مقابلة مع السيد غير شبر حول المشروع الرجالي الكبير

نشرت هذه المقابلة في مجلة فجر عاشوراء الثقافي العدد 4و5

اجرت مجلة فجر عاشوراء مقابلة مع الباحث الفاضل السيد غيث شبر حول مشروعه الرجالي الكبير في خدمة كتاب الكافي المعنون بـ (الوافي).

فجر عاشوراء: هل من الممكن أن تعرفنا بالضبط على مضمون الكتاب بأقصر كلمات ممكنة؟

ج: لا يخفى أن من أهم الكتب التي جمع فيها أصحابنا روايات الأئمة (عليهم السلام) هو ما يسمى بكتاب الكافي الذي استغرق مؤلفه عشرين عاما لجمع تلك الأحاديث من مظان مختلفة فاحتوى قرابة ستة عشر الف حديث، وكتابنا الذي اسمه الوافي مسؤوليته تحقيق صدور تلك الأحاديث من جهة المعصومين (عليهم السلام) وذلك بتتبع الطرق والوسائل كافة كجمع القرائن السندية ومقارنة المتون والتدقيق في شأنها من أي تصحيف وقع وجرى خلال الألف والمائة سنة الماضية على الكتاب، فهدف الكتاب باختصار أن يحدد في كل حديث نسبة الوثوق به وبصدوره من المعصوم (عليه السلام).

فجر عاشوراء: ألا تخشى أن يتطرق إليكم النقد فقد سبقكم إلى هذا مجموعة ممن فند وضعف معظم أحاديثنا، وانتهى به الحال إلى العزلة العلمية؟

ج: بالعكس، فالكتاب هو رد على من ضعف الكافي كله، أو معظمه، نعم قد يظن لأول وهلة أن كتاب الوافي في تحقيق أسناد كتاب الكافي الشريف هو كتاب من ضمن تلك الكتب التي تحاول قدر الإمكان النيل من قيمة التراث الحديثي، بإعمال القواعد الرجالية الصارمة، مما يفضي بالنهاية إلى إلغاء صدور كثير من أحاديثنا، لكنه ظن ليس في محله أبداً.

فالذي يجب أن يعرف: أن هذا الكتاب إنما هو رد على من شكك في كثير من أحاديث كتاب الكافي، ولتوضيح الأمر أكثر ينبغي أن يكون معلوما أن في البين مدرستين على طرفي نقيض في التعامل مع التراث الحديثي، المدرسة الأولى هي تلك المدرسة التي تعاملت بصرامة بالغة، وبمنطق أرسطي، وبرياضيات خاطئة، مع علم الرجال، من غير أعمال الدقة المطلوبة في البحث الرجالي، بحيث أغفلت كثيرا من المتغيرات في المعادلة، فأنتجت نتاجا عقيما تمخض عنه عدم العمل بأكثر الأحاديث، وإعدام الجزء الأكبر من تراثنا الحديثي، ولا يخفى خطورة هذا الأمر في قطعنا على تعاليم أئمتنا (عليهم السلام).

وهروبا من تلك المشكلة ـ وبدلا من معالجة الطريقة التي أدت إلى هذا الأمر وإصلاحها ـ فرَّ قسم من العاملين في هذا المجال من هذه الرمضاء، وظهرت معالم المدرسة الثانية بشكل أكثر وضوحا نتيجة لذلك، ولكن هذه المدرسة هي الأُخرى أفرطت إفراطا مبالغا فيه، فحاولت إثبات صدور الاحاديث بكل وسيلة، من غير النظر الموضوعي، وتفاوتت أقوالهم: بين من قال بصدور كل الاحاديث المودوعة في كتبنا الواصلة، وبين اختصاص ذلك في الكتب الأربعة، وبين اختصاص ذلك في الكافي دون غيره، وبين من قال بوثاقة كل الأحاديث التي وصلت إلينا، وأعملوا تلك القواعد الرجالية الصماء فقط فيما تعارض من الاحاديث، وقبلوا أحاديث الكذابين وأضرابهم، وبأقل مرتبة من مراتب ذلك الإفراط عمل قوم بطريقة تشم منها رائحة عدم الموضوعية، فتوسعوا في طرق التوثيق وضيقوا في طرق التضعيف، حتى وثقوا الناس لأدنى ملابسة، واهملوا تضعيفات علمائنا الأولين ممن عاصر هؤلاء الضعفاء أو من قارب عصورهم بأضعف الحجج، وأهون الأدلة،  وتصورا أنهم بعملهم هذا أنهم إنما ينقذون تراثنا، وهم في عملهم هذا ـ غفر الله لهم ـ إنما ينسبون إلى أهل البيت ما تفوه به الكذبة والمحتالون من حيث لا يشعرون.

وبدلا من هذا التفريط والإفراط المخلين؛ إذ نتيجة الأول تغييب الكثير من أقوالهم (عليهم السلام)، ونتيجة الثاني نسبة ما ليس لهم إليهم (عليهم السلام)، كان ينبغي إتعاب النفوس، وشغل الأذهان بإصلاح الخلل وترميم الدواء، لا التخيير بين منع المريض من الدواء، أو إعطائه أي دواء وجدوه في طريقهم، فالطريقين أحدهما أخطر من الآخر.

وكل هذا إنما ظهر بسبب عوامل، أهمها ثلاثة، هي:

فقدان الذاكرة الاجتماعية وإهمال التاريخ. وعدم النظر الدقيق الثاقب في علم الرجال. وعدم قراءة كتب تراثنا بالدقة الكافية.  وإلا لو راعى الباحث هذه الأركان الثلاثة؛ لبانت الطريق السالكة لمحققي الصدور.

بيان ذلك:

إن إهمال قراءة التاريخ بحجة أن التاريخ إنما كتبه اتباع السلاطين، أدى إلى أمر خطير في المنظومة المعلوماتية للعاملين في الحديث، فإني أُشَبِّه من لا يعرف التاريخ كفاقد الذاكرة، فالعامل في التراث ينبغي أن يهيئ نفسه لأن يعاصر ذلك التراث، ويعيش معه في كل أزمانه وآناته، فالشخص الذي يريد أن يكتب أو يبحث في الدين أو تراثه وهو لا يعلم ما جرى في الماضي هو كشخص فاقد للذاكرة يريد أن يكتب عن نفسه وهو في الخمسين! فلن يفهم نفسه وما يجري الآن كما يفهم نفسه وما يجري عليها الآن من لم يفقد ذاكرته ومن تجمعت وتراكمت لديه معلومات الماضي، والواقع المؤلم أننا كمجتمع نعاني بشكل فضيع من فقدان الذاكرة والجهل بالتاريخ، ولا أقصد بالمجتمع عامة الناس، بل المجتمع العلمي الذي يتعامل مع النصوص والتراث الحديثي، هذا هو الركن الأول.

أما الركن الثاني، فإنه ينبغي أن يدرك الكثير أن علم الرجال علم اجتماعي، وليس علما رياضيا أو تقنيا، والعلوم الاجتماعية تفرق عن العلوم الرياضية بأمور عدة، ومن أهمها أننا لا نستطيع إجراء المعادلات الرياضية بسهولة في العلوم الاجتماعية والاستنتاج منها؛ لأن المتغيرات أكثر من أن تحصى فيها، وأن العلوم الاجتماعية تهتم بالجزئيات كثيرا بما يفوق اهتمامها بالكليات، على خلاف الرياضيات التي تهتم بالقواعد الكلية وتطبيقاتها، ولعدم إدراك تلك الحقيقة، أو التغافل عنها، أو للاشتغال بالعلوم العقلية الصرفة ـ أو التي يسمونها عقلية ـ والبعد عن الواقع الحديثي والاجتماعي لرواة الحديث، تعامل قوم مع الحديث والرجال بتلك الطريقة، وكأنهم يزرعون النخيل في بلاد الشمال، وليس الفريق الأول ممن وقع ضحية هذا، بل الفريقان ممن ابتلي بهذا الداء العضال، والتباساتهم وشطحاتهم أكثر من أن تحصى.

وأما الركن الثالث، فإنه ينبغي أن يعلم أن التتبع الحثيث، والنظرة عن كثب لمتون الأخبار وأوصاف الرواة، والهيمنة على تسلسلات الأسناد وتكررها، ومتابعة المخطوطات القديمة، ومزاولة النسخ والاستماع والتلقي كما كان يفعله الرواة ويعيشونه؛ مما يكشف للباحث الكثير من الخفايا المخبأة، ولعمري لا يعلم متعة ذلك إلا من مارسه، فتنكشف له التصحيفات، وتتضح له الطبقات، وكم من حديث يتصوره القوم هونا ضعيفا، ولا مجال ـ حتى للمتساهلين في أمر الإسناد ـ لتصحيحه وفق التعامل السندي المعروف، فتتضح صحته ويطمأن بصدوره، وكم من حديث يصح سنده فينكشف غلطه وتتبدد وثاقته.

أما نتيجة تلك الطريقة، فكانت مذهلة فعلا، فعلى سبيل المثال لا الحصر، ومن جهة العد والحساب فحسب، لاحظنا أننا أثناء عملنا في تحقيق روايات كتاب الحجة في الكافي ـ ولم نكمله بعد ـ قد قلنا بالوثوق باعتبار 76% من الأحاديث التي فرغنا من تحقيقها، بينما كان المجلسي (رحمه الله) قد أشار إلى عكس تلك النسبة فقال باعتبار 29% منها!!.. ولذلك لما ضاقت به السبل تراه (قدس سره) التجأ إلى أن الكل صادر إلا عند التعارض فيعمل بالسند.

فجر عاشوراء: كم جزءا صدر من هذا الكتاب، وكم جزءا بقي؟

ج: صدر منه ثلاثة أجزاء، ولا زلت في الرابع، أما عن إكماله، فهو يحتاج إلى التوفيق من الله جل وعلا، فهو يحتاج بعد إلى أربعين جزءا أو نحوه لإكمال الكافي كله، ولذا فهو ليس لهذا الجيل بل لأبنائنا إن وفقني الله لإتمامه.

فجر عاشوراء: مركز المرتضى لإحياء التراث هو الناشر لكتبكم وهو اسم جديد في عالم النشر هل من الممكن أن نعرف عنه شيئا؟

ج: هو اسم جديد فلم يقض من عمره أكثر من ست سنين، لكن نتاجه كثير بالنسبة إلى عمره، فقد قدم العديد من الأعمال كتحقيق بعض المخطوطات الهامة التي لم تطبع كمخطوطة الأنوار الغروية في شرح اللمعة في عدة أجزاء وهو من الكتب المهمة خاصة لمدرسي كتاب اللمعة في الحوزة المباركة، وكذا اخرج إلى النور بعض المخطوطات الأصولية التي لم تر النور بعد ككتاب المحصول للمقدس الأعرجي (قدس سره) الذي ينبغي مؤكدا للعاملين في علم الأصول التوقف كثيرا عنده، وغيره من كتب الأصول والفقه، إضافة إلى ما قام به من دورات لتعليم التحقيق لتنمية كوادر مستقبلية لهذا العمل في المستقبل، والشكر من بعد الله لسماحة السيّد أحمد الصافي الذي يقدم رعاية منقطعة النظير للباحثين ولمراكز البحث العلمي حفظه الله من كل سوء.

فجر عاشوراء:  ما هي ردود الأفعال وخاصة يقال أن مجتمع الحوزة مجتمع متشدد وأن المؤلف سيلقى عند تأليفه معاناة شديدة؟

ج: أحب أن أوضح أمورا في هذا الصدد.

الأول: الحوزة مجتمع علمي، ومجتمع علمي صارم في تقديره للعلم، فكل عمل دخيل على العلم يلقى هجمة شرسة من اتباع العلم، لكن إن شعر أهل العلم أن هذا المنتج أو ذاك من المنتجات العلمية التي خضعت للمعايير الدقيقة، فإنك لا تدرك كمية الدعم المعنوي التي ستقف خلفك لتدفعك لإتمامه، وقد شملني أساتذتي وزملائي وطلبتي بعناية بالغة منقطعة النظير وتوفير السبل لإتمام الكتاب، من توفير المخطوطات القديمة والمصادر والمراجع، وإبداء النقد وبيان ما وقعت فيه من أخطاء على كافة الأصعدة، للارتقاء بمستوى الكتاب، بل والحث والدعاء على إكمال العمل، وكم أحمد ربي أن شملني برعايته أن أكون جزءا من هذا المجتمع العلمي الرائع الذي لا تجد نظيره في أرضنا هذه، حيث غاب فيه الحسد، وكثر فيه الإيثار، وفقهم الله لما يحب ويرضى ودفع عنهم كل سوء.

الثاني:  مع الصرامة العلمية الشديدة للحوزة في القبول وعدمه فمجتمع الحوزة يمتلك موضوعية قد تخلو بقية الأوساط العلمية منها، فالدليل هو القائد، والنظر العلمي هو الرائد، وكم من نقاش وجدل قد ينتهي بأن يحاول الخصم في نهاية المطاف أن يأتي بأدلة لمناظره توخيا للموضوعية، ومن هنا فالكتابة في هذه البيئة تضفي نوعا كبيرا من الطمأنينة للكاتب الذي يتوخى الموضوعية في بحثه.

الثالث: الحرية الفكرية التي في أوساط الحوزة العلمية لا تكاد تجد نظيرها، ولكن الحرية هنا لا تعني العبثية والعشوائية والفوضى، بل الحرية العلمية هي أن تكتب وتبحث أي موضوع ترغب ببحثه و أن تصل إلى أي نتيجة هي مفاد الدليل بقيد أن يكون البحث وفق المقاييس العلمية الصحيحة، سواء خالف أو وافق أيا كان، وفي أحيان كثيرة يوجه الكثير تهمة عدم الحرية في حركة البحث العلمي في الحوزة المباركة إلا أن الحوزة براء من هذه التهمة، فها أنا ذا اكتب في كتابي قال السيّد الخوئي وقال مرجع الطائفة السيّد السيستاني وقال فلان وفلان وهم من أعاظم علمائنا (قدس الله أسرار الماضين وحفظ الله الباقين منهم)، وأوجه النقد لهم ولأساتذتي وهم فرحون بالنتاج الذي أقدمه، وإن كانوا لا يوافقونني الرأي، بل حتى أساتذتنا حفظهم الله اعتادوا مناقشة آراء أساتذتهم الأحياء منهم والأموات، وما ازدادوا بهذا إلا تقديرا ورفعة، فمن يكتب ضمن المعيار العلمي لا يخشى من أهل العلم، ولما كان الكثير من المنتمين للحوزة من أهله كان الكاتب في مأمن مما يخافه الكُتّاب.

ولذا كانت ردود الأفعال متلخصة باتجاهين: أولها الدفع والحض على إتمام العمل، وثانيها محاولة نقد الكتاب بشكل موضوعي وبيان ما وقعت فيه من هفوات أو أخطاء، حتى أنني استفدت من الجانب الثاني أكثر مما استفدته من الجانب الأول؛ حيث كان له الأثر البليغ في تغير أسلوب الكتاب من جزء إلى آخر، وكله ببركة ما قدمه زملائي وأساتذتي من نقد ترشح عنه مزيد دقة فيما أكتب، وبفضل الله ذلك كله.

 هل هناك جديد في الكتاب أم إنه لا يعدو نقلا لما في كتب القدماء كما هو الحال في اغلب ما نراه في التأليفات الرجالية؟

ج: نسبة الجديد متفاوتة بين كتاب وآخر، ففي الجزء الأول كان هناك القليل من الجديد، أما الجزء الثاني فقد حوى كمية أكبر منه، فإني قد آليت على نفسي أن لا أترجم لرجل إلا وأحاول قدر الإمكان الخروج بجديد فيه، وأما الجزء الثالث فقد كثر فيه الجديد على سابقه، ولعل الرابع يكون كذلك بالنسبة إلى سابقه، والله هو المعين.

فجر عاشوراء: ما نوع الجديد في كتابكم؟

ج: هناك أصناف متعددة، فمن ناحية القواعد الرجالية أضفنا طريقة جديدة في التوثيق هي التوثيق الفطري، وهي تتلخص في استكناه طرق التوثيق عند البشر واستحصال المناط المسؤول عن تواجد الوثوق بالنفس، ثم محاولة تطبيقها على الرواة مباشرة بغض النظر عن الرجوع إلى توثيقات القدماء أو غيرها من أنواع التوثيق، ومنها أيضاً الكلام في حجية التسلسل السندي، وأيضاً في أنواع التصحيف الحاصلة في كتب القدماء ومحاولة تصنيفها ولو بشكل مبعثر في أجزاء الكتاب المختلفة، بل وإطلاق تسميات على نوع التصحيف؛ لغرض إحصائها بشكل علمي، وغير ذلك من قواعد كلية، ومن ناحية جزئية فقد تم الكشف عن كثير من الالتباسات في فهم عبائر القدماء وما وقع فيه الكثير من الباحثين في سوء فهم لها، وأيضاً تفسير بعض الكلمات الغامضة، بل وكشف التهافتات الكثيرة في ما نجده في بعض الكتب ككتاب ابن حجر حيث جاس وحاس ونقل منه الكثير من أصحابنا من غير روية ولو تريثوا لضحكوا كثيرا من تهافتات ما ينقله عن علي بن الحكم، وأيضاً تم تصحيح بعض الأسناد التي اتفق الكل على ضعفها بطريقة تصحيح تقترب إلى القطع عند الممارس منه إلى الوثوق والاطمئنان، وتوثيق مجموعة من الرجال الذين غفل عن حالهم، وتحديد طبقة كل رجل وزمنه وفي هذا أيضاً ظهرت لنا الكثير من سنوات الوفاة التي لم تكن معروفة عند أوساط الرجاليين كسنة وفاة ابن أبي يعفور وكونها 131هـ  وحمران بن أعين وكونها سنة 130هـ واستكشاف سنة وفاة الفضل بن شاذان من كونها 259هـ وغيرها كثير، وأيضاً لعل من الجديد المهم هو نقل آراء مرجع الطائفة السيد السيستاني (دام ظله)، إذ تخفى على الكثيرين، ولعلي في الأجزاء القادمة أقدم شيئا أكثر من الجديد ببركة دعوات الخيرين إن شاء الله تعالى.

 

عدد الزوار: 264

معلومات الاصدار

الناشر: مركز فجر عاشوراء الثقافي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *