المرجعية الدينية الرشيدة في النجف الاشرف مدار الحجة وسطوع البرهان

الكاتب: د. ابو عباس النجفي

نشر هذا المقال في مجلة فجر عاشوراء العدد 4 و 5

أ. المقدمة:

لا أحسب أن أمة من الناس قد عاشت على هذه الأرض من دون أن تعتنق دينا تدين به للخالق جل وعلا ومن خلال جملة من المعتقدات التي تكوّن بمجموعها ذلك الدين، وبغض النظر عن مدى الاستقامة أو الانحراف الذي قد تنطوي عليه تلك المعتقدات. إن جميع الأديان والشرائع السماوية وعلى مدى التاريخ الإنساني، كان لها حَمَلة وأمناء يبلغونها إلى الناس ويوضحون لهم منظومة العقائد والقيم والأخلاق التي جاء بها ذلك الدين أو الشريعة. إن أهم ما يميز حملة الدين أنهم يجسدون وبشكل كامل، منظومة الدين الذي يدعون إليه ويجسدون كل تعاليمه بطريقة تجعل منهم أنموذج عملي يٌحتذى به، ومثالا تطبيقيا كاملا يترجم كل معاني الدين إذ لا يمكن أن نتصور أن هناك دين أو شريعة بدون حملة أو مبلغين، سواء كانوا من قمة هرم القيادة وهم الأنبياء والرسل وأوصيائهم وحواريهم أو كانوا من قاعدة هرم القيادة وهم الكهنة أو الرهبان أو العلماء المجتهدين الذين يضطلعون بدور الهداية بالعلم والعمل ويغدون بذلك دينا يمشي على الأرض وأجسادا تتحرك بوحي العقيدة وعلى مدار الزمن.

إذن فالدين ببساطة هو تلك الثنائية المترابطة والمتلازمة من تشريع مكتوب وحامل لذلك التشريح تتمثل فيه روح النص. وبهذه الثنائية يعيش الدين حيا في نفوس أتباعه، وإلا فأنه يصبح مومياء خال من الروح لا يحمل من صفات الجسد إلا الملامح الظاهرية.

وبنظرة فاحصة دقيقة للديانات والشرائع والمذاهب التي تدين بها جموع الناس في هذه المعمورة، وعلى ضوء هذا المقياس يمكن أن نميّز الشرعة الحية التي يتسق فيها النص مع التطبيق، من غيرها من الشرائع المحنطة التي عجزت عن تقديم أنموذجها الحي!.

ب‌. الإسلام في الدائرة الشيعية:

قدم الإسلام وطبقا للرؤية الشيعية (الإمامية الإثني عشرية) منهجا واضحا وجليا في إدارة الدين لمسيرة الخلق في هذا العالم، هذا المنهج الذي شرّع له وحدد معالمه كلا من النص الديني المقدس وحامل النص المعصوم، وذلك ابتداء من أعلى قمة في هرم القيادة وهو الرسول الأعظم صلى الله عليه واله مرورا بأوصيائه من الأول وحتى آخرهم صلوات الله تعالى عليهم أجمعين، حيث المسار الذي اتسقت فيه النظرية بالتطبيق والممارسة بالنص الشرعي، وحيث الشرعة المنسجمة من الفطرة السليمة والخالية من العقد والمآزق والتناقضات والمفارقات وعلى مدى الزمن وليومنا هذا، فلا يجد المتتبع الفطن والباحث المنصف وصاحب الفطرة السليمة، لا يجد في هذا النهج أي نوع من التناقض أو التهافت الذي يمكن أن يُسجّل على مسيرة هذا الخط، لا بين النص الشرعي وسلوك راعي النص، ولا بين رعاة النص أنفسهم، مما يقدم ظاهرة وحيدة في مضمونها وفريدة من نوعها، ميزت الإسلام في دائرته الشيعية الإمامية الإثنى عشرية التي اتخذت من القران دستورا محفوظا ومن المعصوم راعيا وأمينا ومترجما ومطبقا ومفسرا لهذا الدستور وقائدا للمسيرة (الكتاب والعترة)، ميّزته عن بقية المذاهب الإسلامية الأخرى من جهة وعن وبقية الديانات والشرائع في العالم من جهة أخرى. إن المتابع الحصيف لمسيرة هذا الخط سيجد أن الصورة المثالية الكاملة التي رسمها النص المقدس عن الإنسان الكامل وطبيعته وخواصه لا يمكن أن نجدها مجسدة تجسيدا تاما شاملا، إلا في شخص الراعي والأمين على هذا النص وهو قائد هذا الخط دون غيره من الناس، وهذا ما لا نجده في أي ديانة أو شرعة منذ أن بزغ فجر الإسلام على هذه الأرض وإلى يومنا هذا.

إن من أعظم التحديات التي طرأت خلال مسيرة هذا الخط وهو عندما اقتضت الحكمة الإلهية أن تحجب شخص القائد والراعي والأمين على النص المقدس، عن الأنظار من دون أن تغيب إدارته وتدبيره للمسيرة، ولقد تم الإعداد لهذه المرحلة الحرجة ولهذا التحدي الكبير في فترات زمنية سبقت غياب القائد، حيث كان التوجيه بإتباع العلماء العاملين المجتهدين في تحصيل العلم والمنضبطين بحدود النص المقدس، ليشكّلوا بذلك امتدادا لذلك القائد ولو بدرجات كبيرة دون العصمة، ليكونوا بمثابة قبسا من نور العصمة الوهاج، ولكي يقودوا المسيرة بتسديد ورعاية من صاحب المقام الأول. ومرة أخرى قدم هذا الخط للعالم أجمع، أنموذجا للدين الحي عندما اتسقت شخصية القائد وممارساته مع النص الشرعي، ليقدم لأتباع هذا الخط ولغيرهم نماذج مشرّفة غير خافية على كل مراقب منصف، بينما انزلقت المذاهب والديانات والشرائع الأخرى إلى متاهات ومآزق كبرى على مستوى النص والتطبيق وخلّفت لنا إرثا ملطخا بالدماء ويعج بالظلم والجور والخروقات والكبوات والفضاعات والفضائح والجرائم المروعة.

ج. ملامح القيادة في المرجعية:

لعل من أبرز الملامح العامة والأساسية التي اتسمت بها المرجعية بصفتها قائد المسيرة وعلى مدى قرون من تولي رجالاتها لهذا التكليف الشرعي، وعلى سبيل الإجمال لا التفصيل والحصر، هي:-

– قبس من نور الراعي الأول: وهو أمر بديهي يفرضه منطق العقل والدين والمعتقد، إذ لا يمكن أن نتصور أن مستوى من مستويات النيابة العامة تعضدها حالة من حالات التسديد والرعاية يمكن أن تتحقق في شخص المرجع من دون أن تحمل شخصية ذلك المرجع قبسات من هدي وسمة وخُلق الراعي والقائد الأصيل صاحب المقام الأول، وهو ما يعزز حقيقة انتماء المرجعية إلى خط الوصاية التي أوصى بها رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله. وهنا يمكن أن نحصل على عدة ثمرات من خلال هذه الميزة الرفيعة الثمرة الأولى هي أن الأطروحة الإمامية الإثني عشرية هي أطروحة عملية واقعية استطاعت عبر قرون طويلة أن تؤدي رسالة الدين الحنيف وأن تحمل كل وصاياه وتعاليمه ومعتقداته وهديه بالشكل الذي تجعل منه دينا نابضا بالحياة يتحقق فيه التناسق بين النص وحامل النص. الثمرة الثانية هو قدرة هذا الخط على اجتياز كل العقبات والمخاطر وحرب الإبادة والتشويه والإقصاء عن الحياة العامة والعزلة و وضغط الظلم والجور وشدة الفتن التي واجهته وابتداء من وفاة صاحب الرسالة صلى الله عليه وآله وإلى يومنا هذا، فكان على رأس هذا الخط إما إمام معصوم حاضر أو نائب عام لإمام معصوم غائب، يقوم مقامه ويبلغ الدين عنه من خلال العلم والرواية والتحقيق والاجتهاد. الثمرة الثالثة وهي حالة الانسجام والتناسق التام الذي ميزّت قيادات هذا الخط و وحدة النسق العقائدي التي اتسمت به، فلا تناقض ولا تشتت ولا تعارض في المباني الاعتقادية والاستدلالية بل كانت وما تزال قلعة محصنة بالدليل الساطع والبرهان الرصين.

– تعاضد السيرة والمسيرة: إذا ما أردنا أن نعرّف هذه الميزّة الرفيعة، فإننا يمكن أن نقول أنه وعلى مدى اتساع ساحات الأديان وتعدد ميادينها على مستوى التاريخ والجغرافيا فإننا لم نشهد حالة تعززت فيها عرى الترابط بين سيرة القائد الشخصية وبين طبيعة المهمة التي ينهض بها، كما نشهده في قيادة المرجعية الممثلة لخط الإسلام بمداره الشيعي الإمامي الإثني عشري. فمن خلال نظرة محايدة ومنصفة للصفات والملكات التي تتمتع بها شخصية المرجع القائد، يمكن أن تتضح لنا هذه الميزّة العظيمة، فعلى خطى الرعاة الأوائل، تبلورت شخصية المرجع واستجمعت كل الملكات التي تؤهله للاضطلاع بهذا الدور الخطير، فطهارة المولد وطيبة النشأة وحسن السيرة مزينة بالورع وطاعة الله تعالى ومخالفة الهوى والعدالة والجد في التحصيل والاجتهاد ممزوجة بالزهد والعفة والصبر والتواضع لله تعالى والعفو عن المسيء مرصعة بالحكمة والشجاعة والثبات والأمانة وسداد الرأي وطول الصمت، كل ذلك وأكثر من معالي الصفات وطيّب السمات نراها قد رسمت معالم الطريق وبينت طبيعة المنهج وأفصحت عن عظيم الترابط و وثاقة التلاحم بين شخص المرجع  ومنهجه المبني على رفعة الدين و دعوة الناس للتمسك به.

– سمو الغاية وصلاح الوسيلة: وفي هذه الميزّة يتجلّى عمق التواصل بين شخصية المرجع القائد وروح الدين وقيمه وسمو أهدافه ونقاء أدواته، كما وتظهر واضحة للعيان قوة الإرادة والثقة بالله تعالى وحسن الظن به والتصديق بوعده، وذلك من خلال التوجه إلى الغايات السامية الرفيعة  عبر التوسل بالوسائل الأخلاقية والشرعية التي رسمها لنا الشرع المقدس والسيرة المباركة لأصحاب المقام الأول، فلا يشوب التقدم إلى الأهداف الرفيعة، كل ما يثلم عقائد الدين والإيمان بها والانحراف عن خطه المستقيم، بل لا مكان حتى للشبهات والعثرات والهفوات، فكم من الفرص السانحة والمراتب المتاحة والانتصارات الساحقة والفتوحات الكبيرة حال دون الوصول إليها، الورع عن محارم الله وشدة الاحتياط والوقوف عند الشبهات ودقة التحري لصريح الحق، وهذا هو الابتلاء الأكبر والامتحان الأصعب والجهاد الأعظم لهوى النفس ونزعاتها وغرائزها، فالنجاح في هذا الاختبار لا يكون إلا لمن نال المراتب العالية في رياضة النفس وجهادها، وهو ما وسم قيادة المرجعية الصالحة على مدى الزمن دون غيرها من القيادات الدينية لدى الأديان والشرائع في كل زمان ومكان.

د. شواهد من أدوار المرجعية في العراق:

في عالم اليوم وفي العراق تحديدا ومن عاصمة التشيع النجف الأشرف على وجه الخصوص، تقف المرجعية القائدة بكل وعي وحزم وحكمة أسوة بأسلافها وعلى خطى منهجهم القويم، تقف لتجابه أمواج التحديات والمخاطر والأزمات المحدقة بالإنسان والأرض والمقدسات، وقد كانت لها عدة أدوار تتماشى وطبيعة المرحلة والظرف، ولكن مع دخول العراق مرحلة الانعتاق من سطوة الدكتاتورية التي اندحرت يوم أن قرر الشعب العراقي الصابر والممتحن، أن يقف جانبا ويتركها تواجه مصيرها المحتوم على يد القوات الأجنبية التي دخلت العراق، عند تلك المرحلة الحساسة والخطيرة برز دور جديد للمرجعية القائدة بطريقة تتناسب ودقة الموقف وتطور الأحداث حيث سٌجل لها من الأدوار العظيمة والمواقف الكبيرة المشرّفة التي حفظت بها العراق وشعبه وبكل مكوناته وأطيافه، من تآمر أهل الداخل وأهل الخارج، ضاربةً بذلك أروع الأمثلة للقيادة الحكيمة المتزنة التي لا يغلب غضبها حلمها ولا يقعد بها حلمها عن الغضب لله وللدين الحق والوطن، كما قدمت أجلى المواقف التي تمثلت فيها بأخلاق أصحاب المقام الأول وبهدي سيرتهم النيّرة.

إن مقطعا من الزمن تقف فيه المرجعية بكل ملكاتها مع جموع الشعب الموالية والشجاعة، لتقود فيه معارك العراق كافة وعلى أكثر من صعيد وأكثر من جبهة وضد أكثر من عدو، لابد من التوقف عنده واستجلاء الدروس والعبر منه وذلك من أجل الوعي بطبيعة المرحلة وأهميتها في تحديد حاضر ومستقبل العراق والمنطقة أجمع. وبوقفة فاحصة دقيقة يمكن تتبع طبيعة الأدوار التي اضطلعت بها المرجعية خلال عملية صنع العراق الجديد، عراق يحمل إرثه العظيم ويعي دوره الكبير، ولعل من أبرز هذه الأدوار هي: بناء الدولة الرشيدة، لكي يتسنى فهم حقيقة هذا الدور الكبير لابد من فهم واستيعاب مصطلح (الأبوة الصالحة) بكل ما يحمل هذا المصطلح من معنى وعمق، فكما أن الأب الصالح يربي أبنائه على أسس من التربية الأخلاقية العالية التي تجعل منهم أبناء صالحين يتحملون مسؤولية الواجبات الملقاة على عاتقهم أمام الأسرة والمجتمع من دون أي تدخل للأب في خيارات الأبناء، كذلك هي المرجعية، حيث وقفت ومنذ الساعات الأولى التي أعقبت انهيار النظام الدكتاتوري في العراق، وقفت لتعلن منهجها ورؤيتها للعراق الجديد وطبيعة بناء نظام الحكم وإنشاء الدولة، وكانت رؤيتها تتلخص في ضرورة بناء دولة تحترم وتحتضن كل مكونات الشعب وفق معيار العدالة، وقد أطلقت عليها مصطلح الدولة الرشيدة والتي يعتمد في بناءها على عدة مرتكزات أهما إعداد دستور تشارك جميع المكونات في كتابته ويحظى بالقبول من أغلبية الشعب ومن ثم اعتماد نظام انتخابي عادل يتم عبره انتخاب مجلس النواب والذي بدوره يقوم بتشكيل الحكومة التي تكون مسئولة عن حفظ الوطن وخدمة الشعب وفق منهج العدل والمساواة بين جميع المواطنين واعتماد مبدأ الفصل بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية لتكون الشرعية في نهاية المطاف بيد الشعب، والشعب وحده هو مصدر الشرعية، وهنا ترتكز النقطة الجوهرية في رؤية المرجعية، وهذا ما يفسر وقوفها بصلابة وحزم من أجل إقرار هذه المبادئ في بناء الدولة وذلك بعدما حاولت أطراف داخلية وخارجية الالتفاف على إرادة الشعب وتشكيل دولة وفق مبدأ الدكتاتورية المبطنة التي تديرها مجموعة محدودة من الكيانات من دون أن تكون هناك إرادة شعبية في اختيارهم أو محاسبتهم أو استبدالهم.

لقد وعت المرجعية وعيا تاما لتاريخ هذا الوطن وتاريخ شعبه الصبور، واطلعت على الحقب الزمنية والأدوار السياسية التي مرت عليه حيث كانت القوى الخارجية وبالتعاون مع فئات داخلية محدودة تمسك بزمام الأمور وتعمل على احتكار الإرادة الوطنية وتشكيل سلسلة من الحكومات والأنظمة الموالية لها عبر الانقلابات والمؤامرات والصفقات التي لم يكن للشعب فيها أي رأي أو قرار أو مصلحة وإنما كانت كلها بالضد من مصالح الوطن وخيارات الشعب. لذلك ومن خلال هذا الفهم لتاريخ الوطن وتاريخ الأنظمة المتوالية عليه فقد قررت المرجعية إرساء معادلة جديدة لبناء نظام الحكم في العراق تغاير المعادلات الجائرة السابقة، ليكون الشعب هو مفتاح هذه المعادلة الجديدة التي بتطبيقها يتمكن العراق من أن يطوي مرحلة مظلمة دامت قرابة القرن من الانقلابات العسكرية والمؤامرات والجور والظلم ومصادرة الإرادة الوطنية وانتهاك السيادة وتبديد الثروات والمقدرات، وبهذه الإستراتيجية قررت المرجعية المضي قدما في بناء هذا النظام الجديد ولكن التحدي الأكبر كان يتمثل بوعي الشعب وإدراك أهمية الدور المناط به في بناء الوطن وتقرير مصيره لأن النظام الجديد لا يمكن أن يبنى بدون شعب واع معبأ بثقافة وطنية عالية تشعره بمسؤوليته الخطيرة والمباشرة في انتخاب وصناعة مؤسسات الحكم ومحاسبتها واستبدالها في حالة التقصير عن أداء واجباتها، و وفق هذا المنهج جندت المرجعية كل طاقاتها من أجل حث الشعب، وبروح الأبوة الصالحة الحانية، على المشاركة في بناء وطنه وعدم الاتكال على الآخرين والتقاعس والتراخي في انجاز هذه المهمة الوطنية المقدسة، كما أنها أي المرجعية وقفت وأعلنت بصوت عال و وبوضوح تام لا لبس فيه من أنها تقف على مسافة واحدة من الجميع وأنها لا تدعم جهة سياسية معينة دون أخرى وإنما تركت تحديد ذلك إلى الشعب ليتحمل بذلك كل المسؤولية عن خياراته، ومن دون أن تبخل (المرجعية) عليه بالنصح والإرشاد والتوجيه لحسن الاختيار. إن تداول السلطة وبناء مؤسساتها وفق مبدأ الانتخابات هو الأسلوب الأمثل لإدارة بلد متعدد المكونات كالعراق والطريقة المثلى للحفاظ على وحدته وتوفير الحد الأمثل للعدل والمساواة وإلا فإن بديل الانتخابات سيكون التسلط والتآمر والانقلابات والعودة إلى المربع الأول والحقب المظلمة، وهنا تجدر الإشارة إلى المحاولات العديدة البائسة واليائسة التي قامت بها عبثا وتخبطا وتضليلا، عدة أطراف داخلية وخارجية للطعن بالمرجعية من خلال تحميلها مسؤولية صعود أطراف فاسدة إلى سدة الحكم عبر بوابة الانتخابات، وللرد على تلك الإدعاءات الباطلة يمكن العودة إلى المصطلح الذي على ضوئه بُني تحرك المرجعية وهو الأبوة الصالحة التي تربي الشعب وتثقفه وتحثه على المشاركة وتوجهه لاختيار الأصلح من دون أن يكون لها تدخل في نوعية ذلك الخيار فإن وفق الشعب لذلك فبها وأن لم يحسن الاختيار فإن أبواب التغير مشرعة وتصحيح الأخطاء متاح وكل شيء بيد الشعب لا بيد غيره، وهذا الكلام موجه لكل عاقل فطن ومنصف، أما من كان خلاف ذلك فلا كلام معه.

– فأس تهدم أصنام الفساد: لقد قادت المرجعية معركة الإصلاح ومحاربة رموز الفساد، بطريقة كانت غاية في الحكمة والصبر والأناة والتدرج في إلقاء الحجة وسحب كل المبررات من الأطراف التي تدور حولها شبهات الفساد وذلك لأن هذا الملف خطير وحساس نتيجة لتأثيره المباشر على الوضع الإداري والاقتصادي والتنموي ومن ثم الوضع السياسي والأمني للبلد، وباختصار شديد فهو يؤثر على بقاء الكيان العراقي كدولة، لذا فقد اتسمت طريقة معالجة هذا الملف من قبل المرجعية بأقصى درجات الوعي لطبيعة الظرف وتجنب التأثير السلبي على بقية الجبهات المفتوحة على العراق، فمن جهة يتوجب إيقاف استنزاف العراق، ومن جهة أخرى يتوجب منع أعداء العراق من الاستفادة من هذه المعركة واستغلالها لصالحهم، فكان السير في هذا الطريق أشبه بالمشي وسط حقل مليء بالألغام والمفخخات.

لقد وظفت المرجعية منبر الجمعة الذي يصدح من مرقد الإمام الحسين صلوات الله تعالى عليه في كربلاء المقدسة، من أجل توجيه وإدارة هذه المعركة ومعارك العراق الأخرى، فقد كانت تبث خلال خطب الجمعة وصاياها لكل من المتصدين والشعب وترسم لهم الخطوط والمحددات والمطالب التي ينبغي الأخذ بها لأجل مكافحة الفساد، كما وكانت تشير إلى الجهات التي يتوجب عليها المبادرة بهذه العملية وتبين موقفها من الأطراف الممتنعة عن السير في طريق الإصلاح، وكل هذا تم على مراحل وحسب ما يفرضه منطق الاستجابة والرفض ومبدأ إلقاء الحجة على المعنيين بالأمر، وهنا يمكن للمراقب أن يرصد خمسة مراحل من الخطاب المرجعي والذي اخذ منحى تصاعديا في هذه المعركة، والمراحل هي:

المرحلة الأولى: النصيحة الخالصة، حيث بدأت بعد أن تشكلت أول حكومة دائمة فكان الخطاب واضحا وموجها لكل من تسنم المسؤولية، ولكن كانت استجابة الجهات السياسية المتصدية للعمل السياسي والمشاركة في الحكومة وصنع القرار، استجابة متكبّرة ومتعالية على سماع هذا النصح وكأنهم يقولون في سرهم: وهل مثلنا من تقدم له هذه النصائح وقد جئنا من أحزاب وتيارات إسلامية نعرف فيها الحلال والحرام؟!

المرحلة الثانية: إعادة تذكير الجهات المتصدية بالنصيحة وذلك بعدما صموا وعموا عن السماع والنظر في أهمية هذا النصح وهنا كانت الاستجابة عبارة عن خطابات شكلية وإجراءات إعلامية مضللة للرأي العام لم تقترب إطلاقا من رموز الفساد ولا من حصونهم المنيعة ولم تفتح أو تعالج أي قضية فساد.

المرحلة الثالثة: الإنذار والتحذير من خلال تشخيص الجهات التي كانت وما تزال سببا لهذا الفساد والانحراف، حيث قامت بحث رأس الجهاز التنفيذي على الضرب بيد من حديد على تلك الجهات ومحاسبتها قبل فوات الأوان، وأحدث الخطاب هزة واضحة في أركان المنظومة السياسية المعنية به وبدأ جو من التوتر والقلق ينتاب رموز هذه الجهات وبدأت تفكر في كيفية التخلص من هذا المأزق الكبير وذلك بعدما تورطت وعلى مدى أعوام طويلة في عملية الفساد مما جعلهم في حالة من التلازم الوجودي مع الفساد فوجودهم صار مرهونا بوجوده ونهايتهم مرهونة بنهايته، وهنا وبالرغم من عملية الالتفاف والضغط التي مارسوها على هذه المطالب، إلا أن ما أصابهم من ذعر وارتباك وتضعضع، يعتبر موقف متقدم لصالح الحركة المناهضة للفساد بقيادة المرجعية.

المرحلة الرابعة: التوبيخ والتقريع بالصمت والإعراض عنهم وذلك بعدما بحت الأصوات بالنصح والتوجيه من دون استجابة ملموسة، وهذا ما أحدث زلزالا كبيرا في أطراف العملية السياسية واضطرابا عنيفا مما سبب تبادل الاتهامات وتصدع التحالفات المعقودة فيما بينهم وانهيار التفاهمات المبنية على تقاسم المصالح واستنزاف الموارد، مما ساعد في حدوث شروخ كبيرة في المنظومة المسؤولة عن الفساد وهو موقف متقدم لصالح محاربة الفساد.

المرحلة الخامسة: التنكيل المباشر بهذه الأطراف المشكّلة لمنظومة الفساد والشكوى إلى الله تعالى من أعمالهم، حيث جاءت هذه المرحلة بعدما ران على قلوبهم واستعصوا على الهداية والرشاد، وهو ما عزز حالة الانقسام الكبير في منظومة الفساد و وسع الشروخ فيما بينهم وسحب بساط الشرعية منهم، وسرّع بظهور النزاعات والاتهامات بالفساد وكشف الملفات المتبادلة وإزالة الأقنعة بعدما كانوا يعيشون في أبراجهم المحصنة بالشرعية ومتسترين بعباءة الدين وخطابات الشرع المقدس, إن تفشي الصراع بين تلك الأطراف قد سرّب الضعف إلى كياناتها وأدى إلى محاصرتها من قبل الرأي العام وإسقاط كافة الذراع والحجج من أيديهم، وهو موقف متقدم كبير آخر ما كان من الممكن الوصول إليه لولا صبر ومثابرة وثبات المرجعية في هذه المعركة وعزمها على الانتصار فيها لصالح الشعب والوطن. ولازالت المعركة مستمرة ولازالت الآمال معقودة على الله تعالى أولا وعلى المرجعية في قيادة هذه الحرب الكبيرة ضد الفساد ورموزه ولازالت الإرادة ثابته بإزاحتهم ولازال الأمل بالنصر راسخا لا يتزحزح.

– سيف يقطع دابر الإرهاب: إن مواقف المرجعية المتواترة من العفو والصفح عن المسيء وإطفاء نيران الفتن والصبر عند الشدائد وكظم الغيظ والإغضاء عن الأذى والتشديد على الوحدة الوطنية، قد بلغت من الحد أن ظن العادي إنّ هذا كله من الضعف والخوف والاستكانة الذي ينتاب المرجعية وجموع الشعب المؤمن، فسولت له نفسه أن يجمع فلوله ويهجم هجمةً شرسةً على العراق في يوم عز فيه النصير وتخاذل فيه القريب والبعيد وانكشف فيه الخور الفاضح في المؤسسات الأمنية والعسكرية التي بنتها الحكومة، فما كان من المرجعية إلا أن تنهض كالأسد المغضب في ساعة العسرة، وتصول برجالها وحشدها المقدس من أبناء العراق البررة عبر فتوى الجهاد الكفائي المقدسة، لتسحق جموع العدوان وتطحنهم طحنا في معارك العز والشرف ليعلو عندها صراخ العدو وعويله ويتردد صداه في دول التآمر وعواصم العدوان، وسط دهشة العالم بأسره.

لقد كشفت هذه المعركة العادلة التي فرضتها قوى الإرهاب العالمي على العراق وهي كما يقال الضارة النافعة، كشفت عن وجه آخر ناصعا من وجوه القيادة المرجعية وأظهرت المزيد من ملكاتها الفريدة وأبرزت أهليتها وقدرتها على إدارة الملفات الكبرى والعمل بثبات وصبر وشجاعة في الأزمات التي تعصف بالأمة والمحن الخطيرة التي تداهمها، ففي الوقت الذي ينكص فيه الجميع وبما فيهم الرؤوس المتربعة على هرم المسؤولية وتتفرق الجموع ويصمت المدّعين عند ساعة الشدة والضر، تنهض المرجعية كالطود الشامخ نهضةً يتفاجئ بها القريب ويصدم بها البعيد ويذهل بها المتابع، لتذود عن الأمة وتدفع عنها الخطوب والمحن وتأخذ بيدها بعيدا عن موارد الهلكة، وهي على هذا الحال حافظة لحدود الشرع ومتبعة للسنن الحميدة والأخلاق الكريمة لا تؤثر هوى على رشد ولا تركن للباطل دون الحق، تسير بهدي الأوصياء الأوائل صلوات الله تعالى عليهم أجمعين واثقة بنصر الله وحسن وعده لعباده الصالحين. وفي الوقت ذاته فقد كشفت هذه المعركة حقيقة الأغلبية التي يتشكل منها الشعب العراقي وطيبة عنصرهم ونفيس معدنهم وكريم سجاياهم وحقيقة انتمائهم المصيري والوجودي والوجداني إلى هذا الخط العظيم يوم التفوا حول قيادتهم الحقيقية الشجاعة، وهم الفقراء والمعدمين والعزّل إلا من الإباء والحمية والشجاعة والبطولة والنخوة والتضحية في سبيل الله والمقدسات والوطن، فكانوا بحق أبناء بررة للمرجعية وللوطن، وازدهت بفضل بطولاتهم أيام العراق رغم المآسي وجسامة التضحيات، وعادت حمى الوطن ومقدساته محفوظة ومصونة على أيديهم وببركة دمائهم الطاهرة. ■■

عدد الزوار: 253

معلومات الاصدار

الناشر: مركز فجر عاشوراء الثقافي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *