة (ع) كما في الرواية عن أبي جعفر الباقر (ع) في تفسير قوله تعالى ﴿يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ﴾، قال: «يعني النبي (ص) والوصي والقائم».[9]
بناء على ما تقدم فإن مسألة معرفة اليهود بخبر النبي (ص) زمانا واسما وصفة وعائلة ومعرفة تفاصيل أخرى ترتبط بحركته ومستقبل رسالته ليست قضية عقدية بائسة كما يصفها الأستاذ الشابندر ولا من الدسائس، ولو اعترض على بعض المضامين في الروايات الستة التي ناقشها وأسقطها كما فعل في المواضع الأخرى كان أجود من الإسقاط التام.
من جهة أخرى لابد من التنبيه على غفلة الأستاذ الشابندر عن أن التصحيح لا يتوقف على الإسناد فقط، بل يكون تارة للمضمون، فتكون الرواية إما صحيحة بنفسها أو بغيرها، فالروايات التي تتحدث عن معرفة اليهود بخبر النبي (ص) زمانا واسما وصفة وعائلة ونحو ذلك ومدارستهم ومناقشتهم فيما بينهم لهذه القضية وإعلامهم لأهل شبه الجزيرة العربية عامة وأهل المدينة خاصة عنها في أصل العنوان لا يوجد سبب لرفضها، بل يمكن القول بصحتها في الجملة بعد شهادة القرآن الكريم بصدق المضمون مع التحفظ على ما قد تشتمله بعض الروايات في هذا المضمار من معلومات غير دقيقة أو توصيف خاطئ، وإن تلك الروايات – بحسب فهمي المتواضع – لا تشتمل على مزية لليهود بل الصحيح أنها آية وحجة إلهية عليهم، كما أن الأمر آية وحجة إلهية لصدق نبوته (ص) على قريش كما صرح بذلك القرآن الكريم.
ولو قيل بعدم جدوى هكذا بحوث وأنها ممتنعة بسبب التحريف، قلت: هذا قول يخالف ما دعانا إليه القرآن الكريم والأئمة الاطهار (ع) في حوار أهل الكتاب وإلقاء الحجة عليهم بكتبهم، بل اننا نشهد في سيرة النبي (ص) والأئمة(ع) ممارستهم ذلك في حوارهم مع أهل الكتاب، فاتضح للقارئ الكريم متانة العلاج القرآني.
ولكي لا يُترك الكلام مبتورا دون شاهد من التوراة، أذكر بشارتين بالنبي (ص):
أولا: اسمه (ص) في التوراة[10]
قال الربُّ عزّ وجل مخاطبا إبراهيم (ع): ﴿وَأَمَّا إِسْمَاعِيلُ فَقَدْ سَمِعْتُ لَكَ فِيهِ، هَا أَنَا أُبَارِكُهُ وَأُثْمِرُهُ وَأُكَثِّرُهُ كَثِيرًا جِدًّا، اِثْنَيْ عَشَرَ رَئِيسًا يَلِدُ، وَأَجْعَلُهُ أُمَّةً كَبِيرَةً﴾[11]، وترجمة الحاخام سعاديا: (وفي اسماعيل قد سمعتك ها أنا قد باركته لأثمره وأكثره جدا جدا واثني عشر شريفا يُولِد وأجعل منه أمة عظيمة)، وبالعبرية: (וּלְיִשְׁמָעֵאל שְׁמַעְתִּיךָ הִנֵּה בֵּרַכְתִּי אֹתוֹ וְהִפְרֵיתִי אֹתוֹ וְהִרְבֵּיתִי אֹתוֹ בִּמְאֹד מְאֹד שְׁנֵים-עָשָׂר נְשִׂיאִם יוֹלִיד, וּנְתַתִּיו לְגוֹי גָּדוֹל).
أجمع علماء المسلمين ومن أسلم من علماء أهل الكتاب أن هذا النص من سفر التكوين يشير صراحة إلى النبي (ص) إذ ذكر فيه اسمه الشريف (ص) وموضعه (במאד מאד) حيث حُرِّف إلى جملة تُكافئ قيمتها العددية التي هي (92) القيمة العددية لاسم النبي محمد (ص) هذا من جهة.
الحرف | قيمته | الحرف | قيمته | الحرف | قيمته |
ב | 2 | מ | 40 | מ | 40 |
מ | 40 | א | 1 | ח | 8 |
א | 1 | ד | 4 | מ | 40 |
ד | 4 | ד | 4 |
أما من حيث الدلالة فإن (جدا جدا) واضحة الزيادة وذلك لأن كلمات (باركته) (أثمره) (أكثره) التي سبقتها في النص قد أدت الغرض الدلالي والبلاغي المطلوب في بيان كثرة البركة الإلهية على اسماعيل (ع).
من المتسالم عليه أن التوراة كانت مكتوبة بحروف عبرية ليس فيها تشكيل عبر التنقيط[12] ولا أحرف العلة التي من شأنها توضيح النطق، فإذا حذفنا التشكيل وحروف العلة التي وضعت بعد إجلاء النبي (ص) اليهودَ إلى الأردن ستكون الكلمة (מד מד – مد مد) ورسم حرف الحاء في اللغة العبرية هو (ח)، لاحظ أيها القارئ الكريم التقارب بين رسم الحرفين (ח – ح، ד – د) فتكون أصل الكلمة
(מ ח מ ד – م ح م د)، فتأمل معي دقة عملية التحريف!
الكلمة قبل التحريف | الكلمة بعد التحريف |
מחמד | בִּמְאֹד מְאֹד |
محمد | جدا جدا |
إن هذا النص هو السبب الذي جعل الكثير من علماء أهل الكتاب الذين تشرفوا بالإسلام يختارون مذهب الإمامية الانثي عشرية على غيره من المذاهب الإسلامية بشهادة ابن تيمية نقلا عن ابن كثيرا[13] لأن النص مبني على رؤية مفادها: أن النبي الإسماعيلي – المكي – سيكون له اثني عشر وصيا، وإن كلمة (נשׂיאם – نسيئم) الواردة في نص البشارة جمع والمفرد (נשׂיא – ناسي)[14]: تطلق على المعلمين أو القادة أو الزعماء الدينيين الإلهيين، فهي تقابل معنى الإمام بحسب مفهوم الإمامية.
وبهذا يمكننا أن نخلُص إلى أن أصل الفقرة كان: (وفي إسماعيل قد سمعتك ها أنا قد باركته لأثمره وأكثره بمحمد واثني عشر رئيسا [زعيما][معلما][إلهيا] يُولِد وأجعل منه أمة عظيمة).
ثانيا: زمن بعثته (ص) في التوراة[15]
قال جبرئيل (ع) لدانيال (ع): «سَبْعُونَ أُسْبُوعًا قُضِيَتْ عَلَى شَعْبِكَ وَعَلَى مَدِينَتِكَ الْمُقَدَّسَةِ لِتَكْمِيلِ الْمَعْصِيَةِ وَتَتْمِيمِ الْخَطَايَا، وَلِكَفَّارَةِ الإِثْمِ، وَلِيُؤْتَى بِالْبِرِّ الأَبَدِيِّ، وَلِخَتْمِ الرُّؤْيَا وَالنُّبُوَّةِ، وَلِمَسْحِ قُدُّوسِ الْقُدُّوسِينَ»[16]، وبالعبرية: «שָׁבֻעִים שִׁבְעִים נֶחְתַּךְ עַל עַמְּךָ וְעַל עִיר קָדְשֶׁךָ, לְכַלֵּא הַפֶּשַׁע וּלְחָתֵם חַטָּאות וּלְכַפֵּר עָוֹן וּלְהָבִיא צֶדֶק עֹלָמִים וְלַחְתֹּם חָזוֹן וְנָבִיא וְלִמְשֹׁחַ קֹדֶשׁ קָדָשִׁים».[17]
إنها من أشهر نبوءات التوراة تعرف بـ(نبوءة السبعين أسبوع)، كانت محط اهتمام علماء اليهود والمسيحية عبر الزمن ولا تزال كذلك، فلها خمسة عناصر: (الزمن – سبعون أسبوعا) و (الخلاص من الخطيئة والتكفير عن الإثم المترتب عليها) و(الاتيان بالبر الأبدي) و (ختم الرؤيا والنبوة) و (مسح – أي: تعيين – قدوس القدوسين)، فالنبوءة بوضوح تتكلم عن خاتم الأنبياء الذي سيأتي بالبر الأبدي ومن صدقه والتزم به سيتخلص من المعصية والخطيئة وبه تُكَفّر الذنوب ويتزامن الأمر باختيار قدوس القدوسين وحددت سنة ظهوره وهي: (سبعون أسبوعا).
يبدأ حساب الزمن – بحسب النبوءة – لظهور الذي ستُختم به الرؤيا والنبوة من سنة ظهور رجسة الخراب التي ستظهر نتيجة لدمار هائل يحصل في مدينة القدس ودمار الهيكل على يد جيش إمبراطور يقصد المدينة، وحينما نتفحص التاريخ نجد أن الإمبراطور الروماني هادريان قام بهجوم عنيف على مدينة القدس فقمع الثورة اليهودية التي قادها باركوخبا أو باركوزبا، فقتل الجيش الروماني الكثير من اليهود ودمر المدينة ومعالمها ودمر الهيكل نهائيا ونصب معبد جوبيتر وصنمه على انقاض بيت المقدس وأقام طقوس عبادته وذلك في سنة 135م[18] وهذه رجسة الخراب.
أجمع علماء أهل الكتاب – اليهود والمسيحيون – على أن الأسبوع في النبوءات عبارة عن سبع سنوات، فـ(70 × 7 = 490) سنة وبالطبع فإنها سنين قمرية، والتأريخ الميلادي تأريخ شمسي فعند تحويل (490) قمرية إلى شمسية ستكون (475)، فالنبوءة حددت السنة 475 شمسية (490 قمرية) من ظهور رجسة الخراب موعدا لتحققها وظهور النبي الذي ستُختم به النبوة وسيُؤتى من خلاله بالبر الأبدي وسيتم اختيار قدوس القدوسين، فـ(135 + 475 = 610م) وهي السنة التي بُعث فيها رسول الله (ص) خاتم النبيين ومعه القرآن الكريم واختار الله تعالى عليا (ع) سيد الوصيين.
قال أمير المؤمنين (ع): (وقد علمتم موضعي من رسول الله (ص) بالقرابة القريبة والمنزلة الخصيصة وضعني في حجره وأنا ولد يضمني إلى صدره ويكنفني في فراشه ويمسني جسده ويشمني عَرفه وكان يمضغ الشيء ثم يلقمنيه وما وجد لي كذبة في قول ولا خطلة في فعل ولقد كنت أتبعه اتباع الفصيل أثر أمه يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علما ويأمرني بالاقتداء به ولقد كان يجاور كل سنة بحراء فأراه ولا يراه غيري ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله (ص) وخديجة وأنا ثالثهما أرى نور الوحي والرسالة وأشم ريح النبوة، ولقد سمعت رنة الشيطان حين نزل الوحي عليه (ص) فقلت: يا رسول الله ما هذه الرنة؟ فقال: هذا الشيطان قد أيس من عبادته إنك تسمع ما أسمع وترى ما أرى إلا أنك لست بنبي ولكنك لوزير وإنك لعلى خير).[19]
إنها نبوءة دقيقة وعظيمة والعظمة لله تعالى، ﴿أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ الشعراء: ١٩٧، لعلها هي التي كان يتدارسها علماء أهل الكتاب وكانوا يترقبون بعثته ويخبرون سكان شبه الجزيرة العربية باقتراب زمن بعثته (ص) بالاستناد إليها ولا عجب في ذلك فهم عارفون بكتابهم، إنها حجة عليهم أكثر مما هي ميزة لهم ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ۚ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ ۙ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ الأعراف: ١٥٧. تأمل أيها القارئ الكريم في مضامين الآية الكريمة وانسجامها مع مضامين النبوءة موضوعة البحث في سفر دانيال.
وأحيل القارئ الكريم – للاستفادة أكثر – إلى مراجعة ما كتبه سيدنا الأستاذ الوالد حفظه الله – وما مر من إفاداته – في نشرة البشارات المنشورة على موقعه في الإنترنت وما كتبه في كتابه السيرة النبوية وما كتبه في مقال التوراة قراءة إسلامية المنشور على موقعه أيضا وما أوضخه في مخطط ميثاق النبيين.
[1] الشابندر، نقد أخبار السيرة النبوية: 12.
[2] نفسه.
[3] نفسه: 427.
[4] للاطلاع على مناقشاته للمواضيع الثلاثة في كتابه نقد أخبار السيرة النبوية، انظر: الفصل التاسع، الفصل العشرون، الفصل الرابع والثلاثون.
[5] للاطلاع على المعالجة القرآنية للمواضيع الثلاثة في كتابه نقد أخبار السيرة النبوية، انظر الصفحات: 168، 448، 755.
[6] انظر: البدري، التوراة قراءة إسلامية، مجلة الفكرة الإسلامي (1999م): 21 / 175 – 178.
[7] قال السيد الوالد: (كان من أهم معالم هذه المرحلة هي وجود قِبْلَتَين في بني إسرائيل وذلك لان الأسباط العشرة لما اقتطعوا الجزء الشمالي من المملكة بعد سليمان (ع) واحتفظ سبط يهوذا وبنيامين بالجزء الجنوبي منها وكان بيت المقدس في هذا الجزء، خاف حكام الجزء الشمالي من اختلاط الناس بعضهم مع بعض في موسم الحج في بيت المقدس بإمارة سبط يهوذا والعلماء الهارونيين غير المعصومين الذين ساندوهم، وبسبب ذلك بنوا بيتا وجعلوه قبلة في الجزء الشمالي وأمروا الناس بالحج إليه (انظر قاموس الكتاب المقدس لفظة «يربعام بن ناباط» ولفظة «السامريون» ولفظة «جرزيم»)، وقد ترتب على ذلك إضافة نصوص الى التوراة تجعل من هذه القبلة مقدسة كقدسية بيت المقدس في أورشليم ولا زالت التوراة السامرية تحتفظ بجزء من هذه النصوص، وقد ترتب على هذا الانشقاق أيضا انقطاع الناس في المملكة الشمالية عن سنة موسى (ع) التي حملها الأئمة المعصومون من آل هارون(ع))، انظر: البدري، التوراة قراءة إسلامية، مجلة الفكرة الإسلامي (1999م): 21 / 176 – 177.
ــــــــــــــــــــــــــــ
[8] سورة البقرة: 79.
[9] الكليني، الكافي: 1 / 429.
[10] انظر: البدري، السيرة النبوية: 81.
[11] سفر التكوين 17: 20.
[12] انظر: البدري، البشارات، الكراسة الأولى: 25.
[13] انظر: ابن كثير، البداية والنهاية: 6 / 280.
[14] انظر مادة (נשיא): قوجمان، قاموس عبري عربي، و Alcalay, The Complete Hebrew-English Dictionary, New Enlarged Edition 1990, P. 1699.
[15] محاضرة ألقاها سيدنا الأستاذ الوالد في عدة مناسبات، منها: الامسية العلمية في المكتبة الأدبية المختصة، النجف الأشرف، رمضان 1438هـ، كذلك يراجع لوحة ميثاق النبيين من بحثه وتحقيقه وتنظيمه، انتاج قسم الاعلام في مؤسسة تراث النجف الحضاري والديني.
[16] سفر دانيال 9: 24، وترجمة كتاب الحياة: (قَدْ صَدَرَ الْقَضَاءُ أَنْ يَمْضِيَ سَبْعُونَ أُسْبُوعاً عَلَى شَعْبِكَ وَعَلَى مَدِينَةِ قُدْسِكَ، لِلانْتِهَاءِ مِنَ الْمَعْصِيَةِ وَالْقَضَاءِ عَلَى الْخَطِيئَةِ، وَلِلتَّكْفِيرِ عَنِ الإِثْمِ، وَلإِشَاعَةِ الْبِرِّ الأَبَدِيِّ وَخَتْمِ الرُّؤْيَا وَالنُّبُوءَةِ وَلِمَسْحِ قُدُّوسِ الْقُدُّوسِينَ).
[17] يرى سيدنا الأستاذ الوالد بأن (ולחתם חזון ונביא – ﭬِـلَحْتوم حَزون ﭬِـنَاﭬـي) التي تعني: ولختم الرؤيا والنبوة، الصواب فيها (ולחתם חזון ונביאים – ﭬِـلَحْتوم حزون ﭬِـنَاﭬِـييم) أي: ولختم النبوة والنبيين .
[18] انظر: Thomson Gale, Encyclopedia Judaica: Vol 3, Bar Kokhba, و Vol 8, Hardian، وموسوعة دائرة المعلومات البريطانية: ترجمة هادريان، وثورة باركوخبا، وعلى شبكة الانترنت: Jewish Virtual Library, Ancient Jewish History: The Bar-Kokhba Revolt، ويكيبيديا الموسوعة الحرة: Bar Kokhba revolt.
[19] نهج البلاغة: الخطبة 192.